الملف السياسي

إعادة رسم الأدوار والمستقبل السوري

30 يناير 2017
30 يناير 2017

حنا صالح - كاتب سوري -

بات مؤتمر «آستانة» المحطة الأهم في تاريخ النزاع في سوريا. وهو ما كان ليتبلور كموعد نهائي ومشاركة وأهداف، لولا الانتصار المفصلي في حلب، الذي منح الروس الكلمة العليا، وربما كانت هذه المحطة، الهدف المرحلي الذي وضعته موسكو أمامها، من لحظة بدء تدخلها العسكري الواسع في سوريا. يبدو أن هذا الهدف يتزامن مع مؤشرات عن قرب انتهاء العمليات العسكرية، وتكريس مؤقت لمناطق نفوذ وأحجام وتوازنات.

من «جنيف» إلى «فيينا»، كان يتم على الدوام، تقديم البحث عن أُسس لحل سياسي يفضي إلى وقف للمعارك، وفشلُ هذا المنحى، مثّل النتيجة للبعد عن الواقع الميداني، وعكس عدم نضوج رؤية صلبة لإطلاق مشروع يُبنى عليه. في مرحلة «آستانة» الحالية أصبح المنطلق وقف إطلاق النار بين الأطراف الفاعلة على الأرض، وبالتالي عزل القوى الإرهابية التي تحددت بـ «فتح الشام» (النصرة) إلى جانب «داعش»، ما سيفتح الطريق أمام مفاوضات سياسية، يرجح أن تكون أكثر موضوعية من كل ما سبقها. بهذا السياق تُقرأ عبارة الوزير الروسي لافروف أن « أحد أهداف لقاء «آستانة» هو أولا تثبيت وقف إطلاق النار»، مضيفا أن اللقاء «سيسمح بمشاركة قادة للمقاتلين على الأرض في العملية السياسية». هذا الأمر أدركته بدقة المعارضة السياسية، التي شكلت مجموعة استشارية لمساعدة الوفد العسكري المفاوض، وقررت الصعود إلى القطار، وقد أكد القيادي المعارض د. نصر الحريري العضو في المجموعة الاستشارية أن «الفصائل والائتلاف والهيئة العليا في حالة توافق تام حول الذهاب إلى «آستانة» وليست العبرة بمن سيذهب فالجميع ملتزم بوقف النار». تحقيق وقف إطلاق نار شامل وآليات التحقق منه، أولوية مطلقة أمام المؤتمرين في «آستانة»، ما سيفضي تباعا إلى تثبيت الوضع الميداني، وبدء وضع أُسس مرحلة التفاوض السياسي، التي وفق الرؤية الروسية يجب أن تقود لإقامة حكومة وحدة وطنية ذات صلاحية. وهذا يعني بلورة الجهات الأكثر تمثيلا للفصائل والمعارضة السياسية، وإعادة نظر بالجهات التي ستمثل الحكم السوري، بعد الإقرار الواقعي من جانب النظام بأن هناك شركاء سياسيين في سوريا ، وليس كل من انتفض بوجهه إرهابيا، بل يحمل هؤلاء الشركاء مطالب تعبر عن مصالح شرائح واسعة من السوريين، وتعبر عن عمق الأزمة السابقة للحرب، والتي تفاقمت وباتت أكثر خطورة بعد أكثر من 6 سنوات على بدء جلجلة الدم والدمار. وحتى لا يكون هناك أي التباس، فإن التسوية التي يُعمل عليها، ليست الحل العادل المنشود، للمطالب التي حملها البركان السوري الذي هزّ بقوة كل إرث المرحلة السابقة . هذه المرحلة الجديدة سينجم عنها حتما تراجع في حصار المناطق، وطبعا فإن صفحة الاقتلاع والتهجير والتغيير الديموغرافي ستتوقف، أي أن الحصار الجدي سيتم ضد مخطط الهيمنة على سوريا. السيناريو على الورق مشغول بدقة، والخطة الروسية، بحثا عن نفوذ استراتيجي ومصالح، طموحة جدا، وتحضير المسرح لصفقة العصر مع الإدارة الأمريكية الجديدة يتواصل على قدم وساق، ورؤية موسكو المدعومة من أنقرة، ستقود إلى جنيف في الموعد المحدد، وربما بعده بقليل ، لكن مع جدول أعمال مختلف، وتعديل كبير في الصيغة التمثيلية للمعارضة والفصائل المسلحة. لكن ما يجدر التوقف عنده هو اتساع الهوة بين موسكو وطهران حيال التسوية وعناصرها.

