أفكار وآراء

المدينة ليست دوما صورا حالمة ..

29 يناير 2017
29 يناير 2017

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

تشكل المدن الرئيسية في كل دول العالم مناطق جذب مستمرة، نظرا لما توحيه هذه المدن الى الآخر من الصورة الاحتفالية المزخرفة بأنواع الترفيه، وما تذهب إليه من تحقيق الآمال والطموحات، ولذلك فالمدن تبقى دائما حاضرة في مخيلة الأفراد؛ سواء على مستوى شعب الدولة الواحدة، أو على مستوى شعوب العالم أجمع عندما تجمع الآراء على أن المدينة الفلانية - في أي بلد في العالم - يمكنها أن تحقق الأحلام وترتفع بالفرد الى سلم المجد، حيث تتهافت إليها الأفئدة من كل حدب وصوب، بغض النظر عن الواقع الحقيقي الصادم في بعض الأحيان الذي يجده هؤلاء الساعون إليها،

وكم سمعنا من مآسٍ يعيشها هؤلاء القادمون في كثير من دول العالم الذين يدفعون أثمانا باهظة لعلهم يجدون ما يحقق لهم في هذه المدينة او تلك؛ ما لم تحققه الدولة او المدينة الآتون منها. وفي قصص اللاجئين والفارين من الأوضاع السياسية في بلدانهم خير مثال على هذه المعاناة التي يجدونها في البلد المضيف، و انكسار الأحلام مع الخطوة الأولى، ولذلك يفسر أن الأعداد البشرية الهائلة المتكدسة في جميع دول العالم، ليس منشؤها الزيادة السكانية الطبيعية في هذه المدينة أو تلك، وإنما عائد ذلك الى الحراك الاجتماعي الذي تشهده هذه المدن، من حيث الانتقال اليها سواء على مستوى الدولة الواحدة، أو سواء على مستوى الأفراد الآتون إليها من مختلف بقاع العالم، مما يشكل ضغطا سكانيا غير منكور يؤثر ذلك بصورة مباشرة على الخدمات التي تقدمها الدولة لسكانها.

تسعى مختلف حكومات العالم الى جعل المدن أكثر قربا من تحقيق أحلام الأفراد، وذلك من خلال ما تضعه فيها من لمسات جمالية مغرية لـ «الزائر الجديد»، وهذا من شأنه أن يغازل الهاجس الموجود عند كل فرد يتمنى أن يعيش في المدينة، على الرغم من أن المدينة في حقيقتها تخفي مناخات صادمة للمشاعر في كثير من الأحيان، وخاصة للأفراد القادمين من القرى والأرياف، فالحميمية الاجتماعية التي تزخر بها الأرياف لا تجد لها مكانا خصبا في المدن، فرجل المدينة يظل طول يومه مشغولا، ولا يأوي الى منزله إلا مع نهاية النهار حيث يكون منهكا من العمل طوال اليوم، ولم يبق معه اتساع من الوقت ليفعّل علاقاته الاجتماعية بالصورة المتوقعة، ولذلك تضمحل هذه الصورة شيئا فشيئا فيتشكل سلوك اجتماعي آخر ليس له مقاييس القرية والريف، وبالتالي حتى لما يعود هذا الفرد المغترب في المدينة الى قريته يكون قد أعاد تشكيل سلوكه الاجتماعي ولو بصورة جزئية، ومع مرور الأيام تكبر هذه الجزئية حتى تكتمل صورتها النهائية، وهذه الصورة النهائية تظهر في سلوكيات أجياله فيما بعد، وخاصة إذا انتقل بأسرته الى المدينة، حيث لن تعود القرية بعد ذلك المناخ الاجتماعي الآمن للابن الذي تربى في المدينة، فلا يلبث إلا أن يعود الى مدينته في أقرب فرصة، ولا يرى في القرية إلا الكآبة والملل.

والمهم في هذا الجانب؛ ليس فقط هذه التحولات الاجتماعية التي يعيشها الأفراد من أثر انتقالهم الى المدن، ولكن المسألة أكثر صعوبة من ذلك بالنسبة للمؤسسات المعنية بتقديم الخدمات في المدن، فالمدن وعلى الرغم من حرص الحكومات على حقنها بخدمات البنى الأساسية وتعزيز دورها لكي تقوم بأدوارها الكاملة، إلا أن الحراك السكاني غير المنظم يربك برامج التنمية التي تضعها الحكومات إما للحد من هذه الهجرات المستمرة، خاصة في الارتقاء بمستوى الخدمات في القرى والأرياف، واما لوضع الموازنات المالية لتعزيز الخدمات، خاصة في المدن التي تعاني من هجرات غير منظمة من قبل هؤلاء الآتين من القرى، ومن هنا تبدو الخدمات ضعيفة وغير متوافقة مع عدد سكان هذه المدينة أو تلك، مما يشكل ضغطا جماهيريا على برامج الحكومات ومطالبتها بتعزيزها، فتقع الحكومات في حرج شديد، وفي إرباك مستمر قد يقوض حالة الاستقرار التي تنشدها من حرصها على تعزيز هذه الخدمات، وتفعيل دورها لكي تغطي الحاجة السكانية الملحة، وهذه إشكالية موضوعية مهمة في المسألة السكانية الى حد كبير، وتعاني منها كل دول العالم، وهذا بدوره لا ينتقص أبدا من الدور الذي تقدمه الدولة لسكانها، لأن ضبط الحراك السكاني غير المنظم ليس يسيرا التحكم فيه، ولو كان بزيادة بسيطة لا تتعدى العشرات من الأسر في السنة الواحدة التي تتخذ قرار الذهاب والاستقرار في المدينة لاستمراريته وتواليتها، مع الأخذ في الاعتبار عدد خريجي الجامعات في التخصصات المختلفة الذين لا يرون تحقيق أحلامهم في القرية، بحكم تخصصاتهم العلمية الدقيقة كالطب والهندسة، وغيرها من التخصصات الحيوية التي لا تجد مكانها إلا في المدن الكبيرة، فكم من عدد الخريجين كل عام على هذه الشاكلة؟!

