2
2
المنوعات

النَّشيجُ وناياتهُ الخالدَةُ!

16 يناير 2017
16 يناير 2017

بثينة بنت أحمد الشيديّة -

في زمن السكوت من خيبات ثلاثية (الصحافة والسياسة والثقافة) العربية، وفي المسافة الفاصلة بين الواقع المتجدّر في المأساوية، والحقيقة الخاملة التي تبدو أكثر هدوءا على الوعي العربيّ المسترسل في انهزامات ربيعه الذي يتشكّل على رقعة من لافتات باسم الحرية لشعوب تحلم بمدائنها أن تكون أفلاطونية الفضيلة في أرضية من أمزجة مشروع حضاري فاشل؛ فمثالية الأحلام تخدير مؤقت يسمح لعملية الإنعاش أن تمتدّ للحظة أطول!

في توقيت ينشر فيه المؤلفون العرب من حنجرة تتقاطع أحبالها الصوتية كتضاربات المصالح بين الشرق والغرب، بين النامي والمتقدّم، بين الأقوى والمقهور، وبين ألف بينيين آخرين لمعادلات لا تكاد تنتهي بين ميلاداتها وانهياراتها.

في شاعرة الغضب التي لا تنفكّ تترجم إيمانها بالوطن الخراب والرجال الجوف؛ فتنتصر للشراسة وحدها دون إلقاء نظرة أخيرة على عروة القومية العربية الوثقى؛ فهي أسرع التنازلات وأكسد الروابط وسبيل يفضي إلى إغلاق كلّ فيّ ينادي بها بحجر من حالة استثنائية اسمها (أمة في ذمة الله)!

في خضم تلك المركبات المعقدة يضع السيابيّ في (نشيج حبره) نايات من أغان على معصم أمته العربية سوارا نفيسا، ويعيد لأهدابها كحلها ومرودها، وتنساب ناياته خضابا يواري جراحاتها المتشربات من دمائها؛ فيوقظ حسناوات العروبة منذ ليلى إلى آخر أميرة منهن ليتبخترن فاتنات في نهارات حروفه، وترتعش المقابر قيامة تاريخ أنستنا تقانات عالمنا المشحون بالفوضى استحضاره كذاكرة جمعية ترسم خارطة للعلائق بين  الثقافة والإنسان والسلوك حين التشكّل والتغيّر والتسرّب إلى هوياتنا الثلاثية (الذاتية، والقومية، والعالمية)؛ فالسيابيّ الذي بدا عميق التأمل، ساكن الحرف جاء كرة من لهيب أذابت تجمّد الشعور القوميّ العربيّ، وجعل الوطنية سيفه الصقيل الذي يرخيه  في غمده مسالما كديدن بلده الذي تربرب في رحيب سياسته المتضمخة بالجمال، ولم يدرع السيابيّ بأية بزّة عسكرية ليعلن للناظر إليه فقهه بالتاريخ السياسي، وسياسة الأدب بل اكتفى بكلمة (كأبي) لتكون أعرق مؤسسة علمية تخرج فيها؛ فشهدت على حنكته وفقهه واقتداره.

وفي اللحظة التي تتباهى الشعوب بإسقاط أنظمتها السياسية ينحرف السيابيّ مرتلا لآي تلك الأنظمة على مسامع الدنيا بصوت صحفيّ يتعالى بالخشوع والخشية التي يجد القارئ قشعريرتها في جلده، ويورق تبتّلها في محجر عينيه بدمعة على المفاخر المعاصرة التي ما شكرنا آلاءها؛ وقليل ما تذكرون! والنشيج يقيّد معصمي بناي يأبى إلا خلود نغمه تستلبني التراكيب، وتترعرع الجمل لتعيدني في كلّ تصريف منها إلى الحقائق المغيبة من القيم السامية العليا: قيم العقول، وقيم اللغة قبل قيم الأخلاقيات التي من البداهة على هذا الرجل اعتناؤه بها. ويصبح التاريخ بثقله بريئا عنده من الحشر والحشد ومتنزّها من المبالغات التي لطالما أورثت في كلّ شارقة مناحا؛ فهو يقتطع من نصّه المسرحيّ المشهد الذي يجتمع عليه المشارقة والمغاربة معززا لعمانيته السمحة، والمتوارثة في أمشاجه المتناسلة من المروءة والإباء!

سيكولوجية السيابيّ في النشيج بدت متأصلة في إدراك الوعي الثقافيّ وما له من تأثير في السلوك الجمعيّ؛ لكنه انعطف في كلّ تجلياته ليعلن ذلكم الوعي في قامة أو مقامة فيضع على صدر الشخوص أوسمة لا تجرؤ مزادات أثرى تجار العالم على حصرها بحساب، فالكلمات تتخطى الأزمنة والأماكن والأرقام بسرعة الضوء الشارد من أيّ شكل يتلوّن عليه الحصار!، وتتبرج الأماكن في نشيج حبره الشبيه بخلود النايات في جغرافية لا تتعدى أصغر قرية شهدت في تاريخها وجودا بشريا؛ فمحتوى استشهاده بتاريخها المتنامي -عبر طبول فنونها الشعبية، وأشعار فحولها، وآخر قطرة دم مخضرّة نمت كوردة على أقصر صدوعها طولا في معركة حريتها- يخرج علينا في مقطوعة موسيقية عذبة، تقتلع برهفها هوسنا ليكبر في رشاد الاطلاع على تاريخ المكان في رفّ من رفوف سطور السيابيّ التي تغنينا عن متاهة أغنى المكتبات مصادر وأزخرها مراجعا.

وعين السيابيّ في النشيج لم تتشابه -قطّ- مع وظيفتها الطبيعية من التقاط انعكاس الصور لتحقيق الرؤية وحدها وصولا إلى خلق لغة للتفاعل بالاستجابة المتفقة والمثير بل ظهرت كعين فنان تشكيلي يلتقط ما حوله ليعيد تشكيل الوجود بلغة فهمه هو له؛ ولذا يتسرب في جوهر اللحظات والأحداث والشخصيات والمواضع ليكبّر من خلالها (عشق عمانه) المنتسب إليها كانتساب المفتون بفاتنته يخلد اسميهما معا من: (جميل بثينة) و(قيس ليلى) و(كثيّر عزة) و(حمود عمان)!

استاذي حمود السيابيّ لقد شرّفتني في إهدائك لي (نشيج الحبر) وأحرجتني في الآن ذاته حينما خطّت يمينك العازفة لنايات الخلود (هذا نشيج حبري على قامات بكيتها، وأمكنة أبكتني، وتبقى قصيدتك بألف مقال، ويبقى بيت الشعر أدفأ بيت عربي)؛ لأنك أعييت بنشيجك ناي شعري فانقلبت الآية أنّ نثرك بألف قصيدة من دواوين العرب.