الثابت أن إيران سعت للانطلاق من انتصار حلب لمتابعة الحسم العسكري، وماطلت بشأن إخراج مسلحي حلب، لكن الإصرار الروسي المنطلق من محاذرة الغرق في المستنقع السوري، ورفض مواصلة القتال إلى ما لا نهاية، والجدية في الذهاب إلى اتفاق سياسي فاجأ الإيرانيين، الذين أثاروا تحفظات متتالية، وربما تراهن إيران على التشويش على تسوية تدرك موسكو أن طريق نجاحها يفترض تفاهما سوريا ومشاركة واسعة، وتوافق الدول ذات الصلة ومنها ايران بالتأكيد . فمقابل ترك موسكو الباب مواربا لمشاركات إقليمية من السعودية ومصر والأردن تحفظت طهران، لتعلن معارضة صريحة لمشاركة أمريكية إثر الاتصال الروسي مع فريق الرئيس دونالد ترامب، ويتسع الاعتراض رغم إعلان الوزير لافروف أنه «من المنصف دعوة ممثلين عن الإدارة الأمريكية الجديدة إلى المفاوضات». هذا ما أفضى إلى موقف لافت من جانب موسكو، ربما أُريد منه تذكير كل طرف بحدود معينة ، عندما أعلن لافروف أن التدخل العسكري الروسي أنقذ دمشق التي كانت «على بعد أسبوعين أو ثلاثة من الوقوع في قبضة الإرهابيين». من المعروف إلى أنه بدءاً من العام 2014، تعرضت التحركات الإيرانية الى عثرات مختلفة في العراق وسوريا، عندما حققت «داعش» تقدما كبيرا على الأرض، لتهدد بغداد، وتلغي الحدود بين العراق وسوريا،. العراقيون استنجدوا بالأمريكيين وقبلوا الإطاحة بالمالكي، وحكم الأسد استنجد بالروس بعد الموافقة على كل شروط موسكو. وكان دور إيران تشجيع بغداد ودمشق على إبرام الاتفاقيتين. لكن رغم حاجة القوى العظمى لتحالفات إقليمية، فإن ميزان القوى يفرض نفسه في نهاية المطاف، وهذا ما يحصل في سوريا حيث أمسكت موسكو، بعد تحريك مشروعها للتسوية، مفاتيح ممرات الغاز والنفط التي تكرس دورها الإقليمي والدولي، وأطلقت عمليات توسعة قاعدة طرطوس البحرية بعد توسعة قادة حميميم الجوية، وتتسارع وتيرة إنشاء الفيلق الخامس في الجيش السوري ، بإشراف روسي مباشر، لاستيعاب الميليشيات والمسلحين للإمساك بأمن دمشق ومحيطها.

قطار التسوية سينطلق رغم الكثير من العراقيل لكن لا استحالات. والمرحلة الآتية مرشحة لأن تشهد تعاونا بين روسيا وأمريكا ضد الإرهاب، وهما كانتا أطلقتا معا المجموعة الدولية لدعم سوريا، وأخذا بالاعتبار المواقف الأمريكية المتصلبة ضد إيران ، فإن لدى طهران والميليشيات التي تتبعها الكثير الذي تخشاه، وهي تسعى لتثبيت أقدامها بشكل اقوى ، وآخرها التوصل مع دمشق الى اتفاقات بمنحها خمسة آلاف هكتار ومناجم الفوسفات في محيط مدينة تدمر ومرفأ بحري الخ..ما يعطي مؤشرا إضافيا عن قرب انتهاء الحرب، ويضع أمام سلطات المرحلة الانتقالية الآتية مهمة التعامل مع ذلك كله .