المنوعات

أعظم مائة كتاب غير أدبي: 9 ـ الرسائل

01 فبراير 2017
01 فبراير 2017

روبرت مكروم -

إعداد: أحمد شافعي -

برغم أي تقدم من أي نوع، لا تزال الإنسانية تعيش وتموت إما في الحرب أو في السلام، وهذه حقيقة لا يملك الأدب إلا أن يعكسها. فلا يزال المجال مفتوحا أمام كتاب عظيم في الحرب مثل «الرسائل» (الصادر لمايكل هير سنة 1977)، فهو شأن سوابق له من تأليف كتاب من هوميروس إلى همنجواي، يبدو كما لو كان يبدأ من منتصف الكلام ملقيا بقرائه في خضم منطقة حربية قبل أن يتسنى لهم اتخاذ وضعية الدفاع:

«كانت لفيتنام خريطة معلقة على جدار شقتي في سايجون، ففي بعض الليالي، كنت أرجع متأخرا من المدينة، فأستلقي على فراشي ناظرا إليها، وقد بلغ الإنهاك مني أني كنت أفقد القدرة على عمل أي شيء يتجاوز خلع حذائي. تلك الخريطة كانت أعجوبة، لا سيما في ذلك الوقت الذي لم تعد لها فيه أي مصداقية واقعية.»

بوصفهم زوارا لمكان لا يمكن رسمه في خريطة («فعلى مدار سنين لم تكن من بلد هنا إلا الحرب») لا بد أن يتأقلم قراء مايكل هير بسرعة مع تجربة فيتنام العبثية سنة 1967، وكأنما لا خيار لهم، فالحرب رحاها دائرة.

حالة من الإحساس بالخطر تشيع في السرد الذي يكتبه هير، لتجعل كل سطر في الكتاب مهدَّدا بمقاطعة من لغم ينفجر، هناك أيضا نبرة هير الآسرة، ولعل أعظم إنجازات كتاب لا يزال بعد قرابة أربعين عاما من صدوره يمثل السرد النهائي للحرب في زماننا، لا سيما حرب فيتنام التي تعد من أبشع حروب عصرنا. مستلهما مثال الصحافة الجديدة التي سادت في الستينات من القرن العشرين، يأتي صوت هير (بعد صوت توم وولف وهو صاحب الكتاب السابع في هذه السلسلة «المادة الصحيحة») صوت مونولوج داخلي مطعَّم بشذرات من الروك آن رول ولغة الحياة اليومية الأمريكية:

«ما كدنا نحلّق أعلى قرية صغيرة تعرضت للتو لضربة جوية حتى ترددت في رأسي أغنية لـ ويني مانون كنت قد سمعتها وأنا صغير، ’أوقفوا هذه الحرب، هذه القطط تقتل بعضها بعضا’. ثم انخفضنا، وحمنا، واستقررنا في منطقة الإنزال الأرجوانية، ومضينا ندخن، وقد اندفع باتجاهنا عشرات الأطفال، بينما الطيار يضحك ويقول: فيتنام يا صاحبي. اقصفهم وأطعمهم، اقصفهم وأطعمهم».

بجانب الخطر الدائم والنبرة التي لا تنسى في الرسائل، هناك أيضا تعاطف مايكل هير مع الرجال المقاتلين وفهمه لأنفسهم. بفضل غوصه المتهور في الحرب في إحدى أشد لحظاتها جنونا، وعمله صحفيا لمجلة أثناء هجوم تيت سنة 1967 وما أعقبه، يقبض الكاتب على مزيج الشرف والجنون والمخدرات، باسطا ذلك كله على الصفحة في مزيج آخر شديد الندرة من الدقة والمحبة حتى ليخطر لك كقارئ أنك أنت نفسك كنت هناك. وأخيرا، كأنما ذلك كله لم يكن كافيا، فإن هير في فيتنام كاتب ممتاز (ومن أسف أنه لم يكتب بعدها):

«في سايجون لم أكن آوي إلى فراشي إلا فاقد الوعي فلم أتذكر من أحلامي أي شيء».

