أفكار وآراء

بانون في مواجهة ترامب

29 يناير 2017
29 يناير 2017

ديفيد بْرُوُك -

ترجمة قاسم مكي -

نيويورك تايمز -

بات واضحا أن السياسة الخارجية الأمريكية ستتشكل في الأعوام القليلة القادمة بواسطة الجمهوريين الملتزمين والقومو-عرقيين (دعاة القومية العرقية) الشعبويين وقوى الفوضى الدائمة التي أطلقها من عقالها ترامب بفضل توجهاته التي يتبناها. وعلى ذلك  يبني الجمهوريون الملتزمون استراتيجياتهم الكبرى على أساس النظام العالمي الذي ساد في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ويتمثل هذا النظام في تحالفات الولايات المتحدة والقواعد والمنظمات التي تشد من أواصر الديمقراطيات وتحافظ على السلم العالمي. يسعى الجمهوريون الملتزمون للمحافظة على هذا النظام ونشره ويعتبرون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ذئبا يعكف على تمزيق أوصاله. أما القومو-عرقيون الشعبويون، في «البيت الأبيض» تحت إدارة ترامب، فلا يؤمنون بهذا النظام. ويتلخص نقدهم في الملاحظات التي أدلى بها ستيف بانون كبير مستشاري ترامب في مؤتمر عقد بالفاتيكان عام 2014. وهو نقد أخلاقي وديني واقتصادي وسياسي وعرقي في الوقت ذاته، قال بانون إنه كانت توجد في وقت ما تشكيلة من الدول الوطنية اليهو- مسيحية (المرتكزة على مشروعية دينية عليا يهودية مسيحية - المترجم.) وهي دول كانت، بحسب بانون، تمارس شكلا إنسانيا لرأسمالية الكتاب المقدس وترعى مجتمعات منسجمة ثقافيا. ولكن في العقود الأخيرة  أضعف حزبُ دافوس الأسس الأخلاقية لطريقة الحياة «اليهو- مسيحية» بعولمته ونسبيته وتعدديته وتنوُّعِهِ. ( يقصد الكاتب بحزب دافوس النخبة الدولية التي تعقد منتداها الاقتصادي العالمي كل شتاء في منتجع دافوس السويسري - المترجم.) فالرأسمالية الإنسانية (ذات الوجه الإنساني) تم استبدالها برأسمالية متوحشة جلبت إلينا الأزمة المالية. واستبدلت الديمقراطية القومية بشبكة من النخب الدولية لرأسمالية المحاسيب (المحاباة) و استبدلت الفضيلة التقليدية بالإجهاض. كما يجري إحلال الدول القومية السيادية بمنظمات متعددة الأطراف وسيئة الحظوظ مثل الاتحاد الأوروبي. إن الغرب المتفسخ والواهن ينبطح في ضعف ومسكنة أمام تطرف الإسلاميين الواثقة والتي تشكل التهديد الذي لا حدود له في زماننا. وبحسب وجهة النظر (البانونية) هذه، فإن ترامب حليف ذو قيمة عالية بالضبط لأنه أيضا يسعى إلى استبدال النظام العالمي المتعدد الأعراق واللغات بدول قومية قوية. فهو يدافع بحماس شديد عن القيم التقليدية. وهو يعرف كيف يقاتل أصولية الإسلاميين. إنه لمن المثير في الواقع أن نقرأ بانون، المُنَظِّرالآيديولوجي لترامب، جنبا  إلى جنب مع أَلِكْسِنْدَر دوغين ( مُنَظِّر بوتين). فهذه القراءة تبدو كأنها عودة إلى القرن العشرين وقراءة لنسختين من الماركسية إحداهما مسيحية أمريكية والأخرى روسية أرثوذكسية. ولديهما كليهما نظرية كبرى ولكنها غير دقيقة لتاريخ العالم.  