شرفات

الكائن السوريّ الثائر في رواية زجاج مطحون

30 يناير 2017
30 يناير 2017

ليلى البلوشية -

[email protected] -

« لم نكن في وضع، يسمح لنا بالعثور على تفسير منطقي معقول لما حدث «.

بهذه العبارة يبدأ الروائي و القاص السوري « إسلام أبو شكير « روايته « زجاج مطحون «، من إصدارات دار المتوسط 2016م، سيشعر القارئ بأن اللامعقولية هي وحدها تقود دفة الأحداث، بدءا من المكان و الزمان وانتهاء إلى الشخصيات التي يغلب عليها الغرابة لا في هوّيتها فحسب في مجمل تكوينها، وما يحدث لهم في مكان يطل أول ما يطل على قبر بل يبدو كقبر بلا نوافذ ولا أبواب، شخصيات أربع وجدوا أنفسهم في مكان يضيق بهم غير أنه حافل بمظاهر الحياة على الرغم من كل الغرابة المحيطة بهم، بل تبدو لوهلة حتى أوضاعهم غريبة أيضا « أحدنا كان يحمل قوقعته على ظهره، ويذرع الغرفة جيئة وذهابا، لم يتوقف عن المشي طيلة ساعة كاملة . الآخر دس نفسه داخل قوقعته، مستلقيا على أحد الأسرة، شابكا ذراعيه خلف رقبته، ومستغرقا في أفكاره وهواجسه. الثالث تكور داخل قوقعته على سريره أيضا، متدثرا باللحاف. أما أنا؛ فاخترت كرسيا هزازا أمام التلفزيون، ملقيا برأسي إلى الوراء، ومغمضا عيني.. قوقعة رابعة «.

ويستمر اللامعقول ونوع من العبثية أيضا يسيّر الشخصيات في هذه الرواية القصيرة غير أنها جاءت كوحدة متكاملة وتكاد تكون مكثفّة بالأحداث، تعيش هذه الشخصيات الأربع الأجواء نفسها و في الفضاء المكاني نفسه و يستبد بهم أفكار ووساوس تكاد تكون مشتركة غير أن ما يوجد الصدمة هي أن الشخصيات تحمل الاسم نفسه، اسم كاتب الرواية « إسلام أبو شكير «، وبهذا تنعت كل شخصية الآخر بأنه محتال وسارق اسمه، تمرق الأحداث، سرعان ما تتصافى القلوب لوهلة، وتتماهى الأسماء إلى مجرد أعمار، ففي الحبس الإنسان يتيه فيه كل شيء، سيرته، تاريخه، أعماله، بل يكاد كيانه البشري يضمحل ليحل محل كل ذلك رقم يحمله كهوية، هذا الرقم قد يكون رقما ملفه في الحبس، لكن بما أن الرواية تمشي في لا معقوليتها والمكان يكاد أن يكون مبهما، فإن هذه الشخصيات تحمل أعمارها، فهناك العشريني والثلاثيني والأربعيني والخمسيني ..

هذه الرواية محمّلة بالافتراضات وهنا بالتحديد جاءت براعتها، لذا يمكن أن نفترض أن « اسلام أبو شكير« هو إنسان واحد، محبوس في سجن مظلم، يفتقد كل حسّ بالحياة، هو حبيس لأعوام مديدة نتيجة لذلك تتخلق لديه أوهام عبثية، فيتخيل نفسه في عزلته المعتمة محاطا بشخصيات متوالدة تماثله تقريبا في كل شيء عدا العمر، يكاد هو بنفسه أن يكون متعددا، ويمضي عمره، من العشرين وكل بضعة أعوام من ثقل العزلة، تكبر عزلته ويكبر معها سنين عمره، مرة هو في العشرين ومرة في الثلاثين ومرة يمضي كأربعيني في تخيلاته وأخيرا كخمسيني استبد فيه اليأس، إنه كائن حبيس في قوقعة الحبس الانفرادي.

والتأويل الآخر أن « إسلام أو شكير« هو الثوري الذي وجد نفسه محكوما كبطل كافكا في روايته « المحاكمة «، في كل مرة يدان بتهمة ما هو بريء منها، هو أيضا الثائر في زمن الثورة، في وطن كوطنه سوريا، في كل مرة يصطدم كإنسان بمرحلة سياسية مختلفة، مرحلة لها تناقضاتها، لها توتراتها، ولها مراحل نضجها أيضا، وكل « إسلام أو شكير « هو جزء من التغيير الذي تعيشه الثورة السورية، الإرهاصات، والانتكاسات، الخيبات، حيث الإنسان الثوري في عام 2011م حين نهضت الثورة السورية لا يكاد يشبه الإنسان الثوري في عام 2017م من عمره الثورة، فكل مرحلة مرت خلقت خبطات هائلة، ليس من اليسير أن تمر على الكائن الثوري مرور الكرام، صار هو أيضا في كل مرحلة يتخلّق على وفق ما تصير إليه الثورة وما تفرزه الثورة، لقد صار هذا الكائن متخبطا أيضا في اتخاذ موقفه، مرة يتخذ موقف الحذر، الخائف، ومرة يحاسبها ويقف في مواجهتها ومواجهة كل من يعترض سبيلها.

لقد صار الكائن السوري كالزجاج المطحون، كالجثة التي استهلكت تماما وتبخرت روحها غير أنها على الرغم من كل ذلك، في كل مرة ننتظر موتها مرات ومرات، صار الموت هو المنطق الوحيد في هذه الحرب التي أباحت كل شيء، بل تجاوزت كل ما هو معقول، وصار اللامعقول سيد الموقف، صار يتآكلهم، يطحنهم رويدا رويدا.