أفكار وآراء

تراجع القدرات العربية في غياب العمل المشترك

28 يناير 2017
28 يناير 2017

د. عبد العاطي محمد -

ليس من الصعوبة بمكان على الرأي العام العربي أن يربط بين ما يرصده من تضاؤل لمظاهر القوة في الجسد العربي الواحدة تلو الأخرى, وبين ما يجرى في المشهد العام من الاستغراق في المكايدة السياسية والحملات الإعلامية المتبادلة.

لقد أصبح من المعتاد أن يستيقظ المهمومون بالشأن العربي كل يوم على صدمة هنا أو هناك وعلى معارك كلامية حامية لا تتوقف فقط عند تبادل الاتهامات بالفشل وإنما تتعداه إلى الاتهامات بالتخوين. شيء من هذا القبيل لم يكن حاضرا قبل سنوات مضت برغم أن الواقع العربي آنذاك لم يكن خاليا من الأزمات بمختلف صورها أو ألوانها. وقتها كانت لا تزال هناك بقية مما يمكن تسميته بالمناعة العربية التي صنعها العمل العربي المشترك عقب الانتقال إلى مرحلة الاستقلال الوطني.

من خلال تلك المناعة كان يجرى استيعاب الأزمات ودرء معظم إن لم يكن كل ما يهدد مكتسبات الدولة الوطنية. وقد تشكلت تلك المناعة بفضل الاتفاق أو التوافق العربي على قيم ومبادئ محددة تتعلق بالقضية الأم وهى الحل العادل للقضية الفلسطينية وبوحدة التراب الوطني لكل دولة, وبالهوية العربية الإسلامية وبالأمن القومي لكل دولة وبالنمو الاقتصادي.

ولكن الانصراف تدريجيا عن العمل العربي المشترك واستبداله بالعمل الأحادي الجانب جعل هذه المناعة تتآكل يوما بعد الآخر إلى حد فقدانها وعليه لم يعد باستطاعة الجسد العربي وأعضائه منفردين أن يتصدى للأزمات ويتجاوزها حتى ولو بقليل من الخسائر مثلما كان يحدث في الماضي وقت أن كانت هذه المناعة موجودة.

مظاهر الهوان في المشهد العربي قائمة أو واضحة تماما لكل ذي عينين على أكثر من صعيد. فالقضية الفلسطينية أصبحت تسمى النزاع الفلسطيني الإسرائيلي. بالوصف الأول الموروث عن الأجداد الذين حاولوا وقف المشروع الصهيوني ومنع قيام الدولة الإسرائيلية على تراب فلسطين هي قضية العرب جميعا وجوهر الصراع العربي الإسرائيلي بينما الوصف الثاني يخرج القضية من أصلها ويجعلها فرعا بحصرها في نطاق ثنائي فقط هو الطرفان: السلطة الفلسطينية والحكومات الإسرائيلية المتعاقبة. في هذه الحالة يتراجع الدور العربي بحثا عن الحل العادل وينفض القضية من يديه ويلقي بها في حجر السلطة الفلسطينية وحدها. ومن الصحيح أنه على المستوى الرسمي العربي لا يزال هذا الدور العربي قائما والشواهد عليه كثيرة لا مجال للتدليل عليها في هذا المقام. ولكن ما هو حاصل بالفعل غير ذلك إلى حد كبير. فمصير القضية أصبح مجهولا في ضوء كل ما ارتكبته الحكومات الإسرائيلية من جرائم وبناء مستوطنات واستمرار للاحتلال دون أن ينتقل الدور العربي من القول إلى الفعل. وما ذلك العجز إلا لسبب بسيط هو غياب الموقف العربي المشترك لفرض الحل العادل للقضية حيث التباين في المواقف والسياسات تأثرا بمبدأ تفضيل العمل العربي الأحادي على العمل الموحد. أما واقع الحال هكذا فلا مدعاة للدهشة أو الشعور بالصدمة عندما يؤكد الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب مثلا أنه لن يتراجع عن وعوده لإسرائيل بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس. فما كان يعتبر من المحرمات أو الخطوط الحمراء في زمن المناعة العربية لم يعد كذلك في زمن التشتت.

من جهة أخرى فإن ما يجرى على صعيد الوحدة الجغرافية ينذر بالتفتيت أو تقسيم المقسم أصلا. وتكفي نظرة واحدة على واقع الحال في سوريا والعراق وليبيا واليمن للتدليل على ذلك. وما طرح مفاهيم مثل الفيدرالية والاتحادية وفي أخف الأحوال اللامركزية إلا محاولة لتجميل التقسيم. ومع أن هذه المفاهيم مقبولة ويمكن العمل بأي منها لحل مشكلات التباين بين التكوينات المجتمعية لأسباب دينية أو عرقية أو لغوية وثبت نجاحها في تجارب مجتمعية عديدة إلا أن مقومات نجاحها لا تتوافر بالنسبة لهذه الدول ومن أهم المقومات وجود توافق ورضا مجتمعي عامين على أي حل من هذه الحلول وإيمان عميق من جانب كل المكونات بالديمقراطية سواء من حيث ما تتطلبه من ثقافة ومؤسسات وهو ما لا يمكن الادعاء بتوافره في المناطق العربية الساخنة المعاصرة. وحتى لو تم التسليم بهذا التوجه فإن المعلن في المشهد لا يقول ذلك بالمرة حيث إما هناك رفض صريح له من السلطات القائمة أو النافذة أو وجود حالة من الصراع الشرس على امتلاك السلطة بين جميع الأطراف المنخرطة في هذه الأزمة أو تلك مما يعنى أن الحاصل واقعيا هو فرض أشكال من التقسيم تقضي على الوحدة الجغرافية في كل الأحوال.

