907503
907503
إشراقات

الوسوسة تكون من أهل الشر من الجن .. ومن بني آدم الشيطان بين كر وفر حول أسوار قلوب أهل الإيمان

26 يناير 2017
26 يناير 2017

«هدايات الرحمن وقفات مع آيات القرآن» -

أكد الشيخ إسماعيل بن ناصر العوفي في ختام وقفاته مع سورة الناس أن الخلاصة من هذه المعاني كلها في قوله تعالى: «مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ» أن الوسوسة تكون من أهل الشر، وأهل الشر الموسوسون يكونون من الجن، ويكونون من بني آدم، والموسوس لهم يكونون من الجن ويكونون من بني آدم.

وأشار إلى أن الشيطان بين كر وفر حول أسوار قلوب أهل الإيمان، يوسوس لهم، فإذا ذكر الموسوس له الله ذكرًا نابعًا من القلب فر الشيطان، فإذا غفل عاد إليه، وهكذا يعيش الشيطان بين كر وفر حول أسوار قلوب أهل الإيمان، وأما أتباع الشيطان فقد انتصر عليهم في صراع استنفذ فيه الشيطان قواه كلها، واستعمل أسلحته كلها، وجاءهم من كل جانب، ولم يدخر جهدا، فقد أنفق كل شيء عنده من الحيل والأساليب.. والى ما جاء من «هدايات الرحمن وقفات مع آيات القرآن».

يوضح العوفي أن وسوسة الوسواس في الصدور دلت على أمرين: ذكر المولى -جل جلاله- في هذه الآية الكريمة (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) أن وسوسة (الوَسواس) تكون في صدور الناس، وفي ذلك إشارة إلى أمرين: أولهما: خطورة (الوَسواس)؛ فقد ذكر القرآن أن وسوسته تكون في الصدور، وعلى هذا لم يبق بينه وبين القلب إلا قبول الموسوس له للوسوسة، وهنا يكون الافتراق بين أهل الإيمان وأهل الخسران؛ فأهل الإيمان يتذكرون الله فإذا هم مبصرون، وأهل الخسران يواصلون المسير مع الشيطان إلى أن يوقعهم في المخالفة؛ فيتخلى عنهم، نعم، يتخلى عنهم في الدنيا، ويتخلى عنهم في الآخرة، وقد صور القرآن هاتين الصورتين تصويرًا يجعل العاقل يقول للوسواس: «هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ» (الكهف)، يقول الله تعالى مصورًا تخلي الشيطان في الدنيا عن الموسوس له الذي تبعه وسار في طريقه: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الأنفال)، والخوف من الله الذي يذكره الشيطان إنما هو خوف من نزول عقاب الله به في الدنيا، وليس الخوف الذي يدفع إلى الخشية من الله التي تحمل صاحبها على الطاعة، كمثل من يترك شيئًا نهى عنه المدير لا لأنه ملتزم بنظام الإدارة، بل لأنه يخاف حرمانه من إجازته أو الخصم من راتبه، ويقول الله تعالى مصورا تخلي الشيطان عن الإنسان وتبرؤه منه في الآخرة: «كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ»ﱠ (الحشر).

ثانيهما: من رحمة الله في ابتلائه لعباده أن الوسوسة تكون في الصدور لا في القلوب؛ لأن وقوع الوسوسة في القلوب تؤدي بالإنسان إلى الانضمام إلى حزب الشيطان، ومن انضم إلى حزب الشيطان كان من الخاسرين.

مناسبة

وقد وقع التعبير عن فعل الوسوسة بالفعل المضارع، فقيل (يوسوس)، والفعل المضارع دال على التجدد والحدوث، والمعنى أن (الوسواس) في عمل دائم ومستمر، ولا ينفك عن عمله، فهذه صنعته التي يعيش من أجلها، وليس له عمل آخر، وهو متفرغ تمام التفرغ لأداء وظيفته بكل مهارة وإتقان، وقد تقدم أن الله سماه (الوسواس)، والوسواس مصدر الفعل (وسوس) والمصدر يدل على الفعل؛ فكأن الشيطان هو الوسوسة نفسها، والوسوسة تتمثل فيه تمثلاً تامًا ليس له نظير، كقولهم: محمد عدل، و(عدل) مصدر، ولكن المتكلم أراد أن يعبر عن رسوخ قدم محمد في العدل حتى كأنه هو العدل نفسه.

