899114
899114
شرفات

رحيل الشاعر مساعد الرشيدي.. فارس آخر يترجّل وخلفه ألف أثر وأثر..

16 يناير 2017
16 يناير 2017

مسعود الحمداني -

(1)

رحل الشاعر السعودي مساعد الرشيدي عن الدنيا يوم الخميس الماضي 12 من يناير 2017م، انتقل بجسده إلى أحضان التراب، وبقيت روح قصائده ترفرف فوق أراضي القلوب، وسماوات الحياة، قاوم المرض طويلا، ولكنه الموت الذي لا يقف في وجهه أحد، مات الشاعر وبقي الشعر خالدا لا يموت.

كان أول عهدي بهذا الشاعر (المجدد، والمبتكر لخيالاته، والمحلّق في عالم البياض المبدع) عبر ديوان صوتي له، انتشر قبل أكثر من عشرين سنة تقريبا، ديوان فاض بالعشق، والأمل، والجنون، حيث يشعر المتلقي بحركة الأشياء تدب في أوصال القصائد، وكأنها كائنات حية تشاكس الظلال، وتربك المخزون الذهني الذي امتلأت به الذاكرة بكل سائد وجامد من الصور الشعرية التي وقفت دون حراك منذ زمن بعيد، كانت قصائد مساعد الرشيدي تستفز كل ذرة من جسدك، وقلبك، وتجعلك تقف طويلا أمام كل بيت، وكأنها بنيان رُص بحنكة ودراية ليتشكّل معها جسد القصيدة.

(2)

حـزين مـن الـشتاء.. والا حزين من الظمأ يا طير؟!!

دخـيل الـريشتين اللي تضفّك حل عن عيني

دخـيل الـماء، وملح الماء، وحزن الماء قبل ما تطير

تـهيّا لـلهبوب الـلي تـصافق فـي شراييني

دخيل الغصن والظل والهزيل وهفهفات إعصير

دخـيلك لا تـشح بـنجمتي والـليل مـمسيني

تـرفرف يـا فقير الريش ضيقة والنهار قـْصير

عـلامك كـل مـا ليّل جـناحك جيت ساريني؟!!

أنـا مـا ني بخير.. وجيت يمّي وأنت ما أنت بخير

وأنـا يـا طير فـيني مـن الـهجاد اللي مكفّيني

تـرى لو شفت لي ظل ومهابة في عيون الغير

تـرى كـل الزهاب اللي معي جرحي وسكيني!!

بهذه البساطة يكتب مساعد قصائده، وبهذه البساطة تحتضن الذاكرة مشاهد الحركة الشفيفة والراقية، والتي تسيطر على فكرة النص القصير، ولا تتجاوز المشهد، أو تزحمه بما لا يحتاجه، قصيدة مكثفة تشعر بحسّها الإنساني، وغربتها، وحزنها.

(3)

يـنجرح قـلب.. لكن ترتفع هامة

والله أنـي لأموت ولا انحنى راسي

لـو رمـاني زماني وسط دوامة

العواصف شديدة والجبل راسي

أنـقل الحزن وأمشي منتصب قامة

قـاسي الـوقت .. لكني بعد قاسي!!

وأسمع الحلم يصرخ لحظة إعدامه

رابط الجاش ما هز الخبر باسي

عـزتي غـالية والناس سوّامة

قـلت: مـا أبيع حتى تقطع أنفاسي

زانـت أيام عمري .. شانت أيامه

ما رجيت العزاء من رحمة الناسي!!

يكتب مساعد الرشيدي قناعته بالحياة دون أن يحشو أبياته بالكثير من المبالغات، إنه ينقل إحساس الشاعر الشامخ، الثابت على مبادئه، الذي لا تهزه خطوب الأيام، ولا تزحزحه تقلبات الناس، فروح الشاعر الفارس تتقمّص القصيدة حتى لتكاد تهز مستمعها وقارئها لفرط قربها من الذات، ولا تحتاج إلى الكثير من المقدمات أو الانتخاء بالقبلية، أو استدعاء الآخر لإثبات الفكرة.

(4)

كلّك تعالي غلا ... وإلا ارجعي كلّك

بـعض الـغلا منْك ما يستاهل الجيّة!!

طـالت وأنا في رجا (ليتك)..ويا (علّك)

أوراق بـالذاكرة ..وأوراق مـنسيّة

مـا بَلّ ثـوبك مـطر شوقي ولا بلّك

لـو علّتك من سحاب الروح وسميّة

لـيه أمشي الدرب دامه ما يوصّل لك؟!!

تـخاف رمضاء الضياع أقدام رجليّه

يـا بنت توّ الهوى ما صرت أنا خلّك

لـلحين .. ما زالت الصورة رمادية!!

وما زال بغض الغموض الشره يحتلّك

وشلون أنا أعشقك وأجيك على النية

أشـوفك هـناك قـدّامي .. ولا أدلّك

صـعب الكتابة ليَا صار الورق مَيّة!!

هناك فرق شاسع بين الكتابة عن الحب، والكتابة في الحب، التجربة هي من تفرق بين الأشياء، بين حرارة الكتابة، وبرودة أطرافها، وبين العيش فيها، والعيش على ضفافها، فالعشق حالة لا تقبل القسمة على لونين، هو تلك الكتلة الشعورية التي يغرق فيها الشاعر المحب، وينجو منه كل من خشي الإبحار في محيطه الأزرق، والشاعر مساعد الرشيدي لا يسلّم قلبه إلا لمن يستحقه.

