904341
904341
تقارير

تقرير : ترامب يطيح بتقاليد الرئاسة في خطاب تنصيبه مهاجما إرث أوباما والنخب السياسية

21 يناير 2017
21 يناير 2017

لم يكن خطاب تنصيب رئاسيا هذا الذي ألقاه الرئيس الخامس والأربعون للولايات المتحدة دونالد ترامب مساء أمس الأول فور أدائه اليمين وتنصيبه.

بل كان أقرب إلى واحد من خطاباته العديدة التي اعتاد إلقاءها خلال نحو عامين من حملته الانتخابية. خطاب وصف بأنه تقسيمي بعباراته القومية المتشددة، وشعاراته الشعبوية ونبراته المطلقة (سنجعل أمريكا عظيمة ثانية.. أمريكا تأتي أولا وقبل كل شيء. يجب أن تشتروا منتجات أمريكية وتوظفوا أمريكيين)، تلك هي ذات النبرات التي دغدغ بها ترامب مشاعر الملايين من الأمريكيين وشنف آذانهم بها ولقيت أصداء واسعة وقوية لدى قطاعات عريضة من أولئك الذين فقدوا الثقة في نظام سياسي وسياسيين لم يفوا بوعودهم على مستويات متعددة. كل هذا كان مفهوما كخطاب انتخابي لشحن وشحذ همم الناخبين للتصويت له وقد كان وفاز بالرئاسة.

قدم الرئيس ترامب رؤية للعالم مطلقة في حديها الأساسيين: إما نحن نفوز وننعم بالرخاء والقوة والعظمة وإما العالم. رؤية يراها الكثيرون انعزالية بل ومستحيلة في عالم يزداد اعتماد دوله وكتله الإقليمية المختلفة على بعضها البعض. (أوروبا التي يثني ترامب على تصويت بريطانيا للخروج منها ويشجع على تفكيكها في اتفاق وتوافق صارخ مع أجندة الرئيس الروسي بوتين، هي الشريك التجاري الأكبر للولايات المتحدة، والشريك العسكري الأكبر والأقوى عبر حلف الناتو).

ليس في التقاليد الأمريكية أن يهاجم الرئيس في خطاب تنصيبه الرئيس الخارج لتوه من البيت الأبيض والجالس على بعد أمتار منه

(والذي استقبله قبل قليل وزوجته على سلالم البيت الأبيض وقاداهما الى لقاء ودي وداعي أخير)، وسط رهط من الرؤساء السابقين وصفوة الطبقة السياسية الأمريكية. نفس هذه الطبقة التي لم يوفرها ترامب في خطابه فانهال عليها بمطرقة متهما إياها بأنها أثرت على حساب الأمريكيين وتركتهم يتجرعون الفاقة والعوز؟ نفس هؤلاء السياسيين الذين وصمهم ترامب بالانتهازية والاستغراق في الكلام والجدل دون عمل أي شيء، كانوا ضيوفه بعد أقل من ساعة على العشاء الرئاسي في قاعة فخمة بمبنى (الكابيتول هيل). وكيف سيعمل معهم إذن بعد أن أهال عليهم التراب على هذا النحو المشين!؟

قدم ترامب صورة قاتمة لأمريكا شبه المنهارة، الضعيفة، ترتع الجريمة المنظمة في شوارع مدنها، وينتشر الفقر والبطالة بين أبنائها ومترعة بالأشلاء والدماء؟ فضلا عن مجافاة تلك الصورة لأمريكا التي تسلمها ذلك الرئيس السابق الجالس على مرأى ومسمع منه قبل 8 سنوات أسيرة أزمة اقتصادية خانقة تمسك بتلابيب الاقتصاد العالمي برمته وليس الأمريكي وحده، فانتشل هذا الاقتصاد من عثراته، وأنقذ صناعة السيارات التي كانت على وشك الإفلاس، وهبط بمستويات البطالة لأدنى مستوى لها منذ عقود، واستحدث إجراءات قانونية صارمة تحول دون تكرار السيناريو الاقتصادي المرعب ثانية. فضلا عن زيف هذه الصورة السوداوية، فإن مجرد تطرق الرئيس ترامب لها كان علامة على الغلظة والجلافة ومجافاة التقاليد على نحو فج.

هو ترامب نفسه الذي أهال الثناء على أوباما وزوجته لكرمهما وتعاونهما الفائق في تحقيق عملية انتقال سلس للسلطة لإدارته. هو نفسه ترامب الذي خَص خصوم الأمس، هيلاري وزوجها الرئيس الأسبق بيل كلينتون بآيات الشكر والتقدير لحضورهما حفل التنصيب والغداء الرئاسي داعيا الحضور للوقوف إجلالا لهما. هناك إذا ترامبان لا ترامب واحد. ترامب الشخصية العامة الذي

يتبنى خطابا قوميا شعبويا محافظا محملا بنبرات مسيحية إقصائية أحيانا بل وتحمل شبهة عنصرية كامنة، يغدق خلاله الوعود والأحلام الوردية على أنصاره. كان خطابا متسقا تماما مع النزعة الدينية المبالغ فيها التي طغت على مراسم التنصيب. استقدم ترامب 6 قساوسة يمثلون كنائس وتيارات دينية مختلفة فضلا عن حاخام يهودي. ألقى كل منهم موعظة إنجيلية توراتية كان أكثرها غرابة موعظة القس غراهام الذي أوشك أن يرفع ترامب لمصاف الأنبياء.

