الملف السياسي

إعداد المسرح للتسوية .. ونقاط على بعض الحروف !!

30 يناير 2017
30 يناير 2017

د. عبد الحميد الموافي -

إذا كان معروفا ، على نطاق غير قليل ، انه في حالات الصراعات والمواجهات المسلحة تلعب موازين القوى على الأرض دورا حاسما ، الى حد بعيد ، ليس فقط في تحديد الأدوار والعلاقات ، بل ايضا في تحديد مواقع  وحجم الأطراف المختلفة وتحديد أوزانها على مائدة المفاوضات ، ومن ثم في عملية التسوية ، وما قد تخرج به بعض أطرافها من مكاسب ، او تدفعه  أطراف أخرى من خسائر لصالح هذا الطرف او ذاك ،  وبالتوازي مع ذلك ، او بالأحرى ترجمة له ، وتعبيرا عنه ، تلعب الرمزية دورا دالا ، او كاشفا ، فيما يتصل باتجاهات الأحداث ، وما تستشعره الأطراف المختلفة من قوة وثقة في مواقفها ، او تقهقر واضطرار الى التوقف، او حتى التراجع قليلا ، كنوع من الانحناء للعاصفة ، او انتظار لمزيد من الوضوح في اتجاهات الأحداث ومحاولة التأثير فيها مرة أخرى. 

. وليس من المبالغة في شيء القول بأن الصراعات والمواجهات الدامية ، التي يدفع الشعب السوري الشقيق ثمنها من أزواح ودماء أبنائه ، ومن حاضره ومستقبله وامنه واستقراره ، على مدى السنوات الست الأخيرة ، وما تشهده الساحة السورية من تحركات على رقعتها ، ومن حولها ، ورغبة أطراف عدة ، إقليمية ودولية ، في التأثير عليها وعلى مستقبل سوريا الشقيقة ، دولة ودورا ووطنا ومجتمعا ومستقبلا أيضا ، تعكس وتعبر عن ذلك الى حد بعيد ، بغض النظر عن أية محاولات لتغليف المواقف ، او الإغراق احيانا في صياغات ، لا تلبث أن ينكشف جوهرها مع اول صدمة ، او صدام ، وذلك لأنه من المعروف ان الدول تتحرك وتحسب خطواتها عادة ، على قاعدة المصالح ، وليس على مجرد القواعد الأخلاقية او الشعارات المثالية . وعلى ذلك فإنه من المهم ، والمفيد أيضا ، النظر الى ما تشهده الساحة السورية من تطورات وتفاعلات وتقاطعات حادة أحيانا ، في هذا الإطار. وباختصار شديد ، فانه يمكن الإشارة الى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي :

*أولا : إن اقتراح وقف إطلاق نار واسع النطاق ، بقدر الإمكان ، ومحاولة توسيعه وتثبيته على الأرض ، بموجب اتفاق الثلاثين من ديسمبر الماضي ، وبعد ذلك اقتراح عقد مؤتمر آستانة لاجراء محادثات ، بين الحكومة السورية والمعارضة المسلحة ، او بعض فصائلها على الأقل ، بل واختيار الاستانة ، عاصمة كازاخستان ، كمكان للمؤتمر ، والترتيب له ، وضمان مشاركة الأطراف التي شاركت فيه يوم 23 و24 يناير الجاري ، كان في الواقع ، بجوانبه وأبعاده المختلفة ، تعبيرا صريحا ، وبالغ الدلالة عن حقائق القوة على الأرض السورية الآن ، او بالأحرى بعد تحرير مدينة حلب من الجماعات الإرهابية ، وتمكن قوات الجيش العربي السوري من تحقيق تقدم على الأرض ، بما في ذلك ما تم قبل يومين من استعادة السيطرة على وادي بردى الذي يشكل مخزن المياه الحيوي للعاصمة السورية ، وكانت جماعات المعارضة المسلحة قد استولت عليه من قبل ، كما استولت داعش على مدينة تدمر الاثرية وعاثت فيها تدميرا لآثارها التاريخية .

