أفكار وآراء

صراع الأفكار واليقينيات الفلسفية

28 يناير 2017
28 يناير 2017

عبد الله العليان -

في أواخر القرن الماضي بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، طرح بعض المفكرين والكتاب مسألة نهاية الأفكار والنظريات الفلسفية السياسية، ومنها أطروحة نهاية التاريخ التي قال بها الأمريكي/‏‏ الياباني «فرانسيس فوكوياما»، وأن النهاية تبقى عند الفلسفة الغربية الرأسمالية بذاتها، وبالتالي فهي تمثل نهاية النظريات السياسية المعاصرة لكل البشرية ولا شيء بعدها، واعتبارها الخلاص النهائي لكل الحضارات والثقافات، لكن هذه الأطروحة لاقت الكثير من الانتقادات، واعتبرها البعض مجرد زهو من الليبرالية الرأسمالية بسقوط النظرية الاشتراكية، من خلال تفكك الاتحاد السوفييتي وتلاشي المعسكر الشرقي الذي كان يقوده الاتحاد السوفييتي آنذاك،ففي كتابه القيم (الخلاص النهائي)، طرح الدكتور/‏‏ فهمي جدعان رؤيته لقضايا إشكالية، كما طرحت منذ عقود وما تزال، تلقى الحوار والنقاش والخلاف، ومنها قضية العلمنة، ونهاية التاريخ عند الليبرالية الغربية، ونهاية الإنسان الخ، يقول في الأول الفصل من هذا الكتاب «تشخص في العقود الأخيرة من زمننا بما هي عقود «النهايات». أدبيات لا يكاد يكون لها حصر ولا عد لهجت بذلك. أثار غبارها بقوة دانييل بيل في (نهاية الايدولوجيا 1960) وسوّغ تفكك الاتحاد السوفييتي وانهياره للموجة. وأعلن ظفر النظام الرأسمالي الفرداني «نهاية الإنسان» ذي الفضاءات المتعددة وتشكيل «الإنسان ذي البعد الاقتصادي» وروّج فوكوياما لـ «نهاية التاريخ». وتزعزع اليقين الفلسفي وبات أثراً من آثار الحداثة الموضوعية الدراسة. وتجاوزت «العقلانية الاداتية» حدود العقلانية الموضوعية وغيبتّها. وأتمت موجة «ما بعد الحداثة» الرسالة بأن أحلت «الذاتية» في قلب نظام المعرفة والوجود. وامتد التدمير والتفكيك ليطال مفهوم «الهوية» و«الذاتية»- فيجعل منه وهمًا- ومفهوم (الدولة- الوطن) أو (الدولة- الأمة) فيزيحه بإصرار انتصارًا لفكرة «الكونية» والفضاء «العولمي». وقال الشاعر (ييتس): «كل شيء سيتحطم، لم يعد للمركز مستقر». وأعقبه (جون دون): «كل شيء يتطاير شتاتًا، كل تماسك يتبدد، وكذلك كل قسطاس وكل علاقة: الأمير والرعية... الأب والابن.. كلهم باتوا أدوارًا منسية».

والنزعة جارية اليوم أيضًا بدون مهادنة كما يقول د/‏‏ فهمي جدعان، تستحضر وتستأنف القول في مقولات «النهاية». فمنذ عهد بات بعيدًا تكلم شبنجلر على «انهيار الغرب». واليوم يعود فرنسوا هيبسور ليتكلم على «نهاية الغرب»! بينما يشدد ألان رونو على «نهاية السلطة». أما فرنسيس فوكوياما فـ «يبشر» من جديد بـ «نهاية الإنسان»! تقود هذه الدعاوى مفاهيم تستلهم بشكل أو بآخر فلسفات تتردد بين الليبرالية والعلمانية والنسبية والعدمية. ويقول دعاة هذه الفلسفات إن ما يقررونه ينهض في كل تفكير «إيديولوجي»، وإن النسبية والتعدد والاختلاف والتغير الدنيوي والأفق المفتوح الحر هي السمات الجوهرية لما يذهبون إليه.

ليست القضية هنا هي قضية الدفاع عن الدعاوى القائلة إنه لا الإيديولوجيا انتهت، ولا الإنسان تبدد، ولا الدين انحسر، ولا العقلانية الأدباتية جبّت العقلانية الموضوعية، ولا أن «ما بعد الحداثة» قد دمرت الحداثة، ولا أن الغرب قد انهار، أو أن التاريخ قد انتهى، أو أن السلطة قد ترنحت!

