Untitled-1
Untitled-1
شرفات

في رواية «المفقود».. عليك أن تخبر الآخرين

23 يناير 2017
23 يناير 2017

ليلى البلوشية -

[email protected] -

إنها حكاية حب وحرب، المتضادان أبدا في هذه الحياة، حيث الحب يطهر ما خلفته الحرب من قذارات روحية وجسدية وشروخ غائرة في الذاكرة، حيث الحب يرمم أبدا على سبيل المحاولة ليس إلا ليخلّص الذاكرة من أثقال الفقدان ومفارقة من نحبهم، في رواية «المفقود» للروائية الكندية «كيم إكلين» ترجمة المترجمة السورية «أماني لازار»، دار ممدوح عدوان 2016م، سنجد الحب والحرب في آن، كما سنصطدم بعاهات بشرية صنعوا الحروب وأشاعوا الرعب، هؤلاء هم أنفسهم ارتكبوا جرائم في حق البشرية، هذه الرواية فضحت الإبادة الجماعية الكمبودية التي وقعت عام 1975م– 1979م، التي قضى فيها مليونا شخص، فكل من كان يعارض الحكومة يُقتل بدم بارد، حيث السياسة التي تحكمت بكل شيء وكل نظام سياسي كان يمارس قمعه بطريقته: «كان الناس يتبادلون التحية تحت حكم سيهانوك قائلين: كم من الأطفال لديك؟ تحت حكم لون نول، قال الناس: هل أنت بخير؟ تحت حكم الخمير الحمر: كم من الطعام تحصل من جمعيتك التعاونية؟ الآن نقول: كم بقي من أفراد عائلتك على قيد الحياة»؟

لكل كمبودي في التاريخ مفقوده ولـــ«آن جريفر» مفقودها الخالد أيضا، «سيري» الرجل الذي أحبّته في مونتريال، يغادرها إلى حرب جبارة لا ملامح لها، يغرق لأعوام فيها، تكبر آن ويكبر حبها له معها، ترفض كل عروض الحياة في غيابه ثم تعتزم على البحث عنه، البحث عن حبيب تاه عنها وسط أهوال وطن منكوب بالمفقودين، فيأتيها خبر عن مكان وجوده في بنوم بنه، المكان الذي فقد فيه كان وكرا للمخدرات والدعارة وللانسحاق البشري، لقد التقت به كحبيب كما لو أنهما لم يفترقا يوما وحبلت منه رغم أن الطفلة في رحمها فقدت نبض الحياة فيها، ثم على حين فجأة تلاشى من أمامها من كائن بشري إلى لا جثة مكتملة فحسب بل مجرد جمجمة بهويّة مبطّنة: «لم أعرف الميت، كيف يمكن لهذه القطعة الصغيرة من العظام أن تؤذي العالم؟ بالتأكيد لم تكن لك، لا يمكن لهذه الجمجمة الصغيرة أن تكون لك، كنت لا تزال حيا في مكان ما، ثم رأيت كسرة هلالية على السن الأمامي متدلية في الفك العلوي».

بعد رحلة بحث مديدة أدركت آن أنها فقدت حبها وإلى الأبد، فقدته مرة وثانية وثالثة وللمرة الأخيرة، لقد كان فقده موجعا، كان ثقبا في القلب، خواء مهولا لا يقل عن هول ما فقدته كل امرأة كمبودية، لقد حصلت آن على جمجمة كدليل على فقده، لكن أخريات فقدن كل شيء، لقد تراكمت الجثث في كل مكان، دون أن تُدفن، تفسخت، تحللت، صارت شيئا لا هوية له، صاروا مفقودين، دون أن يبالي أحد من السياسيين، كان همهم هو نحر كل من كان يقف في طريقهم، لقد عاقبوا شعبهم بقسوة شبيهة بالموت، ولا أشد قسوة من موت يسحق الحياة في قلوب الأحياء الذين فجعوا بمن يحبونهم ..!

لقد سعت الروائية «كيم إكلين» إلى قراءات متعمقة بكل ما يتعلق بإبادة الكمبوديين، وطرحت في الرواية حكايات عديدة عن صدى هذه الإبادة عند الناس، عند أولئك الذين عايشوا ذلك الزمن الموجع وشكل الهلع ومراحلة سياسيا، لقد عبرت بقوة عن ذكرياتهم الفجّة، عن كوابيسهم، عن مفقوديهم، وذلك من خلال اللقاء بهم والاستماع لمعاناتهم : «التقيت امرأة في السوق روت لي قصة فقدانها كامل أفراد عائلتها، وعندما قلت: هل يمكنني المساعدة ؟ ماذا في وسعي أن أفعل؟ . كان جوابها : «لا شيء، فقط أردتك أن تعرفي».

لقد درت الروائية من خلال تجربتها في كمبوديا أن الشيء الوحيد الذي بات الكمبوديون يحتاجونه وبكثافة روحية عالية هو الإخبار عن أهوال ما مروا به، الحديث عن مفقوديهم، وكأن الحديث كان يحيي قلوب من تعرضوا للخسران، لقد أرادوا كشط الألم، وجعل الذاكرة تفرغ حزنها على هيئة كلمات، صارت تتبع سياسة لا يعرفها الزعماء، صناع الحرب والدمار، إنها سياسة «أخبر الآخرين»، لقد وجد هؤلاء المفقودون حياة أخرى عبر هذه السياسة.

«كيف يمكن للناس أن يواصلوا العيش دون معرفة ما حلّ بعائلاتهم؟ «كيف يمكن لهم أن يعيشوا دون الحقيقة؟» «المفقود» إنها رواية تغرز أسئلة حادة في القلب والذاكرة للإنسانية القادمة، لتاريخ أكثر إنصافا، لبشر أكثر إنسانية، استفهامات من الصعب أن تنام هادئا بعد أن تصطدم روحك بها.