أفكار وآراء

إسرائيل نسفت مبكرًا تحركات مؤتمر باريس .. ونتائجه

29 يناير 2017
29 يناير 2017

محمد حسن داود -

لا شك في أن السياسات الإسرائيلية تأتي على رأس العوامل التي تجرد بيان مؤتمر باريس الختامي من أي مضمون قوي إذا وجد من الأساس، فتصرفات حكومة نتانياهو قبل وخلال وبعد انعقاد المؤتمر ساهمت في نسفه منذ البداية حتى النهاية

تجدر الإشارة بداية إلى أن البيان الختامي لمؤتمر باريس -رغم لغته السياسية المسؤولة- يفتقر إلى الآليات والخطوات العملية للبدء في تطبيق حل الدولتين والسقف الزمني له، أضف إلى ذلك أن رفض نتانياهو رئيس وزراء إسرائيل لنتائجه والتي وصفها – كما وصف المؤتمر نفسه من قبل - بأنها عبث وخداع قد يشكل - مع التشدد الذي تبديه إدارة ترامب الجديدة وانحيازها الأكثر وضوحا الى سياساته- معوقا رئيسيا أمام بدء عملية سلام جادة وفعالة تعيد الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وليس خافيًا أن إسرائيل اعتبرت المؤتمر خطوة تبعد فرص السلام على حد تعبير مسؤوليها وفي مقدمتهم نتانياهو الذي قال نصا: إن «المؤتمر الذي يعقد في باريس هو مؤتمر عبثي تم تنسيقه بين الفرنسيين والفلسطينيين بهدف فرض شروط على إسرائيل لا تتناسب مع حاجاتنا الوطنية»، كما اعتبر المؤتمر «خدعة» مؤكدا أن حكومته ترفض لعب أي دور فيه. ولم يقف نتانياهو عند هذا الحد ولكنه واصل تصوراته وضغوطه على الساحة الدولية لتصويره مؤتمر باريس بأنه «ملتقى الأشرار» الذي يسعى لتدمير كل فرص السلام ! وليس أدل على ذلك من تحذيره وزير الخارجية النرويجي بورج بريندي من إن «هناك جهودًا تسعى إلى تدمير فرص تحقيق السلام وأحدها هو مؤتمر باريس» مشيرًا إلى أن «هذا المؤتمر هو عبارة عن خدعة فلسطينية برعاية فرنسية تهدف إلى اعتماد مواقف أخرى معادية لإسرائيل»، وهي ليست المرة الأولى التي يهاجم فيها نتانياهو المؤتمر، فبعد أن أعلن رسميا مقاطعة ورفض بلاده للمؤتمر، عاد مجددا مطلع الشهر الحالي لمهاجمة المؤتمر بوصفه «بفارغ المضمون»، وحذر في الثالث من يناير الجاري من مغبة محاولة تمرير مشروع قرار إضافي ضد إسرائيل في مجلس الأمن الدولي بعد مؤتمر باريس مباشرة. وهذه النقطة تحديدا كانت موضع قلق حقيقي من جانب إسرائيل.

فقد كانت هناك خشية لدى نتانياهو من أن يفضي مؤتمر باريس إلى تبنى واعتماد قرارات جديدة ضد إسرائيل في مجلس الأمن، وقال إن مؤتمر باريس عبثي بالفعل، ولكن هناك مؤشرات على أنه ستكون هناك محاولة لتحويل القرارات التي ستعتمد فيه إلى قرار آخر بمجلس الأمن، وهذا ليس بالأمر العبثي على حد وصفه، مؤكدا أن «الحكومة الإسرائيلية تبذل جهودًا كبيرةً جدًا من أجل منع تبني قرار آخر ضد إسرائيل في مجلس الأمن» وفي هذا السياق جاء كذلك موقف سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة من أنه يخشى من قرار جديد لمجلس الأمن يدعم الفلسطينيين وذلك بعد مؤتمر باريس الدولي حول الشرق الأوسط., وبرغم أن رئيس مجلس الأمن الدولي لشهر يناير السويدي أولوج سكوج، قال إنه لا علم له بنص من هذا النوع، إلا أن السفير الإسرائيلي قال في بيان: «نشهد محاولة للترويج لمبادرة اللحظة الأخيرة قبل تولي الإدارة الأمريكية الجديدة مهامها» مضيفًا أن «أنصار الفلسطينيين يسعون إلى إجراءات أخرى ضد إسرائيل في مجلس الأمن». وكانت تسيبي هوتوفيلي مساعدة وزير الخارجية الإسرائيلي كررت رفض بلادها الشديد للمبادرة الفرنسية، ووصفتها «بوهم بالغ الضرر»! وأكدت أن الطريق الوحيد نحو السلام هو طريق المفاوضات المباشرة بين إسرائيل والفلسطينيين،لافتة إلى أن مؤتمر باريس يبعد إمكانات السلام، معتبرة أن «البلد الوحيد الذي يتعرض لضغوط هو إسرائيل»!