فكلاهما تؤمنان أننا في  حالة صدام مدمِّر بين الحضارات. وكلتاهما  تجمعان دون عناء بين التحليل الاقتصادي والأخلاقي والسياسي. وكلتاهما  تعتبران نفسيهما جزءا من حركة شعبوية  عالمية  ضعيفة الروابط تشمل الجبهة الوطنية في فرنسا ونايجل فاراج في بريطانيا وآخرين عديدين. لقد كتب دوغين بإيجابية عن ترامب في الشتاء الماضي وأشار بانون إلى دوغين في تعليقاته خلال مؤتمر الفاتيكان المذكور. جاء في كتابات دوغين ما يلي« علينا إيجاد تحالفات إستراتيجية لإسقاط نظام الأشياء الحالي. هذا النظام الذي يمكن وصف  نواته بأنها حقوق الإنسان ومحاربة التراتبية والصوابية السياسية وكل شيء يشكل وجه الوحش......» ومن جانبه  صرح بانون بقوله « نحن الغرب اليهو- مسيحي علينا حقا أن  ننظر في ما يتحدث عنه (بوتين) فيما يخص النزعة التقليدية، خصوصا ما يتعلق بتعزيزها لدعائم القومية » لقد أدخل التقرير الاستخباري، الذي صدر هذا الشهر عن «التدخل الإلكتروني الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة» ، الجمهوريين الملتزمين من أمثال  جون مكين وليندسي جراهام في صراع مباشر مع الشعبويين القومو-عرقيين. ووقف ترامب في حزم إلى جانب المعسكر الأخير ساحبا  معه «فوكس نيوز» وعددا كبيرا من الجمهوريين بالكونجرس. وإذا  كان ترامب يملك فعالية بوتين فربما سنشهد تحولا جذريا  في الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة بعيدا عن التوافق الدولي الذي ساد في فترة ما بعد الحرب باتجاه الحركات الشعبوية التي تحتدم حول العالم. ولكن ترامب ليس بوتين. فبوتين لاهوتي وساخر ومنضبط ويحسب الأمور جيدا وخبير وعليم. وحين يحاول بانون ومايكل فلين وآخرون  أن يجعلوا من ترامب رئيسا لسياسة خارجية ثورية فإنهم سيواجهون  مؤسسة السياسة الخارجية برمتها تحت إمرة قائد قد يتعاطف معهم ولكنه لا ينتبه بشكل كاف ، ولا يمكن التنبؤ بما يقدم عليه كما أنه أساسا غير مهتم بأي شيء آخر سوى مركزه ومكانته في اللحظة الماثلة. وأنا شخصيا أراهن أن جهاز السياسة الخارجية، بما في ذلك وزيرا الخارجية والدفاع، سِيُنَكِّل بالشعبويين المحيطين بترامب. وستنفجر الاحتكاكات داخل خطوط السلطة المربكة إلى حد غير معقول في البيت الأبيض. وسيجد ترامب أنه يفضل قضاء أوقاته في رفقة أفراد النخبة الدولية على غرار تفضيله حضور آل كلنتون حفلَ عقدِ قرانه (على زوجته الثالثة ميلانيا في بالم بيتش بولاية فيلاديلفيا في 22  مايو 2015- المترجم.) وفي منصبه الرئاسي، لن يتمكن من تركيز اهتمامه على  جماعة داعش. وسيواجه عاصفة من المشاكل، الأمر الذي سيجعله معتمدا على الأجهزة القائمة. وقد تكون النتيجة مليون رسالة تويتر مذهلة. ولكنها لن تكون في جوهرها تحولا استراتيجيا جذريا. لن تكون صناعة سياسات سواء اتسمت بالفظاعة أو الجودة. إن المعركة الأكبر  تدور حول الأفكار وحول احتمال تحول الحزب الجمهوري في مجمله إلى حزب  شعبوي عرقي مثل الجبهة الوطنية (الفرنسية) أو حزب الاستقلال بالمملكة المتحدة. وفي مثل هذا النزال قد يكون أداء الشعبويين أفضل. ثمة  صرامة بها شيء من الحقد في أيديولوجيتهم  تذكِّر المرءَ حقا بالماركسية في أيامها الأولى. أيضا، ثمة جانب يتسم بالضعف في العولمة التي جُرِّدَت من روحها والتي لا تملك حقا  حلولا للمشاكل الاقتصادية والثقافية. باختصار أظن أن بانون سيفشل في  حبس عقل «ترامب» المشاء الذي لا يقر له قرار في مكان واحد . ولكن، بالمقابل، قد يكون له (أي بانون) تأثير أكبر على الجيل القادم.