تحرص دول كثيرة اليوم، ومنها السلطنة على توطين مشروعات التنمية المختلفة، في مختلف القرى او المدن الصغيرة المنتشرة على امتداد البقعة الجغرافية في كل دولة على حدة للقناعة الموجودة - ومن خلال دراسة الواقع - أن هناك فئة ليست قليلة أيضا لا ترغب في العيش في المدن الكبرى عندما تتحقق لهم الخدمات الأساسية في قراهم، وخاصة عندما توجد فروع للمؤسسات الخدمية التي يعملون فيها وتحقق لهم مكسب العيش الكريم، ولذلك فالتوزيع النسبي للمؤسسات في المحافظات الموجود اليوم - على سبيل المثال - في السلطنة أغنى كثيرا من المواطنين عن تجشم عناء السفر او الإقامة في المدن الكبيرة لما يكلفهم ذلك من ابتعاد عن أوساطهم الاجتماعية التي نشأوا عليها ، بالإضافة الى إرهاق موازنة الفرد المالية، وعدم الاستقرار الأسري المنشود، وجاء برنامج «توحيد الرواتب» بين مؤسسات الدولة كعامل مهم في شأن عودة كثير من المواطنين الى ولاياتهم، والانتقال السلس من مؤسسات ليست لها فروع في المحافظات أو الولايات الى مؤسسات يتحقق فيها ذلك، ولذلك شكل ذلك نوعا من الاستقرار الاجتماعي الذي كان حلم كثير من الموظفين العاملين في المدن الكبيرة، وأعطى هذه المدن شيئا من اتساع الأفق في شأن تقديم الخدمات الجيدة، او تقليل الزحام الشديد، وإن كان ذلك غير ملموس بصورة مباشرة، حيث انتقل هذا الثقل النسبي الى حد ما الى المحافظات والولايات، وهذا سيكون واضحا بصورة اكثر على المدى البعيد، وهذا أمر لا شك فيه ، فتوسع مؤسسات الدولة في «التعليم، والصحة، وخدمات الكهرباء والمياه، والخدمات الاجتماعية، وخدمات الاتصالات، وفتح فروع للوزارات الكبرى في مختلف المحافظات والمناطق، والولايات، وحرص هذه الجهات على تجديد برامجها مع كل فترة زمنية تمر، والتوسع فيها وتنميها، وفقا لمتطلبات كل مرحلة» كل ذلك سيحتضن مئات الموظفين من الأجيال الشابة من الجنسين، وسيعفي المدينة الكثير من الحرج في شأن الخدمات العامة، وهذا يقينا لن يلغي أن تكون المدن صورة حالمة في مخيلة الكثيرين، فهذه ثقافة مجتمع، ولا يمكن تغييرها بتوقيع قرار من مسؤول، لأنها قناعات، لأن هناك أيضا من يحاول أن ينتقل من المحافظات الأقل صخبا الى المحافظات التي تظهر فيها تجليات المدن أكثر وضوحا لمستوى المدنية الحضاري في كل شيء، كما يقيمه كل فرد على حدة.

ومع اليقين بواقع المدينة القاسي في كثير من المواقف، وبقناعة الكثيرين من الناس الذين عايشوا، او لا يزالون يعايشون هذا الواقع، ومعرفتهم به المعرفة الكاملة والشاملة، إلا أنه لا تزال وسائل الإعلام تغرب هذا الواقع وتسوق البديل - هنا الصورة الاحتفالية - في كثير من الأعمال الدرامية، وذلك من خلال ما يمر عبر الشريط السينمائي من مشاهد تعطي المدن أحقية التميز في الترفيه، وهو تميز يظل عامل جذب أكثر، وخاصة لفئة الأجيال الشابة، التي ترى نفسها وتحققها عبر هذه المناخات المبهرة والمبهرجة لهذا الواقع، والتي تخاطب العاطفة، وتملأ الفراغ الذي لم تستطع القرية ملأه لقلة مجالات الترفيه المختلفة، ولذلك وتماشيا مع برامج تطوير القرى والأرياف، وهذا دور المجالس البلدية في المر حلة القادمة، أن تسعى الى البحث في هذه الجوانب، وتوفير سبل الترفيه في الولايات، وأولها الحدائق العامة في كل قرية، وتزويد هذه الحدائق بكافة الوسائل الترفيهية، وإيجاد كل الوسائل والسبل للمحافظة عليها، واستدامتها لكي تؤدي خدماتها كاملة من غير نقصان، مع العمل أيضا على تبني فكرة وجود مسارح ومحلات دور للسينما في مراكز المحافظات على أقل تقدير، وذلك كله سعيا لتجفيف منابع الفراغ المؤدية الى ظهور المشاكل والقضايا الشبابية المعروفة والمرتبطة بعمليات التحديث .