902112
902112
إشراقات

تكرار كلمة «الناس» في السورة إشارة إلى أسلوب تعليمي لترسيخ الحقائق وغرسها في الأذهان

19 يناير 2017
19 يناير 2017

«هدايات الرحمن .. وقفات مع آيات القرآن» -

متابعة: سيف بن سالم الفضيلي -

أوضح الشيخ إسماعيل بن ناصر العوفي في دروسه التي يقدمها بجامع الإمام السالمي بالخوير «هدايات الرحمن .. وقفات مع آيات القرآن» أن تكرار كلمة (النَّاسِ) ثلاث مرات فيه إشارة إلى أسلوب تعليمي عجيب في ترسيخ الحقائق وغرسها في الأذهان فالتكرار يولّد عقيدة في قلب المكرر له سواء كانت تلك العقيدة حقا أو باطلا وفي هذه الإشارة شيء من التوجيه الرباني إلى ضرورة ملء العقول الفارغة – وما أكثرها – بالإيمان الراسخ واليقين الثابت باستعمال هذا الأسلوب الشريف وهو أسلوب التكرار الذي له معنى، وفي ذلك إشارة إلى أن الإنسان في حاجة إلى هذا الأسلوب ولا بد من استعماله وقد تعددت القوالب التي تعرض فيها الحقيقة، والحقيقة واحدة.

غرض الوصف الثالث (إِلَهِ النَّاسِ)

ثم ذكر الله وصفا ثالثا لا يكون إلا الله وهو (إِلَهِ النَّاسِ) فلا يستحق العبادة إلا الله، وفي ذكر هذا الوصف إشارة إلى أن الله خالق الناس، وتذكير لهم بهذه الحقيقة؛ لأن العبادة لا تكون من أحد لأحد إلا من المخلوق للخالق، والله لم يخلقهم إلا لعبادته (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات 56)، فالموسوس والموسوس له مخلوقات خلقها الله، والخالق يتصرف في المخلوق تصرفا مطلقا (يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) (آل عمران 40) و (يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) (سورة المائدة 1).

مناسبة ..

ويقول العوفي: إن أتينا إلى كلمة (مالك) وكلمة (مَلِكِ) بالنظر إلى معنييهما عند المخلوقين لوجدنا أن مالك الشيء لا يتصرف فيه تصرفا مطلقا؛ فالتصرف في المملوك من الملك له حدود، والملك على الشيء لا يتصرف فيه تصرفا مطلقا أيضا، بل لا تصرفه فيه له حدود، نعم، معنى هذين الوصفين في حق الله يختلف اختلافا تاما عن معناهما في حق المخلوقين ولكن الله بذكره هذا الوصف الشريف (إِلَهِ النَّاسِ) أتى بما لا يترك مجالا لذرة من ظن من الموسوس أنه يستطيع إلحاق ضرر بالموسوس له أو جره إلى حزبه إلا بإذن الله وهذا أمر صرح به الموسوسون أنفسهم فقد حكى الله عنهم قولهم (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (ص 83،82) وسورة (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ترشد إلى هذا المعنى العقيم على ما سيأتي بيانه إن شاء الله.

وأتى الله بذكره هذا الوصف الشريف (إِلَهِ النَّاسِ) بما لا يترك ذرة من ظن من الموسوس له أن هناك من يستطيع إلحاق ضرر به بوسوسته له أو جره إلى حزبه إلا بإذن الله؛ لأن الله (إِلَهِ النَّاسِ) واستحق الألوهية لأنه خالقهم فلا يستحق العبادة إلا خالق وخالق الشيء يتصرف فيه تصرفا مطلقا ولا يكون ذلك إلا للخالق.

مناسبة ذكر كلمة (النَّاسِ) مرة ثالثة

وقد ذكرت كلمة (النَّاسِ) إظهارا لا إضمارا للمرة الثالثة ولم يؤت بالضمير للتأكيد على المعنى المتقدم وترسيخه في القلوب حتى يكون عقيدة فالموسوس – وان عظمت حيلته لا يعدو أن يكون من الناس وكونه من الناس دليلا ليس من بعده دليل على ضعفه وقلة حيلته وقد تقدم أن الله أعطى الموسوس لهم سلاحا يدفعون به كيد الموسوسين ويجعلهم في سلامة منهم.

