الملف السياسي

تأكيد جديد على «العبث» الدولي

23 يناير 2017
23 يناير 2017

أ.د. حسني نصر -

قبل أن يجف الحبر الذي كتب به بيان مؤتمر باريس حول الشرق الأوسط الذي عقد في العاصمة الفرنسية الأحد  قبل الفائت، كان الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب يمحو في حديث لإحدى الصحف الإسرائيلية نشر الخميس الماضي، أهم ما ورد في هذا البيان، وذلك بتأكيد التزامه بتنفيذ وعده الانتخابي بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس المحتلة.

إذا أضفنا إلى ذلك تأكيد مصادر إسرائيلية أن الإعلان عن نقل السفارة الأمريكية سوف يتم الأسبوع المقبل، وأن طاقما أمريكيا قام مؤخرا بتفقد الموقع المخصص لإقامة مبنى السفارة في القدس، يمكن القول إن مؤتمر باريس الذي شاركت فيه سبعون دولة ومنظمة دولية، لم يكن سوى تظاهرة كلامية تستهدف استمرار تخدير الفلسطينيين والعرب لمتابعة طريق التفاوض الذي لا ينتهي، والذي يضمن لإسرائيل بقاء الأوضاع على ما هي عليه.

ويمكن القول إن ما خرج به مؤتمر باريس كان في جوهره عملية تجميل لوجه المجتمع الدولي المنحاز وإعادة إنتاج لمسيرة طويلة من المؤتمرات والبيانات الخطابية التي بدأت منذ اتفاق أوسلو، وهي المسيرة التي لن تنتهي قريبا طالما ظلت إسرائيل على عنادها وصلفها. من المؤكد أن الرئيس الفرنسي وضيوفه بمن في ذلك ممثلي الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة وجامعة الدول العربية والمؤتمر الإسلامي كانوا يعلمون وهم يكتبون البيان الختامي انه غير قابل للتنفيذ، لسبب بسيط وهو الرفض الإسرائيلي وبالتالي الرفض الأمريكي لأية محاولة لوضع الدولة الصهيونية أمام مسؤولياتها وإجبارها على تنفيذ حل الدولتين. ومع غياب الطرفين المعنيين، الفلسطينيين والإسرائيليين، عن المؤتمر بدا المؤتمر كله أقرب إلى محاولة ترضية الطرف الأضعف وإبراء مؤقت لذمة المجتمع الدولي من استمرار ضياع الحق الفلسطيني.

في هذا السياق يمكن النظر إلى مؤتمر باريس باعتباره حلقة من حلقات الكر والفر المتواصل بين المجتمع الدولي وإسرائيل والذي غالبا ما تنتصر فيه الأخيرة بفضل الدعم الأمريكي غير المحدود لها، فيما يكتفي المجتمع الدولي عبر مثل هذه المؤتمرات بالتأكيد على بعض الثوابت والمسلمات، مثل الالتزام بحل الدولتين، والعودة إلى حدود ما قبل يونيو 1967، والتفاوض حول القدس واللاجئين ووقف الاستيطان في الأراضي المحتلة. والواقع أن هذا التأكيد، وإن كان مطلوبا حتى لا ينسى العالم بما في ذلك العالم العربي قضية فلسطين، إلا انه لم يعد ذا أهمية كبيرة على الصعيد العملي في ظل رفض إسرائيل المستمر والقاطع لتنفيذ ولو الحد الأدنى من هذه الالتزامات التي فرضها عليها المجتمع الدولي. وقد شاهدنا حجم الغضب الإسرائيلي من القرار التاريخي الذي يحمل رقم 2334 الذي أصدره مجلس الأمن الدولي ويطالبها بالوقف الفوري والكامل لجميع الأنشطة الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس الشرقية، والذي تم تمريره في الثالث والعشرين من ديسمبر الفائت بتأييد 14 عضوا وامتناع الولايات المتحدة عن التصويت، بل وإعلانها - إسرائيل - تحدي القرار وعزمها عدم الالتزام به، وكان القرار الدولي الأول الذي يدين الاستيطان الإسرائيلي بعد مرور خمسة وثلاثين عاما على آخر قرار صدر بهذا الشأن، وهو القرار 446 الصادر في العام 1979، الذي اعتبر بناء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية غير مشروع وعقبة في طريق السلام.