كلها في الإغواء

والشيطان بين كر وفر حول أسوار قلوب أهل الإيمان، يوسوس لهم، فإذا ذكر الموسوس له الله ذكرًا نابعًا من القلب فر الشيطان، فإذا غفل عاد إليه، وهكذا يعيش الشيطان بين كر وفر حول أسوار قلوب أهل الإيمان، وأما أتباع الشيطان فقد انتصر عليهم في صراع استنفذ فيه الشيطان قواه كلها، واستعمل أسلحته كلها، وجاءهم من كل جانب، ولم يدخر جهدا، فقد أنفق كل شيء عنده من الحيل والأساليب، وقد صور الله هذا المعنى في القرآن تصويرا دقيقا يدل على أن الشيطان يستنفذ كل شيء عنده في صراعه الموسوس لهم، فقال: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا) (الإسراء)، فقد صور القرآن الشيطان في صورة قائد عسكري كبير يغير على قوم، فيصيح فيهم بصوت عال، فيزعجهم، فيجعلهم يتحركون اتجاهه، فيأمر كتائبه المكونة من كتائب مشاة وكتائب ركبان، فتهجم على المستهدفين، ولا يزال بهم حتى يضمهم إليه، ويجعلهم بين يديه، فيتحكم فيهم، ويشاركهم في أخص خصوصياتهم، يشاركهم في أموالهم، فيجعلهم يصرفونها فيما يشاء، ويشاركهم في أولادهم، فيجعلهم يهملونهم ويربونهم على السوء، فينضمون إلى معسكر الشيطان وهم صغار.

مستمر في الوسوسة لأتباعه

ومع هذا كله فإن الشيطان لا يترك أتباعه وإن ضمن تبعيتهم، بل يتعهدهم بالوسوسة حفاظا عليهم في صفه، وضمانا لبقائهم معه، فلا يزال يجرهم من شر إلى شر حتى يوقعهم في التهلكة (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ) (الأعراف)، وعندها يتبرأ منهم، ويتخلى عنهم، وفق الصفة التي صورها لنا القرآن، نعم، يتعهدهم بالوسوسة على مدار اليوم والليلة؛ لأن الغفلة عن الوسوسة لهم قد تجعل قلوبهم المأسورة تفكر في الحرية والانتقال من الضيق الذي هي فيه إلى سعة الدنيا والآخرة في ظلال طاعة الله موقنين إيقانا تاما أن (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (الشورى)، وهذا فعل الوسواس مع أتباعه، وأما أهل الإيمان فحالهم (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ)، ولذلك وقع التعبير في أول السورة الشريفة بالفعل المضارع (أعوذ) في مقابل الفعل المضارع (يوسوس)؛ فالوسوسة المتجددة تدفعها الاستعاذة المتجددة المستمرة المتمثلة في الوجود الدائم في دائرة الحماية الربانية.

القرآن يكشف حالة من حالاته

وصلة الموصول (الذي) وهي الجملة الفعلية (يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) تكشف حالة من حالات الاسم الموصول لا حقيقة الاسم الموصول الذي يعود على (الوَسواس)؛ لأن الوسواس له حالات لا سيما إذا كان من بني آدم، نعم، تلك الحالات تبدأ بالوسوسة، ولكن قد يتعدى الأمر الوسوسة إلى الإكراه على فعل المخالفة والتهديد والإغراء بالمال وغير ذلك من وسائل أهل الشر في إغواء المكلفين، ولكن من لزم دائرة الحماية الربانية كان في سلامة (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا) (الأنعام)، فالإتيان بالاسم الموصول وصلته في هذا المقام له دلالته التي لا تتحقق إلا بهما.