لفتة عجيبة في السورة

وتكرار كلمة (النَّاسِ) ثلاث مرات فيه إشارة إلى أسلوب تعليمي عجيب في ترسيخ الحقائق وغرسها في الأذهان فالتكرار يولّد عقيدة في قلب المكرر له سواء كانت تلك العقيدة حقا أو باطلا وفي هذه الإشارة شيء من التوجيه الرباني إلى ضرورة ملء العقول الفارغة – وما أكثرها – بالإيمان الراسخ واليقين الثابت باستعمال هذا الأسلوب الشريف وهو أسلوب التكرار الذي له معنى، وفي ذلك إشارة إلى أن الإنسان في حاجة إلى هذا الأسلوب ولا بد من استعماله وقد تعددت القوالب التي تعرض فيها الحقيقة، والحقيقة واحدة.

وفي الآية (مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ) فإن الغرض من التعبير بكلمة (الْوَسْوَاسِ) لا كلمة (الشّيطان) فإن «الْوَسْوَاسِ» هو الصوت الخفي الذي لا يسمعه إلا المقصود به وهذا هو شأن الموسوس سواء كان من الجنة أو من بني آدم فإنه يأتي في صورة الناصح الذي يحرص على الانفراد بالمنصوح وعرض النصيحة عليه بصوت خفي وهذا الذي وقع لآدم عليه السلام فقد جاء الشيطان في صورة الناصح مقسما انه له من الناصحين (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ، وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (الأعراف 20-21) ولذلك كان الإنسان مأمورا بصبر نفسه (مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) (الكهف 28) وقد قيل: من انفرد به الشيطان.

ويفنّد العوفي الغرض من التعبير لكلمة (الْوَسْوَاسِ) لا كلمة (المُوسوِس): وقد استعملت كلمة (الْوَسْوَاسِ) ولم تستعمل كلمة (الموسوِس) او كلمة (الشّيطان) للدلالة على عظيم كيده ومكره في الوسوسة فكلمة (الْوَسْوَاسِ) مصدر والمصدر على الحدث، فإطلاق المصدر وهو (الْوَسْوَاسِ) على الموسوِس فيه إشارة إلى أن الموسوس كأنه هو (الْوَسْوَاسِ) نفسه، كقولهم: محمد عدلٌ أي: كأن محمدا هو العدل نفسه، وفي إطلاق الوسواس على الموسوس إشارة إلى تخصصه الدقيق في هذا العمل وهو الوسوسة، وتفرغه التام له وعدم اشتغاله بغيره وامتلاكه وسائل وأساليب تمكنه من القيام بالعمل الذي يقوم به ومن عظيم تخصص الوسواس وتمكنه من عمله أنه يأتي كل إنسان من الباب الذي يحبه فيأتي العالم من باب العلم ويأتي التاجر من باب التجارة ويأتي محل الجاه من باب الجاه.

الوسواس يدرس شخصية الموسوس له

فالوسواس يدرس شخصية الموسوس له دراسة عميقة تمكنه من الدخول إلى قلبه والتأثير على عقله ويظهر لنا هذا المعنى في قصة الشيطان مع آدم عليه السلام وزوجه وقد ذكر الله هذه القصة في القرآن مرات فقد تقدم أن الله أباح لآدم وزوجه الأكل من أشجار الجنة كلها إلا شجرة واحدة، فوسوس الشيطان لآدم فترك آدم كل ما في الجنة وتوجهت نفسه إلى تلك الشجرة التي منع منها فأكل منها ومن طبع الإنسان انه يحب الخلود ولذلك جاء الشيطان آدم من جهة الأمر الذي يرغب فيه وهو الخلد والدلالة على ملك لا يبلى (قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى) (طه 120) وحلف أنه ناصح له وقد حذره الله منه ويبين له أنه عدو له ولزوجه (فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) (طه 117) وقد دخل آدم عليه السلام في حالة من النسيان من عمل الشيطان (وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ).

الشياطين ذوو تخصصات

وخبرة الشيطان بأحوال الناس وتخصصاتهم أمر ظاهر وحسبنا النظر إلى الصلاة فنجد الشيطان يأتي المتخصص في اللغة فيشغله في الصلاة باللغة ويأتي التخصص في الرياضيات فيشغله بالرياضيات ويأتي المشتغل بالتجارة فيشغله بالتجارة ويأتي المشتغل بالزراعة فيشغله بالزراعة، وقد دلت بعض الأحاديث أن الشياطين ذوو تخصصات فكل شيطان يعمل في مجال تخصصه ففي الحديث «إن لبدء الوضوء شيطانا يقال له الولهان فاحذروه» فالشيطان المذكور في الحديث متخصص في جعل المتوضئ يسرف في استعمال الماء عند الوضوء فيدخل فيمن قال الله فيهم (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ).