وأغلب الظن – ونتيجة للحملة الإسرائيلية وعوامل أخرى - فان إسرائيل خرجت من هذا المؤتمر – الذي رفضته من الأساس – بأقل الأضرار أو بدون أضرار على الإطلاق وربما بقدر من المكاسب، والسبب في ذلك أيضا ما قاله وزير الخارجية الأمريكي «السابق» جون كيري إن الولايات المتحدة سعت في مؤتمر باريس للحيلولة دون معاملة إسرائيل بشكل غير منصف،مرحبا ببيان المؤتمر الختامي الذي أيد حل الدولتين للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني، مشيرًا إلى أنه لم يتم التوصل إلى هذه النتيجة الإيجابية إلا بعد إصرار دبلوماسيين أمريكيين على تضمين البيان لغة قوية تدين تحريض وهجمات الفلسطينيين على الإسرائيليين (..) وتعكس تصريحات الوزير الأمريكي أسباب نجاة الكيان الصهيوني من إدانة حقيقية بقوله: «لقد أتينا إلى هنا وقاومنا من أجل تعديل ما اعتقدنا أنه غير متوازن أو أنه لا يعبر عن نوع من الاتحاد الذي تحدثت عنه»، مضيفا أنه قام بما هو ضروري لكي يكون البيان متوازنا :«إذا نظرت إليه فإنه يتحدث إلى الجانبين بطرق إيجابية وليست سلبية». مشيرًا إلى أنه تحدث مع رئيس الوزراء الإسرائيلي خلال اجتماع باريس لطمأنته! وقبيل ذلك كانت مصادر إسرائيلية قد أكدت أن وزير الخارجية الأمريكي «طمأن» بالفعل رئيس الوزراء الإسرائيلي بأن مؤتمر باريس للسلام «لن يخرج بقرار معادٍ لإسرائيل» ولفتت إلى أن ذلك أتى خلال اتصال هاتفي أجراه كيري بنتانياهو وذكرت أن «كيري أطلع نتانياهو على التدابير التي اتخذتها الإدارة الأمريكية لمنع اتخاذ أي قرار معادٍ لإسرائيل في المؤتمر» وأشارت إلى أن «كيري وعد نتانياهو بتخفيف لهجة البيان الختامي، الذي سيصدر عن المؤتمر، والعمل على ألا تستغل قرارات المؤتمر ضد إسرائيل في الأمم المتحدة». ولفتت إلى أن «كيري أوضح لنتانياهو أنه لن يكون لمؤتمر باريس أي تبعات في الأمم المتحدة أو غيرها من المحافل الدولية».. ولا شك في أن هذه الاتصالات المكثفة هي في حد ذاتها تعبير صريح عن شعور إسرائيل بالانزعاج من أي مواقف أممية جديدة خاصة بعد قرار مجلس الأمن الدولي أواخر العام الماضي بإدانة الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، ونتيجة له تشهد العلاقة بين إسرائيل والمجتمع الدولي توترا بعد قرار المجلس الرافض للنشاط الاستيطاني الإسرائيلي في الأراضي المحتلة. واتهمت إسرائيل إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، بأنها كانت وراء القرار وتمريره من خلال الامتناع عن استخدام حق النقض «الفيتو» في مجلس الأمن الدولي.

ولكن يبدو أن وجود كيري في مؤتمر باريس وضغوط لندن والحملة الشعواء التي شنها نتانياهو على المؤتمر قد ساعدت بالفعل في وضع حد للضغوط على إسرائيل، وهي ضعيفة من الأساس والأخطر أنها ساعدت إسرائيل للانتقال من مرحلة محاولات منع انعقاد المؤتمر أو تعطيله قبيل وخلال انعقاده إلى مرحلة نسف نتائجه وما جاء في بيانه الختامي، وليس أدل على ذلك من تحديها العالم بضم «معاليه أدوميم» أضخم مستوطنة للقدس المحتلة.. في حلقة جديدة من مسلسل تحدى إسرائيل للإرادة الدولية الرافضة للاحتلال بكل أشكاله وأنواعه، وردًا على قرار مجلس الأمن الدولي الأخير رقم «2334» الداعي لوضع حد للاستيطان بالأراضي الفلسطينية المحتلة،فقد قررت تل أبيب طرح مشروع قانون ضم «معاليه أدوميم» أضخم المستوطنات اليهودية.وتؤكد صحيفة «هاآرتس» الإسرائيلية أن مخططات البناء في هذه المنطقة أثارت انتقادا دوليا شديدا، وتم تأخيرها كلها لأسباب سياسية منذ عام 2005، ولكن ذلك لن يمنع حكومة إسرائيل من المضي قدما في خططها الاستعمارية بما ينسف حل الدولتين على أرض الواقع.

وتجيب إسرائيل بذلك كعادتها وبشكل عملي عن أي تساؤل بشأن مصير قرارات مؤتمر باريس، فاذا كانت قد سعت منذ وقت مبكر وبمساعدة أصدقائها في الغرب إلى نسف أعمال المؤتمر فلا شك في أن خطوتها الخاصة بضم مزيد من الأراضي الفلسطينية المحتلة وتوسيع مستوطناتها برغم الضغوط والقرارات الأممية هي تصرفات تؤكد أن إسرائيل مازالت تضع نفسها فوق القانون الدولي وكل قرارات الأمم المتحدة، الأمر الذي يؤكد أن نتائج مؤتمر باريس سوف تذهب بالفعل أدراج الرياح لتكتب صفحات جديدة في كتاب الفشل الدولي في التعامل الجاد والفعال مع الحقوق العربية عموما والفلسطينية منها على وجه الخصوص.