وكما الوحدة الجغرافية ليست بعافية لا يمكن الادعاء بأن الأمن القومي العربي بعافية أيضا لا على المستوى الفردي أو الجماعي. فالكل يصرخ كل صباح من الخطر المحدق على أمنه والشواهد على ذلك كثيرة لا يتسع المجال لذكرها. يكفي الإشارة إلى العمليات الإرهابية التي تقع كل يوم تقريبا حيث تعد سوريا والعراق وليبيا ومصر نماذج صارخة في هذا المجال على خلفية الحروب الدائرة مع تنظيم «داعش» وأخواته. وبوجه عام أصبحت مواجهة الإرهاب هما عاما في المنطقة بأثرها. وفي نفس السياق أصبحت المنطقة مسرحا للتدخل الأجنبي إما بفعل الاستدعاء العربي لهذا التدخل أحيانا أو بفعل حدوث التدخل عنوة أحيانا أخرى. كما أن التهديدات القائمة للأمن القومي أفرزت ظاهرة خطيرة غير مسبوقة في التاريخ المعاصر لدولة الاستقلال الوطني العربية ألا وهى ظهور الميليشيات المسلحة بديلا للقوة الوطنية المشروعة مما أدى إلى تآكل وغياب القانون والشرعية ومن ثم انتشار الفوضى.

وعلى صعيد أخر امتد العبث إلى الهوية العربية الإسلامية. فحتى وقت ليس بالبعيد كان القلق على الهوية منصبا على تحديات العولمة من جهة وما كان يسمى بصراع الحضارات من جهة أخرى. وقتها كان هناك رفضا عربيا جماعيا للتخلي عن الجذور الثقافية لصالح العولمة بوصفها توجه العصر كما تم رفض دعوى صراع الحضارات لأنها كانت تبحث عن عدو جديد بعد سقوط الشيوعية وزعم أصحابها في الغرب أن ما سموه الخطر الأخضر (في إشارة للدول الإسلامية) هو العدو الجديد للغرب الذي يتعين هزيمته. ولكن لا دعوى العولمة ولا الزعم بصراع الحضارات هز هوية المنطقة العربية الإسلامية. إلا أن الخطر في الوقت المعاصر طرأ من الداخل هذه المرة وليس من الخارج وذلك عندما احتدم الخلاف إلى حد الكراهية والعداوة بين أبناء المجتمع الواحد حول تأثير الدين في الحياة العامة وخصوصا في المجال السياسي حيث بدأت تظهر من جديد الفتن المذهبية من جهة واحتدم الصراع على السلطة بين ما أصبح يسمى بجماعات الإسلام السياسي والنظم القائمة من جهة أخرى. ووسط هذا الخلاف لم يعد غريبا أن يردد البعض التساؤل تلو الآخر فيما لم يكن محلا للتساؤل أصلا في الماضي القريب كأن يثور التساؤل مثلا: عن أية هوية عربية وإسلامية نتحدث؟!

وجاء وقت كان فيه الاقتصاد أحد أهم عوامل تشكيل المناعة العربية في امتصاص الأزمات وتجاوزها. وتجسد ذلك في تحقيق معدلات نمو اقتصادي مضطرد على صعيد كل قطر عربي والاهتمام بتفعيل خطوات التكامل الاقتصادي بين الأقطار العربية ككل. ولكن عجلة الزمن أعادت هذا وذاك إلى الوراء تدريجيا لأسباب عديدة بعضها يتعلق بتعثر برامج التنمية والبعض الآخر بالضغوط الخارجية وبالتراجع في معدلات النمو للاقتصاد العالمي. وقد تفاقم الوضع بعد اندلاع ما أصبح يسمى بثورات الربيع العربي التي تسببت بطبيعتها في تآكل جانب كبير من الثروة العربية وأوقفت خطط التكامل الاقتصادي.

لم يكن متوقعا في ظل كل هذه التراجعات أن تتحصل الدول العربية مجتمعة ككتلة إقليمية على المكانة الدولية التي تعبر عن قدراتها الحقيقية الجماعية. فبوجه عام هناك مؤشرات يستدل بها على المكانة الدولية كأن يتم إظهار الاستقلالية والموقف الجماعي في منظومة المجتمع الدولي بخصوص أزمة أو قضية ما يجرى التعامل معها دوليا, أو التأكيد على تجنب التدخل الخارجي والقدرة على حل الأزمة في نطاقها الإقليمي فقط. وما حدث في حالات الأزمات المتعلقة بالأوضاع في العراق وسوريا واليمن وليبيا يشير إلى تراجع المكانة العربية دوليا. فلا المظهر الجماعي العربي برهن على وجود قدرة على تجنب تدخل المجتمع الدولي ولا على تولي زمام الحل في أي من هذه الأزمات ولا حتى على اتخاذ موقف موحد ومستقل في مواجهة المجتمع الدولي بعد أن وقع الفأس في الرأس.

قائمة التراجع في القدرات العربية تطول وأصبح مصير الدول الوطنية على المحك. وليس هناك من طريق لتجاوز ما أفرزه زمن التشتت من وهن إلا بالعودة إلى العمل العربي المشترك بصدق وإخلاص إنقاذا لقدرات الدولة الوطنية في المقام الأول وبالتبعية إنقاذ الدول العربية مجتمعة عملا بقاعدة التحدي والاستجابة.