إشراقات

فتاوى لسماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام للسلطنة

19 يناير 2017
19 يناير 2017

أصحاب الأعراف

ما معنى الأعراف، وما المقصود بهم ؟

أصحاب الأعراف فيهم خلاف كثير بين أهل العلم، فمنهم من قال هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، وقد نص المفسرون على أن المراد بذلك الصغائر لا الكبائر كما في تفسير القرطبي وغيره من كلام المفسرين، وجاءت بذلك روايات إلا أن هذه الروايات لم تصل إلى درجة الصحة التي يعتمد عليها، ومع هذا أيضا فإنه من المعلوم أن الحديث الآحادي لا يترتب عليه الأخذ بشيء من القضايا العقدية؛ لأن الاعتقاد ثمرة اليقين، واليقين لا يكون إلا بدليل قطعي، والدليل القطعي لا يكون إلا نصًا متواترًا، وذلك إما أن يكون نصًا في كتاب الله أو في رواية متواترة عن النبي عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والسلام.

وهناك آراء أخرى متعددة تصل إلى اثني عشر رأيًا، منهم من قال هم الأنبياء، ومنهم من قال هم الملائكة، ولكن القول بأنهم ملائكة بعيد لأن الله تعالى وصفهم بأنهم رجال، ومنهم قال هم الشهود الذين يشهدون على الخلق يوم القيامة، ومنهم من قال هم شهود الأنبياء الذين يشهدون لهم بالتبليغ، ومنهم ومنهم هناك آراء متعددة.

ولعل أقرب هذه الآراء إلى الترجيح قول من قال بأنهم شهود يشهدون على الناس؛ لأنهم يخاطبون أهل الجنة، ويخاطبون أهل النار جميعًا، وهذا دليل على أنهم شهود، فلو كانوا كما قيل قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، وأنهم محبوسون عن دخول الجنة ثم يؤذن لهم بدخولها، فإن الموقف يقتضي أن يكونوا مشغولين بأنفسهم لا أن يكونوا مشغولين بمخاطبة هؤلاء تارة ومخاطبة أولئك تارة أخرى، وهؤلاء هم على الأعراف.

والأصل في الأعراف أنها الأماكن المرتفعة، فالعرف هو المكان الناتئ المرتفع الذي هو في ارتفاع عن غيره، ولذلك سمي عرف الديك عرفاً لأجل سبب ارتفاعه.

فإذا هذا دليل على أنهم في مكان مرتفع ويشرفون على هؤلاء وهؤلاء، فلا يبعد أن يكون القول بأنهم الشهود الذين يشهدون على الناس بما عملوه يوم القيامة هم أصحاب الأعراف، هذا من غير قطع؛ لأن القطع ثمرة الدليل القطعي، ولا يوجد دليل قطعي كما ذكرنا، وإنما نقول ذلك من باب التفسير بما يتبين من القرائن من غير أن نقطع به، والله تعالى أعلم.

يشركون ويتجاهلون

من خلال تأملي لكتاب الله تعالى لاحظت أن الكفار يكذبون بالبعث أكثر من تكذيبهم بالخالق سبحانه وتعالى ؟

نعم، هم يعتقدون وجود الله ولكنهم يشركون معه آلهة أخرى، فلذلك يسلبونه سبحانه وتعالى ما هو خاص به وحده، ومن هنا يقيم الله تبارك وتعالى عليهم الحجج في كتابه فهو يقول: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ).

أما بالنسبة إلى المعاد فهم يتجاهلون آيات الله تبارك وتعالى الكبرى التي تدل على المعاد، وإنما الفطرة دعتهم إلى الاعتراف بوجود الله، فالإنسان الذي ينكر وجود الله تعالى إنما يكابر فطرته ويغالب عقله، إذ كل ما في الكون يدل على وجوده سبحانه ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: (أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)(إبراهيم: من الآية 10) يعني أن كل ما في هذا الكون من أجزاء السموات والأرض دال عليه سبحانه، فكل ذرة من ذرات الوجود إنما هي كلمة من كلمات الله ناطقة بتوحيده سبحانه وتعالى وناطقة بتسبيحه ودالة على وجوده، كما قال الأعرابي عندما سئل بم عرفت ربك؟ فقال: البعرة تدل على البعير، وأثر القدم يدل على المسير، فهيكل علوي بهذه اللطافة، ومركز سفلي بهذه الكثافة ألا يدلان على الصانع الخبير.

وبالنسبة إلى يوم القيامة فإن الله تبارك وتعالى أقام عليهم الحجج؛ لأنهم لقصور عقولهم استبعدوا أن يبعث الإنسان بعد أن يموت وتتحول خلاياه إلى ذرات ترابية متبعثرة بحيث تتلاشى في هذه الأرض وتغيب فيها فرأوا من المستبعد أن يجمع الله تبارك وتعالى هذا الشتات وينفخ في الإنسان هذه الروح مرة أخرى، ولذلك ضرب الله تبارك وتعالى لهم الأمثال وبيّن لهم آياته الدالة على أن ذلك ليس عسيرًا وليس شاقاً بل هو هين في حقه سبحانه وتعالى، وكل شيء هين في حقه، وإنما هذا أهون من نشأة الكون، فقد قال سبحانه وتعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

الله تعالى ضرب هنا مثلاً لهؤلاء الذين يكابرون في حقيقة البعث ويمارون فيه، ضرب لهم مثلاً إذ بيّن أن هذا الإنسان هو خلق من نطفة، ما هي هذه النطفة ؟ هي جزء حقير، بلغ في حقارته أنه ينظر بالمجهر ولا يكاد يبصر، ومع ذلك توجد فيه جميع خصائص البشرية العامة التي يشترك فيها البشر، وتوجد أيضاً في هذه الخلية جميع الخصائص البشرية الأسرية الخاصة، أي الخصائص الأسرية التي تتوارث من أسرة إلى أسرة، هذه موجودة فيها، ولذلك يكون الشبه حتى إلى جدود بعيدين بسبب هذه الخصائص المتوارثة التي تنطوي عليها تلك الخلية.

ثم مع ذلك طور الله تبارك وتعالى هذا الإنسان أطوارًا حتى أخرجه إنسانًا بهذا القدر، جعل هذه الخلية تخرج منها ملايين الملايين من الخلايا، وهي متنوعة، ومع ذلك نفخ فيه من روحه، ومع ذلك جعل الله تبارك وتعالى له السمع والبصر والمشاعر والحواس والعلم والقدرة إلى آخره من هذه الأمور العجيبة.

كل من ذلك دليل على أن الله تبارك وتعالى ليس بعزيز عليه أن يعيد هذا الإنسان مرة أخرى كما خلقه أول مرة.

وبيّن سبحانه مع ذلك أن الذي يحيي العظام وهي رميم هو الذي أنشأها أول مرة بهذه الحالة، وأنه هو الذي خلق السماوات والأرض، فمن خلق السماوات والأرض لا يعجزه أبداً أن يعيد خلق الإنسان كما كان أول مرة لأن السماوات والأرض لم تكن موجودة من قبل، وقد أخرجها من عدم، كل هذا الكون أخرجه الله تبارك وتعالى من عدم، ولئن كان أخرج هذا الكون المترامي الأطراف من عدم فكيف بالإنسان الذي وجد وتكون وصار سميعًا بصيرًا ألا يقدر الله تبارك وتعالى الذي أوجد هذا الكون من عدم على إعادته مرة أخرى، بل ذلك أهون والكل في حق الله هين، والله تعالى أعلم.