شرفات

قراءة في ديوانه «حديث الروح» - علي بن مشاري الشامسي.. شاعر المواقف النبيلة والعاطفة الصادقة

30 يناير 2017
30 يناير 2017

إعداد: راشد بن سعيد الشامسي -

سعادة الشاعر الشيخ علي بن أحمد بن مشاري الشامسي (والي صحار حاليا)، هو ابن قرية (حماسة) بولاية البريمي، بلدته ومهد صباه وبداية تكوين أحلامه وشاعريته، استعار من واحة البريمي شموخ باسقاتها، وسعة ظلال أشجارها، فانساب شعرا رقراقا، ضرب بإيمانه وفكره في أرض راسخة معطاءة، وامتدت مخيلته لتطاول النجوم والضياء، كتب الشعر فتيا، وأخلص للقصيدة، وكان نهما في التعلم والتعامل معه- وما زال كذلك كما أعهده- أعطى الشعر وقته وإخلاصه وتفانيه فأعطاه الجزالة وحب الناس.

استعذب الترحال أو تعذّب به، واصطبغ شعره بامتداد الأفق نحو المنظور، وما خلفه وما يستبطنه، وقرأ المحسوس واللا محسوس، فصاغهن أبياتا جزلة تحاكي سمو نفسه في التعامل مع الآخرين، واستنبط منهن الحكمة والروية اللتين تلازمانه في سائر حياته المهنية والاجتماعية والأدبية.

في عام 1982م بدأت الموهبة الشعرية تظهر عند علي بن أحمد- ذلك الطفل الهادئ- وهو ابن تسع سنوات فقط، محاولات شعرية يحاول أن يحاكي فيها من سبقوه، ومن تربى على الاستماع لقصائدهم، فجاءت تلك النصوص- ككل البدايات الشعرية- ينقصها الوزن أحيانا، وينقصها الترابط في أحيان أخرى، وربما تختلف القوافي بين بيت لآخر، ولكنها كانت الإرهاصات الأولى لذلك الطفل الذي صقل موهبته، واطلع على تجارب الآخرين، واستمع لآراء الجيل الذي سبقه في كتابة الشعر فتعلم منهم وأجاد.

نشرت جريدة الاتحاد بدولة الإمارات العربية المتحدة أول نص للشاعر علي بن أحمد بن مشاري الشامسي بعنوان (شفته صدفة)، وكان ذاك في سنة 1988م، وشاعرنا حينها في الخامسة عشر من عمره، أي أننا هنا نحاول أن نسلط الضوء على تجربة شعرية امتدت لأكثر من ثلاثين عاما من العطاء الشعري المتواصل.

وهنا مقطع من أول نص نشر لشاعرنا:

شفت شمس الصبح والبدري

في طـريقي صـدفة ويّاهم

من جــمالــه عــقلي افتــرّي

وفــرّ قـلــبي من مــزاياهم

هوه عـيد الفطــــر والنحري

لي شرات المسك طرواهم

يملك الشاعر علي بن أحمد بن مشاري الشامسي روحا وثابة للعطاء، سخية في التعامل، نقية في التواصل، يصغّرها لتكبّره، لا تمر بها الأحداث مرور العابرين، يستوقفها، يقرأها ويحللها، فيتغذى بما فيها من أفكار ورؤى جميلة، ويترك غثها جانبا، ويحدث بها روحه وتحدثه، يتناجيان، يتنادمان، يتوحدان حتى نستمتع نحن بـ (حديث الروح):

(حديث الروح للأرواح يسري

وتدركــه القــلوب بلا عــــناء

هــتـفـت به فطــار بلا جــناح

وشـق أنينه صـوت الفضــاء)

*ديوان (حديث الروح):

(حديث الروح) هو باكورة إصدارات الشاعر علي الشامسي، وكما نقرأ فإن العنوان يتكون من كلمتين تكونان مركبا إضافيا، فهو يتكون من مضاف (حديث) ومضاف إليه (الروح)، ويمكن أن يُقرأ العنوان مركبا إسناديا بتقدير المبتدأ المحذوف بقولنا: هذا حديث الروح أي جملة اسمية من مبتدأ وخبر، ويطرح الديوان تساؤلات عدة عند القارئ، يغرينا كثيرا للإنصات لهذا الحديث الذي يختزل تجربة الشاعر ورؤاه وفلسفته.

في مقدمة ديوانه.. يسأل علي نفسه: (هل يحق للشاعر أن يتبرأ من قصائد كتبها في بداية تجربته الشعرية؟).. وهذا سؤال يزلزل الكثير من اعتقادات الشعراء، وجميع الإجابات متاحة بين الرفض والقبول لهذه الفكرة، ويحق للكثير المراوحة بينهما، أو إعادة صياغة القديم من الشعر أو تحسين الصور أو إبدال بعض المفردات، ونحن هنا لسنا في موضوع خلاف، فكل شاعر له الحق في اتخاذ ما يراه مناسبا في خدمة سيرته وتجربته الشعرية.

