أفكار وآراء

الدولار القوي والتجارة الدولية والأزمات

27 يناير 2017
27 يناير 2017

آندرو شلينج - ترجمة قاسم مكي -

ستريتس تايمز- سنغافورة -

لقد أوضح المسح أن عملات البلدان الصاعدة خصوصا اليوان الصيني حققت تقدما في دوران سوق النقد الأجنبي على حساب اليورو والجنيه الاسترليني والين الياباني. ولكن تداول عملات البلدان الصاعدة يتم أساسا مقابل الدولار الأمريكي (في تزاوجٍ معه) مما يعزز موقعه المتميز.  

قبل قرن أوجدت الثورة الروسية في عام 1917 انقساما أيديولوجيا طبع القرن العشرين بطابعه. وقبل عشرين عاما في 1997م اندلعت الأزمة المالية الآسيوية. ثم أعقبتها بعد 10 أعوام لاحقا الأزمة المالية (أو بدقة أكثر الأزمة المالية الشمال- أطلسية). السؤال: هل سيشهد عام 2017 انفجار أزمة مالية قاسية أخرى خصوصا في بلدان الاقتصادات الصاعدة؟ الخيط المشترك الذي يربط كل هذه الأزمات الأربعة هو الدولار الأمريكي. ففي عام 1917م وبعد أن أوشكت الحرب العالمية الأولي على إلحاق الإفلاس ببريطانيا العظمى بدأ الدولار الأمريكي رحلة تفوقه على الجنيه الاسترليني. وتأكد ذلك التفوق بعد الحرب العالمية الثانية. كما ارتبطت أزمة أمريكا اللاتينية في أعوام الثمانينات والأزمة المالية الآسيوية في التسعينات بفترات تعززت فيها قوة الدولار. وكانت أزمة الرهونات العقارية الأمريكية في عام 2007 نتيجة لتغافل الولايات المتحدة عن هشاشة سوق الرهونات العقارية «المترعة حتى الثمالة» بمشتقات مالية سامة باعتها بنوك استثمارية كانت قد تجاوزت الحد في استخدام رافعاتها المالية. ولكن دور الدولار صار متميزا حين اشتعلت أزمة ديون منطقة اليورو في عام 2008 لأن عقود تبادل العملات بين بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي وخمس بنوك مركزية رئيسية كانت مصدر السيولة لاحتواء انتشار عدوى الأزمة حول العالم. لقد شكلت الأزمة المالية العالمية في عام 2007 خطا فاصلا في الشؤون المالية الدولية. واعتقد عديدون أن الأزمة التي آذت الولايات المتحدة وأوروبا ستؤكد صعود نجم بلدان الاقتصادات الصاعدة، خصوصا اقتصادات البريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا). نعم في البداية انطلقت هذه البلدان، وبالأخص تلك المنتجة للسلع، بعد أن بدأت الصين استثمارها البذخي في عام 2009. ولكن حالما تباطأ إنفاق بيجينج في 2014 لتصحيح تجاوزاتها الائتمانية انهارت أسعار السلع. واليوم تواجه بلدان صاعدة عديدة بما في ذلك في آسيا تدهورا في التجارة وانخفاضا في فوائض ميزان المدفوعات وتباطؤا في النمو وخسائر في احتياطات النقد الأجنبي.

وفي الشهر الماضي حين حقق دونالد ترامب فوزا غير متوقع في الانتخابات الأمريكية حدثت نوبة غضب دولارية أخرى خرجت فيها الرساميل من البلدان الصاعدة مما تسبب في ضغوط حادة على أسعار صرف كل العملات بما في ذلك اليوان الصيني. وفي استعراض للاقتصاد العالمي مؤخرا قال جيروم باول محافظ بنك الاحتياطي الفيدرالي: إن تباطؤ التجارة العالمية قد يكون هيكليا وإن على البلدان الصاعدة إعادة التفكير في استراتيجية النمو الذي تقوده الصادرات. إن تنافس البلدان الصاعدة في خفض أسعار عملاتها قد يرتد وبالا عليها. فقد أوضحت أبحاث أجراها مؤخرا بنك التسويات الدولية أن النمو وخفض سعر الصرف «مثل ركبتي البعير يقومان معا «خصوصا في حال البلدان الصاعدة. والمشكلة ليست في ضعف نمو اقتصادات هذه البلدان أو عملاتها ولكن في قوة الدولار. وكان المسح الذي يجريه بنك التسويات الدولية للعملات الصعبة كل ثلاث سنوات قد أظهر في أبريل 2016 أن الدولار حافظ على موقعه بصفته عملة الاحتياط المهيمنة. فهو يتم تداوله في 88% من تجارة العملات (في تبادل زوجي مع العملات الأخرى.) وهذا يساوي 44% من إجمالي تداول الصرف الأجنبي . لقد أوضح المسح أن عملات البلدان الصاعدة، خصوصا اليوان الصيني، حققت تقدما في دوران سوق النقد الأجنبي على حساب اليورو والجنيه الاسترليني والين الياباني. ولكن تداول عملات البلدان الصاعدة يتم أساسا مقابل الدولار الأمريكي (في تزاوج معه) مما يعزز من موقعه المتميز.