وبينما نجحت روسيا في قيادة هذا التحرك ، بالتنسيق مع تركيا وايران ، وهو تنسيق تتعدد جوانبه وابعاده على المستوى الثنائي ، اي بين روسيا و تركيا ، وروسيا وايران ، اكثر منه تنسيقا ثلاثي الاطراف ، ومع ان موسكو تدرك طبيعة ومدى الخلافات ، المعلن منها او المستتر بين انقرة وطهران ، الا انها بحكم قوة وجودها وتأثيرها العسكري على الأرض السورية ، وبحكم نفوذها السياسي تمكنت من توفير إطار قادر على العمل بين القوى الثلاث ، والحد ، بدرجة كبيرة من عناصر التنافر والخلاف فيما بينها ، إدراكا من موسكو ومن انقرة وطهران أيضا ، لأهمية وضرورة ذلك ، خاصة وان ايا منهما – أي انقرة وطهران – على يقين من انه لا يمكنهما موازنة او التغلب على الدور الروسي الكبير في سوريا ، والمستند الى قوة عسكرية ، تفوق قدرات أي من هاتين الدولتين من ناحية ، وقلبت موازين القوة على الأرض في سوريا منذ تدخلها في سبتمبر من العام 2015 من ناحية ثانية . صحيح ان انقرة حاولت ركوب الدب الروسي ، في سوريا ، في حين وقفت ايران أمامه مشدوهة وفي حالة اقرب للمفاجأة ، إلا أن الأطراف الثلاثة تتغلب على كل تلك المشاعر الاولية ، وتفسح المجال بواقعية ومهارة أيضا ، للتوصل الى عناصر توافق متعددة بقدر الإمكان لحماية مصالح كل منها على حدة ، ومصالحها المشتركة أيضا في الابقاء على سوريا دولة موحدة ومتماسكة و القضاء على تهديد الارهاب على ارضها . ولم يغب عن ذلك محاولة روسيا تهيئة المناخ ، بل ومحاولة امتلاك قدر من المبادرة ، والقدرة على التحرك للدفع بالمأساة السورية على طريق الحل السلمي ، وبشكل متماسك نسبيا قبل ان تفيق الإدارة الأمريكية الجديدة من نشوة انتقال السلطة ومشكلاتها ، وحتى تكون هناك أرضية ينطلق منها بوتين في ترتيبه مع الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب بشأن الحل في سوريا . ومن غير المستبعد ان يكون قد تم التطرق الى ما يمكن ان يكون عليه الترتيب بين موسكو وواشنطن بشأن الأوضاع في سوريا ، وذلك خلال مكالمة الخمسين دقيقة بين بوتين وترامب هذا الأسبوع ، ولم يكن مصادفة ان تسوق واشنطن تلك المحادثات الهاتفية ، بالإعلان من جانبها عن دعمها إنشاء مناطق آمنة للاجئين داخل سوريا ، كخطوة للحد من تدفق اللاجئين السوريين في اتجاه الولايات المتحدة وأوروبا ، وتبرير ذلك بحماية الأمن الأمريكي . وقد أعلنت موسكو انه لم يتم الترتيب معها بهذا الشأن .

*ثانيا : إن مؤتمر الآستانة ، يعد في الواقع ، ودون مبالغة ، بروفة ، او خطوة أولى اكثر ترتيبا وتحديدا لإعداد المسرح السوري والإقليمي والدولي أيضا ، لإمكان التسوية السياسية . صحيح ان ذلك سيستغرق بالضرورة وقتا غير قليل ، سواء في ازالة بعض العقبات على الأرض ، او بالأحرى تحقيق نوع من كسر الميليشيات الإرهابية بشكل اكبر على الأرض من ناحية ، وتجميع الفصائل العسكرية المعتدلة في إطار مشترك بقدر الإمكان، ومحاولة إيجاد تناسق ما بين الفصائل العسكرية والأطراف السياسية للمعارضة السورية ، وهي أطراف باتت تصنف على أساس انتمائها لهذه العاصمة او تلك الى حد غير قليل من ناحية ثانية ، ولكن الصحيح ان مؤتمر الاستانة قد اتسم بقدر غير قليل من الأهمية ، لاعتبارات عدة . فهذه هي المرة الأولى التي تشارك فيها فصائل عسكرية في محادثات مع الحكومة السورية - وكانت تلك الفصائل ترفض من قبل - ومع انه لم تحدث محادثات مباشرة بين الطرفين ، او بمعنى أدق جرى التردد في ذلك من جانب ممثلي الفصائل العسكرية بعد الجلسة الأولى ، ثم تمت المفاوضات بشكل غير مباشر ، إلا أن مما له دلالة ان المفاوضات بحثت تثبيت وقف إطلاق النار في سوريا وتوسيع نطاقه ، والتمهيد أيضا لمحادثات سياسية . ومع انه ظلت فصائل عسكرية معارضة لمؤتمر الاستانة ، إلا أن الأطراف السياسية المعتدلة للمعارضة السورية أيّدت المؤتمر .