هنا يجب أن ندرك أن ما نشر في الديوان ما هو إلا اختيار من مجموعة نصوص كتبها شاعرنا، واختار منها ما نشره في الديوان، علما بأن المنشور لا يتجاوز ما نسبته 30% من مجموع قصائده.

حمل الديوان 71 نصا، بالإضافة إلى همستين شعريتين جاءتا كاستراحة للقارئ، وتمهيدا لما سيأتي من نصوص تدعوك لقراءتها أكثر من مرة.. وكُتبت النصوص المنشورة في الديوان ما بين عام 1993م وحتى عام 2006م، أي لما يعادل تجربة شعرية امتدت لمدة ستة عشر عاما، مع العلم بأن الهمستين اللتين تضمنهما الديوان لم يؤرخا زمانيا ولا مكانيا.

ثانيا: الأغراض الشعرية للنصوص:

جاء الديوان في أحد عشر غرضا شعريا، وكان النصيب الأكبر للغزل بواقع 30 نصا بما يعادل 42.25 % من القصائد المنشورة بالديوان، يليها الوجداني بعدد 14 نصا أي ما نسبته 19.7 % من القصائد.

كتبت القصائد في إثنتي عشر مدينة مختلفة، ويعود اختلاف المدن بحكم التنقل الوظيفي للشاعر بين مدن وولايات السلطنة، مع وجود 3 مدن كتبت فيها القصائد بحكم السفر للدراسة أو لعمل سريع أو للسياحة وهي (القاهرة ودبي وصلالة)، وقد كان النصيب الأكبر للأماكن التي كتبت فيها النصوص هي ولاية البريمي بحكم سكنى الشاعر، فقد كتب بها 24 نصا بما نسبته 33.9%، وتليها مدينة مسقط بـ 18 نصا ونسبة 25.4% لظروف الدراسة بجامعة السلطان قابوس، وكان الشاعر أيضا بمسقط في بداية عمله في السلك الحكومي بديوان عام وزارة الداخلية.

ثالثا: الأغراض الشعرية:

تنوعت الأوزان الشعرية لدى الشاعر، فكتب نصوص الديوان على اثنين وعشرين وزنا شعريا مختلفا، يطبع على أغلبها طابع المحاكاة في الوزن، وحاول الخروج من الوزن والقافية الموحدة في 5 نصوص فقط، جاءت 4 منها على التفعيلة، والخامس أدخل زيادة محدودة جدا في مطلع وختام القصيدة.

وقد كتب الشاعر 27 نصا على بحر المسحوب أو كما يعرف في ولاية البريمي وما جاورها ببحر المقالة، بما يعادل نسبة 38 %.

فالشاعر من خلال الديوان هنا ينتمي للمدرسة الكلاسيكية الوزنية، وقد أجاد فيها وتنوّع، ونوّع قوافيه فتكاد لا تحس بتكرار الأوزان الشعرية في نصوص الديوان- إلا فيما ندر- كما نوّع في قوافيه ولم يكن متكلفا فيها أبدا.

*نوافذ على بعض النصوص في الديوان:

نصوص الديوان لم تأتِ منظومة، بل هي شعر خالص ينساب من بداية مطلعها حتى البيت الأخير، اعتمد فيها الشاعر على البساطة في الصورة والتركيب، ولم يشتغل على الإدهاش بقدر اهتمامه بالوحدة الموضوعية للنص الواحد.

• ـ أول قصيدة في الديوان كانت (صرخة غضب) أو كما يحلو لشاعرنا تسميتها أيضا بـ (القصيدة المحمدية)، ووجودها في بداية الديوان لم يأتِ اعتباطا، أو بمحض صدفة، بل هي رسالة يستطيع متصفح الديوان أن يعي ويدرك ما يقصده الشاعر في تصدرها ترتيب قصائد الديوان، وهي رسالة خالصة نذرها شاعرنا للإسلام وللذود عن رمزه وقائده- صلى الله عليه وسلم- وهذان البيتان عن قصيدة كاملة:

كلنا نغضـب لأجله ونطوي الصـحراء طـيـّا

ونعجن الصخر الصليد ونركب الريح العتية

ونشرب البحر الأجاج ونمتطي ظهر الثريا

لجــل ســـيدنا محمد ما نهـــاب من الـمـنـيــــة

فهذا من ناحية تكوينه العقائدي، وأما من حيث الصورة والمصطلحات وتأثره بما يحيط به ، فإننا نرى من خلال هذين البيتين المفردات التالية: (نغضب/‏ نطوي/‏ الصحراء/‏ طيا/‏ نعجن/‏ الصخر/‏ الصليد/‏ نركب/‏ الريح/‏ نشرب/‏ البحر/‏ الأجاج/‏ نمتطي/‏ ظهر/‏ الثريا ) 14 كلمة في بيتين فقط تدلان على الصحراء والبحر والسماء التي تربط بينهما، فكأنه اختزل المسافة بين البريمي والرستاق وما يحيط بها من مناظر وتفاعل فصاغ هذين البيتين دون أن تحس بانتقاله بين الجبل والبحر والسماء، فانتقاله تلقائي سلس، أعطى للصورة الكاملة روحا وتنوعا وحياة دون أن نحس بالانتقال من بيئة إلى أخرى.

• وفي نص (جارة الوادي) هو العاشق المتلهف الذي يبيح بلواعجه وعواطفه للمعشوقة، ويفتح خزائن أسراره بعد أن فاض به الصبر والحرمان، فلم يجد بدا للبوح عل ريقه يبل برؤيتها رغبة يبلّـلهـــا الأمل وســط الحـنايـا المقــفرة

(رجفة عطش في خافقي صوب الغدير تشدني)

ومن ظمأه جاءت المفردات (يبللها/‏ المقفرة/‏ عطش/‏ الغدير) في بيت واحد، فالشاعر هنا يستخدم تكنيك الاستعطاف، ليفجر كل رغباته ويدك حصون حرمانه، بطلب فاجأني به حين سمعتها منه لأول مرة ، وقد كان هذا الطلب:

تعال يا كـل المنى مثل الطـيوف الزايرة

تعال يا حلم المسا طفّ السراج وضمني

وهنا نرى المفردات التالية (تعال/‏ المنى/‏ الطيوف/‏ الزايرة/‏ تعال/‏ حلم/‏ المسا/‏ طف/‏ السراج/‏ ضمني ) مفردات عذبة لمناجاة حبيبين تضفهما ليلة قمراء ..

انتقل الشاعر في بيتين جاءا متعاقبين من مشهد نهاري صاخب مليء بالحرمان والتوجد وطول الإنتظار إلى مشهد ليلي يتمناه كل عاشق ولهان .. ولكنه أمل الشاعر حتى لو يتحقق حلمه في حلمه .

• وفي نص (في حب بنت المستكفي) استحضر نص ابن زيدون قافية ، فبلغ به التأثر بأن اعتمد قافية واحدة للعجز فقط دون الصدر- وهذا يندر في ديوان حديث الروح- وانتقل إلى وزن شعري مغاير عن وزن نص ابن زيدون في رسالته لولادة بنت المستكفي.

بكيناكم ولا زالت سيوف الشوق تذبحنا

بكــينا عمرنا كــله وما جــفت مآقـيـنــا

هنا التناص واضح جدا مع النص الأصلي الذي بنى عليه الشاعر:

( بنتم وبنّا فما ابتلت جوارحنا

شوقـا إليكـم ولا جـفت مآقينا )

يود الشاعر في هذا النص أن يندس في فترة زمنية لا يستطيع الولوج فيها حقيقة، فوضع (ولادة) رمزا للقصيدة وللحب وللطهر ولمدينته الفاضلة فخاطبها، حاول أن يتوسل إليها علها تنظر إليه، لم تعره انتباها فهدد وتوعد، وكأنه القبطان الذي أتي ليحررها من حصونها ومعقلها، علها تأتي على الموعد، تأخرت، أوصل له سلاما- تخيّله منها- فغضب وقال سلامك لا يفي بالغرض الذي جئت من أجله مغامرا ومتحديا كل الصعاب والمخاطر لخاطر عينيك، ثم أنصرف .

• وجاء النص الأخير في حديث الروح (رسالة إلى ولدي) وأشار قائلا : إلى ولدي « أحمد ابن الثلاثة أعوام، وهو نص كلاسيكي من حيث البنية والتركيب والصور، حكم تتلو حكما، استخلاص عبر من تجارب ومواقف ومطالعات، وتسخيرها في رسالة واحدة لأبناء الشاعر، فليس هنا أحمد بن علي هو المعني وحده، بل هو وإخوانه ومن هم في حكمهم من أبناء أقارب وأصدقاء.

الشاعر علي في الديوان وضع القصيدة الأولى عبارة عن رسالة للأمة الإسلامية، وجاء برسالة أخرى لولده أحمد وجعلها القصيدة الأخيرة في الديوان، وكأنه يقول: هذه هي اهتماماتي وأولوياتي في الحياة، وما بينهما يأتي عابرا، ربما يدوم وربما يرحل.