الملف السياسي

قد لا يبدو مظلما .. ولكنه ليس واعدا !!

16 يناير 2017
16 يناير 2017

محمد حسن داوود -

,, إن اليوم الذي تتحول فيه مياه البحر المتوسط إلى بحيرة سلام حقيقي بين دوله المتشاطئة وتخومها الطبيعية بعلاقات متكافئة وعادلة ، يصبح الحديث عن شراكة عربية - أوروبية أمرا منطقيا بعد ميراث طويل من الشكوك المتبادلة والذكريات السيئة والوقائع المؤلمة ,,

لن نذهب بعيدا إلى أعماق التاريخ والحروب المتبادلة سواء من عهد الإمبراطورية الرومانية أو الفتح الإسلامي للأندلس أو الحروب الصليبية أو حتى الحقبة الاستعمارية في التاريخ الحديث التي دفعت الأمة العربية ثمنا باهظا لها سواء من النواحي السياسية والاقتصادية والثقافية أو على الصعيدين الجغرافي والديموغرافي حيث لا تزال أمتنا العربية تعاني كثيرا جراء الممارسات الاستعمارية خلال تلك الحقبة السوداء، ولعل هذه النقطة على وجه التحديد هي البداية الأفضل لوضع مستقبل العلاقات العربية الأوروبية في إطارها الصحيح من خلال رؤية متكاملة للماضي القريب والحاضر الجاري، فالحقيقة أن الدول الأوروبية على المستويين الفردي والجماعي لم تعوض العرب بما فيه الكفاية عن الخسائر المادية والبشرية التي استنزفت جهود التنمية والتقدم فيها على مدى عقود عديدة،وتكفي مقارنة سريعة بين حرمان العرب من تعويضات الغبن التاريخي التي أصبحت حقا تاريخيا معترفا به دوليا، وحصول إسرائيل على مليارات الدولارات ولو حتى على سبيل الابتزاز من ألمانيا تعويضا عما اعتبر «جرائم كبرى» بحق اليهود الأوروبيين خلال فترتي الحكم النازي والحرب العالمية الثانية.

المطالبة بهذه التعويضات ليست هدفا في حد ذاته ، فالمسألة ليست مالية على الإطلاق لأن ما خسرته أمتنا العربية خلال تلك الحقبة وعلى مدى قرون امتدت من القرن الثامن عشر وحتى القرن العشرين لا يمكن تقييمها بالمال لأنها من نوعية القضايا التي يصعب حساب الخسائر غير المنظورة لها والتي لا تقدر بكنوز الدنيا، ولكن المقصود والمراد من طرح هذا المبدأ ؛تعويض الشعوب عن الغبن التاريخي خلال الحقب الاستعمارية لإظهار الجوانب الحقيقية للتعاون أو المساعدة لبناء علاقات أكثر قوة بين الطرفين العربي والأوروبي، فاعتراف الدول الأوروبية بجرائمها الاستعمارية تجاه أمتنا العربية وتحملها مسؤولية ما حدث يدفع في الغالب نحو تبني برامج إصلاح اقتصادية وتنمية بشرية واجتماعية في مختلف القطاعات بما ينقل الدول العربية إلى مصاف الدول المتقدمة بمواجهة مظاهر الفقر والتخلف الاجتماعي والإنساني، وليس ببعيد نموذج « مشروع مارشال» الذي تبنته الولايات المتحدة تجاه أوروبا لمساعدتها على النهوض من جديد بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، وقد أدى هذا البرنامج بالفعل إلى نهضة أوروبية شاملة ليس على الصعد الاقتصادية فحسب ولكن كذلك على الصعد السياسية والديمقراطية والتنمية البشرية الشاملة.

مثل هذه البرامج في حالة تطبيقها كانت كفيلة باحداث نقلة نوعية كبرى في العلاقات العربية الأوروبية والوصول بها إلى مرحلة الشراكة التامة على أسس الكفاءة والندية والنوايا المخلصة ، وأغلب الظن أن هذه البرامج أيضا بحاجة إلى إرادة سياسية واضحة وراسخة بحتمية التعامل البناء بين الطرفين ككتلتين مترابطتين وليست كدول منفردة، وتلك معضلة حقيقية لأنه على السطح يمكن أن تكون هناك علاقات جيدة بين دول المجموعتين في مساقات منفردة ولكن ليس في إطار جماعي يحافظ على استراتيجية ثابتة لا تختلف كثيرا بتغير الظروف، وعلى حد تأكيد بعض التحليلات السياسية فقد حكمت العلاقة بين الطرفين بحسب دراسة أجراها معهد كارنيجي أخطاء عديدة، وهي أن أوروبا نظرت إلى الدول العربية كطرف راض بواقعه السياسي، وهو ما ثبت فشله سواء بعد ما جرى في تونس أو مصر ولاحقاً في دول عربية أخرى خلال أحداث « الربيع العربي » وكذلك افتراض الاتحاد الأوروبي أن تحقيق تقدم اقتصادي يمكن أن يقود إلى انفراج سياسي وتحسين العلاقات مع إسرائيل، أما الفشل الثالث فيتعلق بالفهم الخاطئ للاتحاد الأوروبي للدول العربية ، إذ رأى الاتحاد الكتلة العربية بأنها قائمة على سلطة مستبدة لا بديل عنها إلا التطرف (!!)، لكن ثبت أن هذه المجتمعات أكثر تنوعاً وأكثر تعقيداً من أي اختزال مخل أو متعجل، وأنها تنخرط كما أوروبا وأمريكا في حربها ضد الإرهاب والتطرف ، أما الفرضية الرابعة فقد قامت على أن أوروبا القوية المتماسكة ستظل ممسكة بزمام الأمور.