القضية هي أن ما يشي به ظاهر العدمية التي تسم دعاوى «النهايات» هذه وتؤكد نزع السمة الإيديولوجية عنها، يؤكد من وجه آخر أن أبرز الفلسفات التي تستند إليها هذه الدعاوى ليست هي نفسها في حقيقة الأمر إلا «أُخرويات» أو «أسكاتولوجيات دنيوية»، أي أيديولوجيات في الماهية والوظيفة والمترع، وأن روحها العميقة تتسم بالإطلاق والقطعية والوثوقية أو الدجماطية.

أن جذور الليبرالية الغريبة، كما يرى فهمي جدعان، سواء كانت سياسية أو فلسفية أو اقتصادية، منذ ظهورها، في القرن السابع عشر، ومابعده، هي ذات أشكال مختلفة، فليبرالية (ماديسون) ليس هي ليبرالية (هايك)، وليبرالية (بتنام) ليس هي ليبرالية (توكفيل). والحدود بين الليبراليات تصطدم مثلما يقول ميكائيل جارندو بحقل دلالي تتكدس فيه أكثر المعاني تباينا وتتردد فيه المسألة في الآن نفسه بين «الاعتقاد»، والفلسفة، والممارسة السياسية. وهذا الخلط الذي يجعل اليوم من الديمقراطية والرأسمالية مرادفين لليبرالية، يصب بكل تأكيد في مصلحة بعض المقاصد السياسية التي تأذن بالتساؤل عما إذا كانت هذه المقاصد نفسها ليبرالية. وهكذا فإن من مصلحة التطورات الحديثة لليبرالية الاقتصادية التي يبدو أنها برغم مناداتها بعدد من الحقوق الطبيعية وثيقة الصلة بقانون الأقوى، أن تقدم نفسها بما هي المتابع لتقليد لم ينقطع. ما هو، مع ذلك، الشيء المشترك مع ليبرالية قانونية تنسب نفسها إلى تيار (الديمقراطية الاجتماعية) وبهذا المعنى يمكن القول إن أية محاولة للجمع في مركب واحد بين الممثلين الكبار لليبرالية تنطوي على «مغامرة» صريحة. فحقيقة الأمر أن الليبرالية ليست مذهبا موحدا، وأنها كما يقول بيبر روزنفالون: في الآن نفسه، «ثقافة» و«تقنية» في الحكم. إنها خطاب يستجيب لمتطلبات اللحظة التي فرضها ما تم الاتفاق على تسميته «المجتمع المدني»، بما اشتمل عليه من ثروات وأشخاص. وهذا ما يجب أن تتداركه النخب العربية التي يجب أن تدرس عملية الانضمام الى منظمة التجارة العالمية والاندماج في اقتصاديات السوق الدولية، من خلال برامج وخطط منهجية علمية مدروسة للاستفادة من وسائل وتقنيات الجديد في عالم التبادلات التجارية، وبما لا يجعل دخولنا في هذه المنظمات خطوة إيجابية لا مجرد رقم مستهلك فقط أو تابع يفرض عليه ما تمليه الدول الأكثر تقدما في عالم الاقتصاد والتكنولوجيا.

ولذلك فإن الغرب الآن لا تحكمه نظرية اقتصادية واحدة متكاملة، كما يقول جدعان: بل هناك نظريات وتباينات في المفهوم الاقتصادي الغربي، يقترب بعضها من بعض إلى حد التقاطع، ومن هنا نجد أن تطبيقات العولمة في الغرب وهي البنت الشرعية لليبرالية لها الكثير من المحاذير والتوجسات في تلك القارة. بل وحتى الرفض وبخاصة بعض الدول الأوروبية ومنها فرنسا التي ترفض الانفتاح على السلع الأمريكية الاستهلاكية. وهناك الكثير من الملاحظات والمناقشات على اشتراطات التجارة الحرة حتى في الغرب نفسه أيضا، وهو المتقدم تكنولوجياً والمتقارب فكرياً، فما بالك بظروفنا نحن الذين نقع في السلم الأخير في النشاط الاقتصادي والتقدم العلمي والتكنولوجي.

فالليبرالية الغربية الحالية كما يرى جدعان، لم تأت هكذا دفعة وإنما خضعت لتحولات وتطورات وصراعات، وتكونت في الغرب ليبراليات كثيرة عبر مسيرة الاقتصاد الرأسمالي، فهناك الليبرالية المطلقة، والليبرالية المنظمة، والليبرالية الطائشة التي مهدت للليبرالية الجديدة التي جاءت بعد الكساد الكبير والتضخم في الولايات وبعض الدول الغربية وإدخال نظم جديدة تحد من النظم الليبرالية المنفتحة.