ولعل بعضا من أفضل وأشهر فقرات كتاب هير هي التي تبدو أقرب إلى الهلوسة، بل إن منها ما هو وصف رجل سكران عالق في الجبهة فكأنه من شخصيات فيلم «Apocalypse Now» الذي شارك هير فرانسيس كوبولا في كتابته:

«مستلقيا هنالك أتابع دوران مروحة السقف، مادا يدي إلى صرصار بدين جالس فوق ولاعتي [والصرصار هو الجزء المتبقي من سيجارة محشوة بمخدر]. في بعض الصباحات أبدأ التدخين حتى قبل أن أضع قدمي على الأرض. أمي العزيزة، أنا مسطول من جديد. في المرتفعات، حيث يقايض الجبليون حشيشا أسطوريا بعلبة سجائر، دخنت مع بعض جنود المشاة منذ اليوم الرابع ...»

والرسائل ليس مجرد كتاب جميل مؤلم، بل كتاب يعرف أنه جزء من سجل تاريخي، وأنه واقف على أرضية التاريخ، وإن لم يكن أحد على يقين من الموضع الذي توجد فيه جذور المأساة. يكتب هير أنه «يحلو لمفكري الحرب أن يشيروا إلى سنة 1954 باعتبارها التاريخ المرجعي، ولو أنكم أرجعتم البصر إلى الحرب العالمية الثانية والاحتلالات اليابانية فأنتم على بصيرة تاريخية». لكن الحرب بالنسبة للولايات المتحدة بدأت بالدرجة الأساسية في عام 1961، أو عام 1965، بعد قرار تونكين، وبالنسبة لهير بدأت سنة 1967 حينما أصبح مراسل مجلة إسكوير الحربي المقيم في سايجون. يكتب أن «الإقامة في سايجون أشبه بالإقامة وسط بتلات مغمضة لزهرة سامة، وتاريخ سام، مقيد بجذوره مهما أردت أن تمضي في طريقك».

عمل هير مع مصور الفوتغرافيا الإنجليزي تيم بيج، ومع شين ابن إرول فلاين الذي فقد أثره أثناء مهمة، ومضى هير يقترب من المناطق الحربية، مخاطرا أكبر المخاطرات، جانحا في شتاء 1968 إلى خي سانه أثناء حصارها سيئ السمعة (وتقع في قلب الرسائل قطعة ممتازة عن الحصار) ناجيا برغم العقبات. وبقي هير عالقا في فيتنام حتى عام 1969، ثم رجع إلى نيويورك حاملا ركاما من الملاحظات وكهف وطاويط ممتلئ بالذكريات المسمومة. وفي غضون ثمانية عشر شهرا من رجوعه إلى الوطن، كان غارقا في حالة اكتئاب أصابته بالشلل، فلعل كتابة الرسائل كانت جزءا من طريق خروجه من الجحيم.

كانت النتيجة كتابا صدر سنة 1977 فتمنى كل صحفي حربي ـ من جون لو كاريه إلى روبرت ستون ـ لو كان هو مؤلفه. قورن بين الرسائل وكتب مثل «شارة الشجاعة الحمراء» و«كل شيء هادئ على الجبهة الغربية»، ولكن هذا الكتاب كان مختلفا. كان كتابا لكاتب لا لجندي، وكانت حساسية الكاتب هي التي جعلت الكتاب آسرا لجيل كامل من القراء. لقد كتب أحد أبناء الصحافة الجديدة وهو هانتر طومسن عن المهنة فقال «لقد قضينا عشر سنين نحاول أن نشرح ما جرى لرؤوسنا وحيواتنا في ذلك العقد الذي تجاوزناه أخيرا، ثم جاء مايكل هير بـ الرسائل ليطغى علينا جميعا».

وهنا في المملكة المتحدة التي عاش فيها مايكل هير لفترة في الثمانينات، كان من المنطقي للصحفيين الحربيين من أمثال زميلي في أوبزرفر «إيد فوليامي» أن يتعرفوا على هير. يقول فوليامي إن «كل كاتب جرَّب يده في الصحافة الحربية كان يذهب لمقابلة هير مثلما يذهب أي دارس لآلة التشيلو متقربا من مستيسلاف روستروبوفيتش. وبعيدا عن التعلم بالإنصات، فإن من المهم لكل صحفي حربي أن يجد أن في حماقاته ومخاوفه صدى من أمثالها عند مايكل هير».

والآن في القرن الجديد، والأفق السياسي الجديد، يبدو وكأنما لم يتغير أي شيء. ومثلما يكتب مايكل هير في إحدى فقرات الكتاب الجميلة أن الجيش الأمريكي «استولى مجدَّدا على الأرض، بسرعة، وبثمن باهظ، وبذعر تام وقرب شديد من القسوة. آلتنا الحربية كانت فتاكة، ومستشرية، وقادرة على أي شيء، إلا على التوقف».