العرب والعالم

قوة أمريكا كبلد استثنائي تكمن في تنوعها العرقي والثقافي وديمقراطيتها الفتية

12 يناير 2017
12 يناير 2017

أوباما في خطابه الوداعي -

واشنطن- عماد الدين عبد الرازق:-

ودع الرئيس باراك اوباما الشعب الامريكي بخطاب جاء وافيا، شاملا، رصينا كعادته، وأيضا مفعما بالعواطف عبر فيه عن امتنانه العميق لملايين الأمريكيين الذين انتخبوه رئيسا لمرتين، وعدد خلاله انجازاته، وفي مقدمتها انقاذ الاقتصاد الامريكي من براثن الأزمة التي عصفت به وبالاقتصاد العالمي من ورائه في نهاية عهد الرئيس السابق جورج بوش، انقاذ صناعة السيارات الأمريكية، واستمرار انخفاض معدل البطالة وارتفاع معدلات التوظيف طوال سنواته الثماني في البيت الأبيض دون انقطاع، واقرار قانون الرعاية الصحية ( اوباما كير) الذي شمل 20 مليون مواطن بالتأمين الصحي، والاتفاق النووي الايراني وإعادة العلاقات مع كوبا منهيا عداء وحصارا استمر اكثر من نصف قرن، والقضاء على اسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة، فضلا عن تقليص نفوذ تنظيم داعش في العراق وسوريا واستئصال عدد من قياداته، وتقليل اعتماد امريكا على صادرات النفط بدرجة كبيرة، مذكرا جمهور مؤيديه «لو انني قلت لكم قبل ثمان سنوات بأننا سننجز كل هذا، لقلتم لي حينها انني ابالغ في التوقعات والطموحات. لكن هانحن قد انجزنا معا كل هذا. لقد كنتم انتم انفسكم التغيير الذي حلمنا به. والأمل الذي تمسكنا به وتطلعنا اليه».

واختار اوباما ان يلقي خطابه من مدينة شيكاغو (وليس من البيت الأبيض كالمعتاد) بولاية «الينوي» التي شهدت خطواته الأولى في عالم السياسة كناشط مجتمعي، قبل ان يصير عضوا بمجلس الشيوخ عنها مستهلا الخطاب بعبارة «كم هو جميل ان يعود المرء الى بيته». وقوبلت تلك العبارة باستقبال حافل وتصفيق حاد، كما قاطع جمهور مؤيديه الخطاب بالتصفيق عدة مرات، مرددين عبارة «اربع سنوات أخرى» وهو ما رد عليه اوباما مداعبا «لا يمكنني ان افعل ذلك»، حيث يحدد الدستور الامريكي ولايتين فقط للرئيس. وحرص أوباما في خطابه الوداعي تلك أن يذكر الامريكيين بالقيم والمبادئ السامية التي بنيت ونهضت عليها بلدهم، أو ما يطلق عليها «مبادئ الآباء المؤسسين» وفي مقدمتها ان الله خلق البشر جميعا متساويين في الحقوق ومن اهمها الحق في الحياة والحرية والبحث عن السعادة، كما يقول نص الدستور الامريكي، وانهم في ضوء هذه المبادئ اختاروا الديمقراطية نظاما للحكم، وهو خيار ليس بالسهل، بل مفعم بالمشاكل والعقبات دائمأ، وانها طريق تعتريه العثرات والعقبات في معظم الاحيان. وأن الديمقراطية لا تعني الانصياع والتماثل التام لرأي اوحد او تيار بعينه، بل تعني في المقام الأول الاختلاف والتنوع، وتقبل الاخر، والتسامح، والقدرة على التوصل دائما الى حلول وسطى لا تفتئت على حقوق فئة بعينها، أو تنتصر لجنس او لعرق او لدين دون سواه، وان ذلك يتحقق حين يضع المرء نفسه موضع خصمه او من يناقضه في الرأي، وحرص أوباما على ان يذكر الأمريكيين ان هذا هو المقصود بأن امريكا امة استثنائية، ليس انها شعب معصوم من الأخطاء، أو انها امة مثالية لا يشوبها أي عوار، بل المقصود هو قدرتها الدائمة على التغيير، وتخطي العقبات، والحفاظ على قوة وصلابة الوشائج التي تجمع الولايات المتحدة والتي جعلت منها البلد الأكثر قوة وثراء في العالم. وكيف أن امريكا ستشهد في خلال عشرة ايام علامة اخرى من علامات قوتها كأمة ونموذج للعالم كديمقراطية فاعلة وحيوية وفي كامل عنفوانها، وهى الانتقال السلس للسلطة من رئيس لآخر، منوها من جديد بحرص ادارته على تقديم كل المساعدة والمشورة لفريق الرئيس المنتخب، تماما كما فعل معه سلفه الرئيس السابق جورج بوش قبل ثمان سوات.

