luay
luay
أعمدة

تخفيض العمـــلة والميـزان التجـــاري

15 يناير 2017
15 يناير 2017

لؤي بديع بطاينة -

قبل حوالي 30 عاماً قمت كطالب في السنة النهائية لمرحلة البكالوريوس بإعداد بحث لأغراض التخرج عن تأثير تخفيض قيمة العملة الوطنية على الميزان التجاري وميزان المدفوعات للدول وكان هنالك حالة عملية تمثلت في دولة الأردن. آنذاك كنت من أوائل الطلبة (محلياً) الذين قاموا بدراسة هذا الأثر وللأسف تبعها بأقل من 3 سنوات قيام الحكومة آنذاك بتخفيض الدينار الأردني بأكثر من 52% لمواجهة النقص الحاد والكبير في الاحتياطيات من العملات الأجنبية والتي تعرضت بشكل كبير وحاد للاستنزاف نتيجة التمادي في تمويل الاستيراد وازدياد الإنفاق غير المسؤول وبطريقة أثرت بشكل كبير على ارتفاع معدلات العجز بالنسبة لمجموع الإيرادات وكذلك كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي والذي استمر هذا العجز لغاية الآن.

وبدأت قصة الضغوطات على أسعار الصرف من خلال مكاتب الصرافة والتي بدأت بتشجيع الناس على تحويل مدخراتهم واستثماراتهم من العملات المحلية لعملات أجنبية نتيجة التقارير الدولية المُسيسة والتي شجعت على هذا من خلال التخويف والتهويل بضرورة وضع قيود على أسعار الصرف والحد من الإنفاق والعمل على زيادة الضرائب والرسوم لتمويل العجز المالي والذي تنامي بشكل غير معقول ولغاية هذه اللحظة على الرغم من انقياد جميع الحكومات وتلبيتها لمتطلبات صندوق النقد الدولي حرفياً لا بل تبعها تنفيذ جميع وصفاته الشهرية والسنوية من أدوية ومهدئات أعصاب وخمول وبدون أية مقويات للعضلات وأية مقويات للجسم المالي والاقتصادي تُذكر.

وتخفيض قيمة أي عملة يعني خفض سعر الصرف الرسمي لها مقابل العملات الدولية ومن أهمها الدولار الأمريكي واليورو، بحيث ينخفض عدد الوحدات من العملة الأجنبية التي يمكن الحصول عليها مقابل وحدة واحدة من العملة الوطنية، ويُسمى تخفيض العملة اقتصادياً بـ (Devaluation) ويُحدد هذا السعر عبر قرار رسمي حكومي ومن خلال البنك المركزي. أما عندما يكون سعر الصرف للعملة الوطنية خاضعاً لقوى العرض والطلب (أي بما يُسمى بتعويم سعر العملة) وهنا قد يحصل تراجع في قيمة هذه العملة، وهنا يكون الحديث عن انخفاض قيمة العملة الوطنية أو بما يُسمى بِـ(Depreciation).

إن سياسة تخفيض أي عُملة تُعتبر عملية درجت عليها السياسات الاقتصادية لمعظم الدول (إن لم تكن كلها) منذ عرف النظام النقدي فيها وخصوصاً منذ بداية سبعينات القرن الماضي.

ونحن إذا رجعنا إلى الأسباب والدوافع التي تدفع إلى اتخاذ إجراء تخفيض القيمة الاسمية للعملة نجدها في الغالب الأعم دوافع إصلاحية، طالما حققت نتائج جليلة في التنمية الاقتصادية والازدهار التجاري خارج البلاد وداخلها. قد يكون الشغل الشاغل الآن لغالبية أو لجميع الدول الخليجية العمل على كيفية إدارتها لموازناتها العامة وموازين مدفوعاتها واحتياطياتها من العملات الأجنبية وكيفية تمويل العجوزات المالية في حساباتها والناتجة عن استمرار انهيار أسعار النفط ونتائجه المالية والاقتصادية والاجتماعية على تلك الدول مما حدا بها إلى البدء ومنذ أشهر قليلة وبشكل مُتسارع بتعديل العديد من اللوائح والتعليمات والقوانين المالية والضريبية تشريعياً وتنفيذياً لكي تقوم على أساسها بتعديل وسن عدد من الضرائب والرسوم المالية لكي تحد من النزف الهائل والكبير لاحتياطياتها المالية ومواجهة استنزافها.