ويؤكد تعافي اقتصاد الولايات المتحدة صحة القول المأثور إن الأسرع في الإصلاح سيكون أول من يتعافى عقب الأزمة. فبعد 10 أعوام من أزمة 2007 لا تزال هنالك شكوك حول جدوى الإصلاحات الهيكلية في أوروبا واليابان فيما أدى لانعدام التقدم في الإصلاح في العديد من الاقتصادات الآسيوية إلى إبطاء قدرتها على الاستجابة لعودة الدولار القوي. والسبب الحقيقي لارتباط الدولار «القوي» بتباطؤ التجارة العالمية هو أن أي تقلب في أسعار العملات الأخرى سيؤدي مع تقويم التجارة بالدولار إلى توسيع هوامش الائتمان والعملات مما يجعل التجارة أكثر تكلفة.

إلى ذلك، تقيد الإصلاحات المصرفية الجديدة دور البنوك الأمريكية في صناعة سوق تداول العملات الأجنبية مما يجعل دولارات الخارج أكثر كلفة من دولارات الداخل. وهنا تتموضع المشكلة التي تواجه المصدرين الآسيويين، فمع تقليص المنافسة للهوامش الربحية المتحققة من تجارة الصادر يوسع انخفاض قيمة العملة المحلية من الفجوة في تكاليف المعاملات مما يجعل الصادرات أقل ربحية والواردات أكثر تكلفة. ويتضح بحسب وصية جيروم باول أن الاستراتيجية البديلة هي التحول إلى الاستهلاك المحلي. ولكن العديد من الاقتصادات الآسيوية الصغيرة لا تملك أسواقا محلية واسعة. إضافة لذلك فمع بدء الصين والهند والبلدان الصاعدة الكبيرة الأخرى في ترقية إنتاجيتها وتنافسيتها ستجد بلدان الدخل المتوسط الأصغر منها أن عمليات الإنتاج في قطاعاتها الصناعية يتم نقلها إلى الخارج. ثمة ما يشكل مصدرا للخطر وهو قيام البلدان بحماية اقتصاداتها بمختلف أشكال السيطرة على رؤوس الأموال. وهذا ما يوجد في الواقع حواجز تجارية. ولن يفيد التجارة الدولية الانهيار المرجح لشراكة عبر المحيط الهادي التي يعارضها ترامب علنا. إن الشراكة الإقليمية الاقتصادية الشاملة التي تقودها الصين لتعزيز منطقة التجارة الحرة بين بلدان الآسيان وستة شركاء تجاريين كبار آخرين (الصين واليابان وكوريا الجنوبية والهند وأستراليا) تعد بالكثير. ولكن يحتاج بلوغ اتفاق بشأنها إلى وقت. وكما يقول المثل الصيني القديم فإن الماء البعيد لا يمكنه إطفاء الحرائق القريبة.

المفارقة التي تواجه آسيا هي أنها تظل منطقة نمو عالمي بها مدخرات فائضة. ولكن هذه المدخرات يتم تخزينها باطراد في عملة الدولار بدلا عن تحويلها إلى اقتصادات آسيوية عديدة تحتاج إلى العملة الصعبة للحفاظ على زخم نموها. وهذا يطرح سؤالا حول قدرة المراكز المالية الآسيوية في التحول إلى مراكز تتوسط في نقل المدخرات الآسيوية إلى الاقتصادات الناشئة الآسيوية وإلى سواها بدلا من أن تكون مراكز فرعية لسوقي وول ستريت ولندن. ومع بدء البنوك الأمريكية والأوروبية في الانسحاب إلى أسواقها المحلية تحت ضغط إجراءات تنظيمية جديدة حول تحمل المخاطر فإن المؤسسات المالية الآسيوية ليست مستعدة تماما لسد الفجوات. ويعود هذا في جزء منه إلى نفس هذه الإجراءات الجديدة بالضبط. على الجهات التنظيمية الآسيوية ألا تلوم إلا نفسها لفشلها في تقدير أن هذه الإجراءات العالمية تقف في وجه الحاجة إلى نمو اقتصادات بلدانها. فتجنب المخاطر التي تتطلبها هذه الإجراءات يعني الخوف من النمو. بكلمات أخرى يجب أن يتحمل واضعو السياسات الآسيويون مخاطر أكبر للتغلب على الحواجز الذهنية والتنظيمية التي تعوق النمو. فحين تتطلب الأعداد المتزايدة من السكان في آسيا نموا أسرع سيكون عدم النمو هو الخطر الأكبر. لقد حان الوقت لاتخاذ قرارات صعبة.

• الكاتب زميل بمعهد آسيا الدولي، جامعة هونج كونج.