وكما كان متوقعا لم يكن المسلمون مدعوين لهذا القداس الديني. لكن ترامب خصهم فقط مرتبطين بـ(الإرهاب الإسلامي المتطرف) الذي اقسم قي خطابه على أن يستأصل شأفته. أما الملايين من مسلمي أمريكا فلا ذكر لهم.

وترامب الوجه الآخر الأكثر خصوصية الذي يتصرف دائماً على نحو راق ومهذب كـ(جنتلمان) حتى مع خصومه ويغدق عليهم الثناء وآيات العرفان. كيف في نفس الساعة تقريبا تهاجم رئيسا استقبلك لتوه وزوجته بترحاب وحفاوة وفقا للتقاليد فيما لا تتورع انت عن كسر التقاليد ذاتها. فأي الاثنين يتعين على الأمريكيين، ومن ورائهم العالم، أن يصدقوا؟

حتى الآن لم يتراء من وعود ترامب الكثيرة إلا ما يثبت عدم صدقها. فالرجل الذي وعد بتجفيف المستنقع، في إشارة إلى تخليص عاصمة القرار السياسي الأولى في العالم، نفس واشنطن التي نصبته رئيسا وهاجم من قلبها طبقتها السياسية، من جماعات الضغط وأصحاب المصالح، اختار أركان إدارته من وزراء ومستشارين من نفس أديم هذا المستنقع: جنرالات ومرشحون سابقون منافسون له وحكام ولايات ورجال كونجرس حاليون أو سابقون. الأدهى من ذلك أن نصف هؤلاء أعلنوا خلال جلسات الاستجواب بهدف إقرار تعيينهم من الكونجرس مواقف وسياسات مناقضة تماما لما دأب هو على إعلانه. (موقف وزير الدفاع الجنرال ماتييس ووزير الخارجية تييلرسون من روسيا على سبيل المثال لا الحصر).

ترامب الرئيس الخامس والأربعون استهل عهده بتوقيع أمر رئاسي بإنشاء درع صاروخية لحماية أمريكا. ممّن؟ إذا كان هو نفسه من دأب على التغزل في الرئيس الروسي بوتين والإصرار على أن يبني علاقة تعاون وصداقة جديدة مع روسيا، وطي صفحة الماضي، بعد أن اقر على مضض بأنها كانت وراء عمليات القرصنة الإلكترونية ضد بلاده خلال الحملة الانتخابية، بعد أن كال الاتهامات للإعلام وخصومه وأجهزة المخابرات بتسييس القضية للتشكيك في شرعيته.

الرئيس الجديد جلس بعد تنصيبه يوقع على قرارات رئاسية بتعيين أركان حكومته ممن تم إقرارهم من الكونجرس، محاطا بأبنائه من زوجاته السابقات والحالية وزوجاتهم وبناته وأزواجهن وأطفالهم (أحفاد وحفيدات). وإحداهن ظلت ملتصقة به خلال التوقيع تقاطعه من حين لآخر. كان مشهدا فريدا لنوع من الديمقراطية العائلية لم نره على هذا النحو من العلانية في اكثر بلدان العالم الثالث ديكتاتورية. الرئيس الجديد اعلن أيضا انه يود أن يعهد إلى ابنته (ايفانكا) بدور (السيدة الأولى)، وليس زوجته (ميلانيا) ذات الأصول اليوغسلافية (من سلوفينيا الحالية)، لأن الأخيرة ستبقى في نيويورك مع ابنهما الأصغر ليتابع دراسته هناك.

هو الرئيس الذي أصر على تعيين زوج ابنته مستشارا سياسيا خاصا زعم انه سيعهد إليه حل مشكلة الشرق الأوسط المزمنة بين الفلسطينيين والإسرائليين. (غني عن القول ان زوج الابنة هذا يهودي سبق لأسرته أن تبرعت للمستوطنات الإسرائيلية بآلاف الدولارات). وهو الذي اختار على المنوال ذاته، من بين كل المرشحين الممكنين، سفيرا لأمريكا لدى إسرائيل شخصية يهودية متطرفة من أشد المؤيدين للمستوطنات والرافضين تماما لحل الدولتين. ولا ننسى بالطبع إعلانه الصريح بعزمه نقل السفارة الأمريكية إلى القدس. وإدانته لقرار الأمم المتحدة بإدانة المستوطنات الإسرائيلية ومسارعة الكونجرس لاستصدار قرار بإدانة القرار الأممي واعتباره كأنه لم يكن. (بل إن ترامب حاول إقناع الرئيس الفرنسي هولاند بإلغاء مؤتمر سلام الشرق الأوسط الذي عقد في باريس الأحد الماضي).

أين كل هذا إذن من وعود تجفيف المستنقع؟ أوليس اللوبي اليهودي من أقوى اللوبيات في أمريكا؟ الذي يعمل ليل نهار لصالح إسرائيل على حساب المصالح الأمريكية في معظم الحالات بشهادة ما لا حصر له من السياسيين والخبراء والمعلقين الحاليين والسابقين.