نعم إن التخوف الذي طال جميع دول الخليج كان وما زال في كيفية المحافظة على أسعار الصرف لعملاتها الوطنية والاحتياطيات من العملات الأجنبية وسد الفجوة الناتجة عن الانخفاض المُستمر لتلك الاحتياطيات لأسباب عديدة ومن أهمها ارتفاع فاتورة الاستيراد مقابل انخفاض فاتورة الصادرات نتيجة انخفاض أسعار البترول.

وقبل إصدار أي قرار بتخفيض أية عملة أو زيادة قيمتها يجب علينا دراسة وتحليل الموازين التجارية وموازين المدفوعات لتلك الدول ومعرفة مدى قدرة الموازين التجارية لتلك الدول على التعامل مع مثل هذا القرار ومعرفة مدى المرونة السعرية للصادرات والواردات، بمعنى مدى تجاوب الطلب على الصادرات والواردات مع تغير الأسعار الناتج عن تخفيض قيمة العملة. فلو كانت المرونة السعرية لبعض السلع المستوردة والمُستهلكة على نطاق واسع ضعيفة، بسبب أنها لا تصنع محليا أو لأن الإقبال عليها نتيجة لاعتبارات غير حساسة للسعر (الجودة والابتكار والمضمون التكنولوجي)، فإن ارتفاع أسعار هذه السلع لا يؤثر كثيرا على حجم استهلاكها محليا ولا يؤدي بالتالي إلى انخفاض مهم في الواردات.

وبالمقابل، حينما تكون المرونة السعرية لبعض أهم السلع المصدرة ضعيفة بسبب افتقارها إلى مقومات التنافسية المتجاوزة للسعر أو احتدام المنافسة الدولية عليها، فإن انخفاض أسعار هذه السلع لا يؤثر كثيرا على حجم استهلاكها في الخارج ولا يؤدي بالتالي إلى ارتفاع مهم في الصادرات.

نعم إن تخفيض قيمة العملة الوطنية قد يكون سلاحا ذا حدين من حيث الأثر والتأثير ومن الممكن أن يؤدي التخفيض إلى تحفيز الإنتاج الداخلي ونمو الاقتصاد الوطني، ومن الممكن أيضاً أن يكون له تأثيرات عكسية وسلبية تؤثر سلباً بالاقتصاد وتؤدي به إلى الانكماش بسبب التضخم الجامح المستورد الذي قد ينتج عن ارتفاع أسعار المواد الأولية المستوردة غالبيتها.

وتشهد تجربة بعض البلدان النامية مثل المكسيك والأرجنتين على ذلك، فقد كان تخفيض قيمة العملة بهذين البلدين مصاحبا في أغلب الأحيان بتصاعد التضخم وتراجع الإنتاج.

وفي النهاية، وعلى ضوء النتائج المستخلصة من عدد كبير جداً من الدراسات العلمية والتي تزخر بها مكتباتنا وجامعاتنا وكلياتنا، يمكن القول بأن نتيجتها تتضمن ما يلي:

ضرورة القيام بتعديلات حقيقية في الهياكل الاقتصادية للدول لسد الفجوات الكبيرة في الميزان التجاري وميزان المدفوعات (بعض الأحيان) والعمل على تنويع الصادرات والحد من سيطرة البترول على الإيرادات الحكومية مما جعلها عرضة للتقلبات الكبيرة والخطيرة خلال السنوات الخمس وعشرين الماضية.

وضع استراتيجية وطنية من اجل العمل سريعاً لتنويع هيكل الصادرات والواردات، وذلك من خلال التحول من تصدير المواد الخام إلى تصدير مُنتجات صناعية ذات قيمة وطنية مُضافة.

العمل سريعاً على التقليل من حجم الواردات، وذلك بتشجيع الصناعة المحلية والعمل على ترقية القطاع الخاص، ودعم إنشاء المؤسسات الصغيرة و المتوسطة.

ضرورة العمل على وضع سياسات اقتصادية لتهيئة الظروف المناسبة لجلب الاستثمارات الأجنبية إلى المنطقة والعمل على استقطاب رؤوس الأموال الأجنبية.

ملاحظة: تم الرجوع لعدد من البحوث والدراسات العلمية بما يخص التوصيات فقط وبتصرف.