من الجن ومن بني آدم

هذا البيان العجيب في هذه الآية الكريمة (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) قد يكون بيانا لكلمة (الناس) التي ذكرت في الآية التي قبل هذه الآية، وهي (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ)، والمعنى أن الذين يوسوس في صدورهم يكونون من الجن، ويكونون من بني آدم، وقد يكون الغرض من هذا البيان رفع توهم قد يكون واقعا في الأذهان، وهو أن الوسوسة تقع لبني آدم، ولا تقع للجن؛ فبين الله أنها واقعة في صدور الجن أيضا، ولا يسلمون منها، كما يقع ذلك لبني آدم، ولذلك كان من الجنة المسلمون الذين تبعوا داعي الله، والقاسطون الذين أجابوا داعي الشيطان، وهذا الذي صرح به القرآن على لسان الجن أنفسهم، فقال: (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا) الجن، وقال: «وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا، وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا ، وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا، وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا» (الجن)، وعلى هذا تكون كلمة (النّاس) معطوفة على كلمة (الجِنّة)، ويكون المراد بكلمة (النّاس) في الآية (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) الناس، الجن وبني آدم، وقد تقدم ذكر ذلك والاستشهاد له من إشارات القرآن ومن كلام العرب؛ فقد سماهم الله في القرآن (رجالاً) و(نفراً) كما يسمى بذلك بنو آدم. وقد يقال كلمة (النّاس) إذا جاءت وحدها أريد بها بنو آدم والجن، وإذا ذكرت مقترنة بالجن أو بالجنة أريد بها بنو آدم خصوصا على ما هي الحال في هذه الآية الكريمة (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ)، ولا شك أن الخطاب الذي خاطب الله به الناس في القرآن يدخل فيه بنو آدم والجن.

وقد تكون الآية (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) الناس، بيانا لكلمة (الوسواس) في الآية (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ)، والمعنى أن الذين يوسوسون يكونون من الجنة، ويكونون من الناس، وقد يكون تقديم كلمة (الجِنة) على كلمة (الناس) للإشارة إلى أن الجن هم أصل الوسوسة؛ فأصل الوسوسة إبليس، فقد (كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) (الكهف)، فتقع الوسوسة من الجن لبني آدم ابتداء، ثم يتحول فريق من بني آدم إلى العمل الذي يقوم به الموسوسون من الجن؛ فيكونون موسوسين، بل هناك من الموسوسين من بني آدم من يتفوق على الموسوسين من الجن، فيتقن وسائل وأساليب في السعي إلى الإغواء قد لا يتقنها الموسوسون من الجن، والعياذ بالله، وقد صور الشاعر هذا المعنى، فقال:

وكنت امرأ من جند إبليس فارتقى

بي الأمر حتى صار إبليس من جندي

فلو مات قبلي كنت أحسن بعده

طرائق فسق ليس يحسنها بعدي

وذكر (الناس) فيه تنبيه على أن منهم موسوسين، وليست الوسوسة مقصورة على الجن.

يوسوس لأهل النسيان

وقد يكون المراد بكلمة (الناس) في الآية «الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ» الناسي، والمعنى أن وسوسة الوسواس تكون في صدور أهل النسيان، والمراد بالنسيان الغفلة وترك العمل بآيات الله، يقول المولى جل جلاله (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) (طه)، ثم بينت الآية الأخيرة «مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ» أن هذا النوع من النسيان وهو الغفلة عن الله وترك العمل بآيات الله يكون من الجنة، ويكون من بني آدم، والجنة وبنو آدم هم الناس، وقد حذفت ياء (الناسي) على حد قول الله تعالى: «يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ» (القمر)، فيقال: (الداعي) بإثبات الياء، و(الداع) من غير إثبات للياء، وهما وجهان وردت بهما العربية.

بني آدم أعظم خطرا من الجن

وقد تكون كلمة (الناس) في الآية «مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ» معطوفة على كلمة (الوسواس)، وعلى هذا يكون المقصود بكلمة (الوسواس) الموسوسين من الجن، وقد وقع بيان ذلك بقوله تعالى: «مِنَ الْجِنَّةِ»؛ فيكون المعنى من شر الوسواس من الجنة، وبهذا قد تكون الاستعادة واقعة من شيئين وهما: الوسواس من الجنة، والشيء الثاني هو الناس، وعطف كلمة (الناس) على كلمة (الوسواس) يدل على أن (الناس) قد وقعت الاستعاذة من شرهم مرتين؛ لأن العطف على نية تكرار العامل، والعامل هو (أعوذ)، فكأنه قيل مرتين: أعوذ من شر الناس، أعوذ من شر الناس، وهذا المعنى على هذا الوجه يشير إلى خطورة أهل الشر من بني آدم، وأنهم أشد خطرا، وأعظم ضررا من أهل الشر من الجنة؛ وقد يكون لهذا المعنى وقع تقديم شياطين الإنس على شياطين الجن في قوله تعالى: « وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ » (الأنعام).