الخنّاس

السلاح الذي يقهر الوسواس

ولكن ذكر الله بعد ذلك ان هذا المخلوق وهو (الوَسواس) يكون شيئا في غاية الضعف والهوان؛ بل لا يكون شيئا مذكورا في مقابل القوة التي أعطاها الله لمن يريد اتقاء شره ورد كيده فقال الله واصفا الوسواس: (الخنّاس) والخناس مأخوذ من الخنس او الخنوس ومعنى الخنس او الخنوس التأخر فالوسواس وهو الشيطان تجده يخنس أي: يتأخر إذا ذكر الموسوس له ربه.

حقيقة السلاح الذي يقهر الوسواس

ولكن الذكر الذي يقطع الوسوسة هو الذكر النابع من القلب والمتولد عن اليقين وليس الكلمات التي تجري على اللسان ولم تكن خارجة من قلب مملوء بالإيمان ولذلك قدم الله في الآيات من سورة الناس ذكر تعظيمه وتمجيده الذي يحيي القلب فَيَقْدُرُ الانسان ربه حق قدره ويكون في ذكر دائم لله ذكر معناه استشعار عظمة الله وعدم غياب تعظيمه في كل وقت وفي كل حين ذكر يعرف معه العبد مقام ربه فتنتهي النفوس عن الهوى وتسلك المسلك الذي يصير بها الى جنة المأوى (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات 40-41).

فذكر الله عن نفسه أنه (رب الناس وملك الناس وإله الناس) وهي أوصاف من تعمق فيها لم تتوجه نفسه الى غير الله ولم تعتقد أن هناك دافع شر أو جالب خير غير الله.

صنفان أمام (الوَسواس)

وقد ذكر الله صنفين من الموسوس لهم: صنف إذا وسوس لهم الشيطان صدته نفوسهم المقيمة في حماية الله وقلوبهم الساكنة في دائرة الإيمان فتنقطع عنهم وسوسة الشيطان ويخنس الوسواس ويتأخر ويتقهقر باحثا عن غِرّة منتظرا لغفلة تقع من المؤمن فينفتح له بها باب إلى الإغواء ولن يكون ذلك ما كان المؤمن ذاكرا لله موجودا داخل دائرة الحماية وهؤلاء هم الذين قال فيهم (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (الأعراف 201)، وصنف يوسوس لهم الشيطان فيبقون معه يسيرون في طريق الغواية حتى يصل بهم إلى الهلاك فيتركهم ويتخلى عنهم (فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ) (الحشر 16)، أولئك الذين انطمست بصائرهم وذهب نوره قلوبهم وانتهت الحياة من أرواحهم وهم الذين قال فيهم (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ) (الأعراف 202)، فالشياطين يكونون عونا لهم في الباطل ولا يتركونهم حتى يوصلوهم إلى حالة يعسر عليهم معها الرجوع إلى الصراط المستقيم فيصيرون إلى حالة الإصرار والعياذ بالله (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (المطففين 14).

بيان النبي الكريم لصفة خنوس الوسواس

وقد صور لنا النبي الكريم حالة الشيطان وصفة تأخره وتقهقره عند ذكر الله تصويرا بالغا في الدقة في الحديث الذي ذكر فيه خبر الشيطان عند سماع الأذان فقال نبينا العظيم «إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان له صوت حتى لا يسمع التأذين فإذا مضى النداء أقبل حتى إذا ثوّب أدبر حتى إذا مضى أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه فيقول له: أذكر كذا اذكر كذا حتى يصلي الرجل ولا يدري كم صلى» ومعنى قول النبي الكريم (حتى إذا ثوب أدبر) أي: إذا أقيمت الصلاة أدبر الشيطان (حتى إذا مضى أقبل) أي: إذا مضت الإقامة أقبل الشيطان فلا يتركه الشيطان ولا يتأخر عنه ولا يخنس إلا بذكر الله والعوذ به وهذه حالة صورها القرآن في سورة الأعراف فقال: «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ» (الأعراف: 201-202).