من جانب آخر فان موسكو حرصت على التأكيد على الربط بين مؤتمر الاستانة وبين مؤتمر جنيف لتسوية الأزمة السورية ، وعلى التنسيق مع الأمم المتحدة وممثل الأمين العام للأمم المتحدة في سوريا « ستيفان دي ميستورا « ومما له أهمية في هذا المجال ان « دي ميستورا « شارك في مؤتمر الاستانة ، بما يعني مباركة الأمم المتحدة له . صحيح ان جدلا لايزال قائما حول موعد جولة جنيف القادمة وما إذا كانت في 8 فبراير ام ستتأجل حتى نهاية فبراير كما اعلن لافروف وزير خارجية روسيا بعد لقائه عددا من الفصائل المعارضة السورية في موسكو والتي حثها على دعم نتائج مؤتمر الاستانة ، ولكن الصحيح ان اجتماع جنيف القادم لن يستطيع تجاهل نتائج مؤتمر الاستانة . وذلك يعني ان ما يتصل بمقررات «جنيف 1 « الخاصة بالمرحلة الانتقالية وبتنحية الرئيس السوري - حسبما يفسرها البعض على الأقل - يمكن أن يعاد صياغتها ، خاصة وان تركيا أعلنت أنها لم تعد تتمسك برحيل الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية ، وهو ما يعني تحديد ملامح للتسوية السياسية ، وتشكيل حكومة انتقالية من عناصر من الحكم والمعارضة ، وفق صيغة يجري العمل عليها الآن . وليس مصادفة أن توزع موسكو خلال مؤتمر الاستانة نسخا من مشروع الدستور السوري الجديد ، الذي قالت انه تجميع للمقترحات السورية، وحاولت الدفاع عن هذه الخطوة المستهجنة وبررتها بأنها محاولة لدفع عملية التسوية السياسية ، وليس نوعا من الفرض او التدخل لفرض شيء على السوريين !!

على أية حال فإنه يمكن القول بأن توقيع روسيا وتركيا وايران على بيان الاستانة ، كأطراف ضامنة لوقف إطلاق النار وتثبيته وفق آلية ثلاثية ، يعد مؤشرا على قدرة الأطراف الثلاثة على العمل معا من ناحية ، وفي اطار الحفاظ على وحدة التراب السوري والسيادة السورية وإنهاء خطر المنظمات الإرهابية والحفاظ على مؤسسات الدولة السورية ، كدولة مدنية ديمقراطية من ناحية ثانية . أما مشروع الدستور السوري الذي قدمته موسكو فان الهجوم والانتقاد الذي تعرض له يمكن أن بسرع بانتهائه لأسباب كثيرة .

*ثالثا : انه مع الوضع في الاعتبار ان التسوية السياسية في سوريا - وهى أمز لامناص منه - ستتوقف بدرجة كبيرة على مدى وعمق القدرة الروسية الأمريكية على التوافق بشأن سوريا ومستقبلها السياسي ، وهو توافق لا غنى عنه ، فان الدور الكاسح لروسيا في سوريا ، والجدية في العمل لإخراج الميليشيات الأجنبية من سوريا أيضا ، سيؤثر بالضرورة في علاقات سوريا بالأطراف الإقليمية المختلفة خلال الفترة القادمة . ولذا فانه ليس مصادفة أبدا ان تشهد الأيام الماضية ما يمكن تسميته بتحركات حجز الأنصبة ، او بمحاولة الضمان المسبق للمصالح في سوريا، فروسيا توصلت الى اتفاقيات لتوسيع ميناء طرطوس السوري على البحر المتوسط ، ودعم قاعدة حميميم الجوية الروسية ، وإيران تحدثت عن تضحياتها العسكرية والاقتصادية دعما للحكومة السورية ، وقد توصلت هي الأخرى الى اتفاق بشأن تخصيص مساحة 50 كيلومترا مربعا لبناء مجمع لصناعة الفوسفات في سوريا ، الى جانب الحديث عن ميناء على الشاطئ السوري وضمانات للقروض الإيرانية لسوريا في السنوات الأخيرة ، أما تركيا فإنها تدعم عملية فرض شريط حدودي بطول حدودها مع سوريا ، يكون خاليا من وجود كردي تخشى منه ، وكانت عملية درع الفرات ، التي لم تنته تماما حتى الآن ، عملية أساسية في هذا المجال . ومن غير المستبعد ان تلتقط انقرة حديث ترامب عن مناطق آمنة للاجئين السوريين وتحاول توظفها لخدمة هدفها الذي تحدثت عنه كثيرا من قبل بهذا الشأن ولم تتحمس له إدارة اوباما السابقة . ومع الوضع في الاعتبار ان مختلف الأطراف الإقليمية وأمريكا بالطبع ستعمل على الحفاظ على مصالحها في سوريا ، وهو ما أثار مخاوف لافروف ودفعه الى الحديث عن أن هناك أطرافا تحاول عرقلة نتائج مؤتمر الآستانة ، فان المواجهات المسلحة بين تنظيم « فتح الشام « النصرة سابقا وبعض الفصائل التي تؤيده من جهة ، وبين فصائل عسكرية معتدلة بقيادة تنظيم « أحرار الشام « من جهة اخرى يعيد الى الأذهان مرحلة الاقتتال بين الفصائل الأفغانية في منتصف ثمانينات القرن الماضي ، واذا كانت هذه المواجهات مقدمة لتكثيف الأعمال العسكرية الروسية الأمريكية ضد النصرة وداعش ، فان نتائج ما يجري الآن وعلى امتداد الأسابيع والأشهر القادمة سيحدد الى أي مدى نجحت عملية إعداد المسرح للتسوية في سوريا ، ومستقبل الدولة السورية التي نتمنى أن تظل موحدة وقادرة على احتواء كل أطياف الشعب السوري الشقيق وتخفيف معاناته .