كما يعتبر محللون آخرون أن أهم ما يربط العلاقة بين الاتحاد الأوروبي والعرب المصالح الاقتصادية،وأن هناك مشكلة مشتركة بين العالم الأوروبي والإسلامي تتمثل بالخوف من بعضهم البعض مع عدم وجود سياسة أوروبية نافذة واضحة المعالم أو سياسة خارجية موحدة بمعنى الكلمة، فضلاً عن أن الدول العربية كذلك لا يوجد بها استراتيجية مشتركة تجاه أوروبا ،أضف إلى ذلك أن هناك ما يشبه المنهجية الخطيرة في الرؤية الأوروبية تجاه العالم العربي حيث تعتبر دوله عادة مخزنا لتصدير المشاكل والأزمات كاللاجئين والمهاجرين والتهريب والتطرف والإرهاب، وهو ما تواجهه الدول الأوروبية ببرامج أمنية في المقام الأول بدلا من تبني رؤية شاملة على أسس سياسية واقتصادية واجتماعية تحد من تلك المشاكل والظواهر في منابعها ومواطنها الأصلية، وربما تكرست هذه الصورة بشكل واضح في الاجتماع العربي الأوروبي الأخير بمقر جامعة الدول العربية في القاهرة الشهر الماضي حيث تركز الحديث بشكل مكثف جدا عن المشكلات العربية، وعلى رأسها الإرهاب، والهجرة، وعملية السلام في الشرق الأوسط،وسوريا،واليمن،وليبيا،والعراق،وإيران والأوضاع في السودان، والصومال ولبنان.

واحقاقا للحق فقد جاءت صيغة البيان الختامي للاجتماع ايجابية للغاية إزاء مجمل القضايا السابق ذكرها، ولكن مجرد التناول المكثف لأزمات المنطقة العربية وبهذا المنهج الفردي يعكس رؤية أوروبية مستقرة تجاه المنطقة بأنها « مصدرة للآزمات» بينما خلا البيان من أي تعهد أوروبي صريح بالمساعدة الفاعلة والمخلصة وتبني برامج عملية لإنهاء أزمات المنطقة وكذلك عدم التدخل السلبي في قضايا الأمة العربية وأزماتها على غرار ما حدث في تدخل حلف الأطلنطي عسكريا في ليبيا وتخريبها تماما حتى يومنا هذا، وكذلك غزو العراق عام 2003 فضلا عن سياسة الكيل بمكيالين أو أكثر في عديد من القضايا.

ولنتأمل في الختام كلمات دافيد ساسولي، نائب رئيس البرلمان الأوروبي، التي قال فيها «نحن في حاجة لأوروبا واعية بأهمية جيرانها في المنطقة للحفاظ على الاستقرار والسلام، كما يجب علينا تطوير التجارة، وإقامة علاقات مشتركة، وتوجيهها لقطاعات مهمة مثل التعاون والتعليم والبحث، وهي أمور تم نسيانها لوقت كبير». وأضاف ان المنطقة أصبحت تستيقظ يوميًا على مشاكل عديدة من هجرة غير شرعية، وإرهاب أصبح يهدد أمن المنطقة بأكملها بما فيها أوروبا، وهو ما يتطلب التوافق من أجل مواجهة هذه التحديات وإيجاد رؤية واحدة تجمع منطقة المتوسط».. ولا شك في أن هذا الطرح له أهميته في ضرورة صياغة استراتيجية ثابتة للعلاقات العربية الأوروبية على أساس أن العلاقات بين الجانبين علاقات تجارية وثقافية وسياسية واقتصادية تمتد جذورها في عمق التاريخ كونهما جارين متلاصقين يقعان على ضفتي البحر الأبيض المتوسط الذي يفصل بينهما ويجمعهما في آن واحد، وقد مرا عبر الزمن بفترات ازدهرت فيها العلاقات والمبادلات بينهما كما مرا بفترات صعبة ، وبما أن الطرفين يرتبطان بمجموعة واسعة من المصالح المشتركة فمن البديهي أن تعزيز العلاقات بينهما في جميع المجالات هو مسألة ذات أولوية لكل من الاتحاد الأوروبي والعالم العربي.

ومن المعروف أن العالم العربي يمد أوروبا بموارد الطاقة، بينما تقوم أوروبا بدور هام في تلبية الاحتياجات العربية للمشاريع التنموية ومن مختلف المواد المستوردة، وهو ما ينبغي دعمه بما يحقق مصالح وأهداف الطرفين في شراكة حقيقية تقوم خلالها أوروبا بإصلاح أخطاء الماضي وكذلك الحاضر القريب جدا وتعويض العرب عن سنوات الغبن التاريخي والحقبة الاستعمارية .. وكلها إجراءات لها أهميتها في بناء الثقة المتبادلة، أما التعامل الدائم مع المنطقة العربية باعتبارها معمل أومخزن أزمات وبدون برامج إصلاح حقيقية كما هو الحال حاليا والإصرار على الحلول الأمنية للأزمات وتبني سياسة الكيل بمكيالين فذلك يعني أن مستقبل العلاقات بين الطرفين ليس واعدا حتى وإن كان من المستبعد أن يكون مظلما.