(5)

في زمان كنّه البرد ، شبّيت القصيد

قـلت: أبـدفأ والليالي تموت ببردها

في طريقٍ كنّه الموت والحالي وحيد

قـلت: أبـحيا والـمنايا تبوح بسدّها

أتـقارب هـقوة العمر لو كانت بعيد

وأتـغنّي بـالمقابيل وأخـطب ودّها

لا قـديم الجرح يقوى ولا جرح الجديد

يخلف الناس العزيزة عن اللي ودها

والله إنـي مـا أتنازل ، لي رأيٍ عنيد

لين أداعب غرة الشمس ،وألثم خدّها

وانزفي يا وردة الشعر ، من دم الوريد

لا تـجفي في عروقٍ ، تراجف يدها

يا قصيدي.. كان الأشعار سادات وعبيد

والله إنـك مـن بحورٍ،غريبٍ جدها!!

إنه جنون الشعر الذي لا يمكن حدّه، أو الوقوف أمام تياره، فإما أن تكون شاعرا، أو لا تكون، فالشعر مغامرة لا تعترف بالوقوف على الشاطئ، إنه المجازفة حتى آخر حرف، هكذا يعرّف الشاعر مساعد الرشيدي قصيدته، فهي ـ كما يراها ـ لا جد لها، فهي آتية من زمن التيه البعيد، حيث تصنع الكائنات نفسها بنفسها.

(6)

عـلى كـثر الـكلام ، وكثر ما قبل الكلام جروح

سـكتّ، ومـا لقيت الـكلمتين اللـي علي بالي

أخـاف إن قـلتها، ما قلتها، وإن قلتها بوضوح..

تـوسّدني مـلامات الـرفيق وشـرهة الـغالي

كذوبة يا الهجوس اللي على الخاطر تجي، وتروح

بـغيت أزبـن ذراهـا، وأسـتريح وما تهيّا لي

ورحت أتلي شتاتي، وأترجّى صوتي المبحوح

تـموج بـي الـدروب ومسندٍ كفّي على ظلالي!!

في قصائد مساعد الرشيدي نكهة لا تخطئها عين المتابع، هي تلك الخلطة السحرية التي تجمع بين الرصانة في الطرح، والتجديد في الصورة، ودلالات المفردة، فنصه متسع كصحراء، غير أن المدينة حاضرة هي الأخرى في ذات النص، حيث لا يجد المتلقي الكثير من الحشو والتكلّف، والزج بالمفردات دون داعٍ، بل أن بينان القصيدة وفكرتها لا تحيدان عن الطريق حتى نهايته، وهو رغم كل ما يختزنه صدره لا يفرّط في رفقائه، أو أقاربه، إنه يفضّل المعاناة بينه وبين ذاته على البوح بما يعكّر صفو الحياة بين الأصحاب.

(7)

كيف أطفي الريح بثيابك وكيف أشعلك؟!!

كيف أنتثر على جمرك وكيف أحتويك؟!!

نقضت ليل الحرير وجيت ما أنت لـ..هلك

سمّيت باللي فتنّي بك وقلت أبتديك

هذا أول الدرب أو هذا الطريق أولّك؟!!

جيت أتوقى عذابات المدى وأهتديك

شوقي مسافة وهمساتي مدار وفلك

إن ما ظميتك غلا يا علّني ما أرتويك!!

إيه أعرفك وأعرف أني من غلاك أجهلك

مرات أضمّك وأخاف أني مشبّه عليك

مرات أشوفك بنفس الوقت وأتخيّلك

وأنشد كفوفي عن آخر سالفة من يديك!!

هذه الدهشة التي تصنعها نصوص مساعد الرشيدي ليست فلتات عابرة، إنها مدرسة بحد ذاتها، كتب على منوالها الكثيرون، ومارس العديد من الشعراء لعبة (المرآة العاكسة) التي تقوم على المتضادات، والأبيات التي تتوكأ على انعكاس الصورة وتشتيت المشهد كنوع من اعتماد (الصدمة) لصنع عنصر مباغتة للمتلقي، وشد انتباهه، وهو ما فعله مساعد بحرفنة عالية دون حاجة إلى الكثير من العناء في صياغة البيت الواحد.

(8)

هذا بعض القليل من سيرة شعر الراحل مساعد الرشيدي، وهناك الكثير والكثير الذي لم يُقل في حضرة فقد الشاعر، الذي توسّد الثرى باكرا ككثير من الشعراء الأفذاذ الذين تركوا أثرهم وبصمتهم في الذاكرة الشعرية الحيّة، التي لا يمكن محوها.

(9)

فتشتُ في هاتفي عن رقم الشاعر مساعد ووجدت أنني ما أزال أحتفظ به، رغم التواصل القليل جدا بيننا، الذي لم يتعد ربما المرة أو المرتين، إلا أنني تذكرتُ أن مجلس الشعر الشعبي كان على موعد قبل سنوات لترتيب لاستضافة هذا الشاعر المبتكر، موعد لم يتم للأسف..ورغم ذلك لم تنقطع أبياته الثرية، والمشبعة بالحياة عن ذاكرتي ـ التي لا تختزن الكثير من الشعر ـ ربما لأن قليلا منها ما يستحق الحفظ والاحتفاظ به، ولعل نصوص مساعد أحد هذا القليل. رحم الله فقيد الشعر مساعد الرشيدي وتغمده بواسع مغفرته..وألهم أهله وذويه ومحبيه الصبر والسلوان..إنا لله وإنا اليه راجعون.