ما الجديد الذي قدمه مؤتمر باريس؟ الواقع يقول إن المؤتمر الذي أصرت فرنسا على عقده دون حضور الطرفين المعنيين لم يقدم جديدا على أي مستوى، بل انه فتح العيون على حقيقة مهمة جدا يجب أخذها في الاعتبار من الجانب الفلسطيني والعربي وهي أن الثوابت والمسلمات التي ما زلنا نتمسك بها ويتمسك بها المجتمع الدولي على مستوى التصريحات والمؤتمرات، أصبحت في ظل الظروف الدولية الراهنة وانشغال القوى الكبرى بملفات وصراعات دولية أخرى تبدو اكثر أهمية مثل محاربة الإرهاب والصراع في سوريا، بالإضافة إلى حالة التشرذم التي يعيشها العرب والفلسطينيون، وتزايد القوة الإسرائيلية على جميع الأصعدة، أصبحت مستحيلة التحقق، بل أن بعضها تحول - أو كاد يتحول - بفعل الزمن والظروف إلى مجرد أوهام وأحلام يقظة عربية. إذ هل يتخيل عاقل الآن أن تعود إسرائيل طواعية لتنفذ القرار الأممي 242 وتعيد الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى ما كانت عليه قبل حرب حزيران 1967 وتتخلى بإرادتها عن كل ما قاتلت لأجله وانتزعته من أراض فلسطينية؟ وكيف ستعيد مناطق الضفة الغربية التي أصبحت خريطتها مقطعة الأوصال بوجود المستوطنات اليهودية التي يسكنها حالياً حوالي نصف مليون نسمة، وهل يمكن أن تعيد القدس الشرقية التي أصبحت جزءا من عاصمتها الأبدية كما تقول؟ المؤكد وفقا لرؤية الإسرائيليين أن العودة إلى حدود ما قبل 1967 أصبحت مستحيلة بعد أن تحايلت إسرائيل على هذا النص وفرغته من محتواه بأن أدخلت تغيرات ديموغرافية على الأراضي الفلسطينية من خلال بناء المستوطنات اليهودية على مدار السنوات الطويلة الماضية. وما يقال عن حدود يونيو يقال أيضا عن القدس التي خضعت وما زالت لعمليات تهويد منظمة يصعب معها الحديث عن إعادتها للفلسطينيين لتكون عاصمة لدولتهم المنتظرة، كما يمكن أن يقال أيضا عن قضية اللاجئين التي لا تحظى باتفاق فلسطيني- فلسطيني حتى الآن.

يبقي السؤال المهم الذي يطرحه هذا الملف وهو هل يحرك مؤتمر باريس عملية السلام أم يذهب بها إلى طي النسيان؟ الواقع في ضوء ما طرحناه أن مؤتمر باريس لن يحرك شيئا ما لم تكن هناك نوايا إسرائيلية جادة للتحرك. هذه النوايا ترتبط بحجم الضغوط التي يمكن أن يتعرض لها الكيان الصهيوني للتقدم خطوة نحو عملية السلام وإعادة إحيائها. وفي ظل وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وعزمه الوفاء بكل وعوده لإسرائيل بما في ذلك نقل السفارة الامريكية إلى القدس، وفي ظل تردى الأوضاع العربية وحالة الصراع التي تعيشها دول المواجهة العربية، والأزمات الاقتصادية التي تواجهها دول الخليج نتيجة انخفاض أسعار النفط في ظل كل ذلك فان إسرائيل لا تجد نفسها في حاجة للتفاوض او التفريط في المكاسب التي راكمتها في السنوات الصعبة، إذ كيف تتخلي في عصرها الذهبي عن أشياء رفضت التخلي عنها عندما كانت دولة صغيرة منبوذة ومحاصرة عربيا ودوليا. ولعل هذا ما دفع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو إلى وصف مؤتمر باريس بأنه «مؤتمر عبثي يهدف إلى فرض شروط على إسرائيل لا تتناسب مع حاجاتنا الوطنية»، وهو نفس الوصف الذي استخدمه فوزي برهوم الناطق باسم حركة المقاومة الإسلامية «حماس» الذي قال إن «مؤتمر باريس هو إعادة إنتاج للنهج التفاوضي العبثي، الذي ضيَّع حقوق الشعب الفلسطيني» على حد قوله .

يحتاج الأمر إلى اعتراف فلسطيني وعربي عاجل بفشل المسيرة التفاوضية مع إسرائيل، فلا العرب سيتنازلون عن الحقوق الفلسطينية، ولا إسرائيل ستتنازل وتعود إلى حدود يونيو 1967 أو تعيد القدس أو ترضي بتنفيذ حل الدولتين. المعادلة الآن وبعد مؤتمر باريس والرفض الإسرائيلي القاطع لمقرراته أصبحت صفرية بامتياز، وهي معادلة كسبت فيها إسرائيل كل شيء وخسر فيها الفلسطينيون كل شيء. من هنا يجب البحث عن مقاربة جديدة للقضية الفلسطينية، تبدأ من الداخل الفلسطيني عبر توافق وطني جامع يطرح مسارات جديدة للمستقبل، بما في ذلك مسار المقاومة، بعيدا عن الحلول التقليدية التي أكد مؤتمر باريس استحالة تنفيذها.