لكن ملمحا هاما في خطاب اوباما أنه في سياق تعديده لإنجازات سنواته الثمان في البيت الأبيض، وايضا عبر تذكيره الأمريكيين بالمبادئ والقيم التي بني عليها وطنهم قبل 240 عاما، انه لم يفته أن يغمز من قناة الرئيس المنتخب دونالد ترامب أكثر من مرة، دون أن يذكر اسمه مباشرة، منوها انه يريد ان يركز في خطاب وداعه على ما اسماه «الوضع الحالي لديمقراطيتنا». فتطرق اوباما الى قضية الهجرة والمهاجرين، محذرا من مغبة التقاعس عن استثمار الجهد والمال في ابناء المهاجرين لمجرد انهم مختلفون في اللون او العرق او الدين، مشيرا الى ان سياسات كهذه ستعود بالضرر على المجتمع بأسره لأن هؤلاء الملونين يمثلون نسبة متزايدة من القوى العاملة الامريكية، في مقابل تناقص تعداد الأطفال البيض عاما بعد آخر، وان قوة امريكا كانت وستظل دائما في أنها امة من المهاجرين، ومن ثم في تنوعها العرقي والثقافي والديني، مشيرا الى ان بعض ما يقال اليوم عن ذي الأصول اللاتينية او السود أو المسلمين من افكار تنميطية وتوصيفات عنصرية، سبق وأن قيل عن المهاجرين الأيرلنديين والإيطاليين والبولنديين في مطلع القرن الماضي، وقد ثبت خطأ ادعاءات كل مناهضي الهجرة بأن أولئك المهاجرين سوف يؤثرون سلبا على طبيعة المجتمع الامريكي وتجانسه، على حد تعبير أوباما.

وتلك في الحقيقة من القضايا الشائكة والخلافية حاليا في الولايات المتحدة، وكانت محل جدل حاد خلال الحملة الانتخابية، حيث بذل الرئيس المرشح الجمهوري آنذاك دونالد ترمب العديد من الوعود بشأن وقف تدفق المهاجرين غير الشرعيين، عبر بناء سور على حدود امريكا الجنوبية مع المكسيك، ووقف قبول المزيد من اللاجئين خاصة من دول الشرق الأوسط، وأيضا الغاء «قانون الحلم» الذي اقر اوباما بموجبه بتمهيد الطريق امام شرعنة وجود الملايين من ابناء المهاجرين غير الشرعيين. وهي وعود لا ينفك الرئيس المنتخب ترمب يجدد عزمه على انها ستكون في مقدمة اولوياته بمجرد تسلمه السلطة بعد عشرة ايام. ايضا، حذر اوباما بقوة من خطورة استهداف المسلمين الأمريكيين عبر أية اجراءات بعينها كخلق سجل خاص بهم، وهو ما يرقى الى كونه تمييزا عنصريا، كما شددد اوباما على خطورة استمرار اتساع الهوة بين القراء والاغنياء في الولايات المتحدة، وتدني مستويات المعيشة لقطاعات كبيرة من الطبقات المتوسطة والعاملة في أمريكا.

أما الملمح الآخر الذي كان استثنائيا في خطاب أوباما الوداعي، فهو العواطف الجياشة التي حفل بها والتي فاضت خاصة حين راح يتحدث عن زوجته ميشيل وابنتيه «ساشا» و«ملايا»، وراح يمسح دموعا غالبته، وهو يكيل لهم عبارات الثناء، موجها خطابه الى «ميشيل» قائلا «كنت لي ليس فقط زوجة وأما لبناتي بل افضل صديقة ايضا، لقد تقلدت دورا فرض عليك ولم تختاريه، وأديته بمهارة وصلابة ولباقة ممزوجة بخفة الظل. لقد جعلت من البيت الأبيض بيتا ينتمي الى كل الامريكيين. وبات جيل كامل يتطلع اليك كنموذج يحتذى. وكنت فخرا لي ولأمريكا بأجمعها»، وبدورها لم تتمالك ميشيل دموعها هي وابنتها الكبرى «ملايا» التي جلست الى جوارها، خاصة حين هب الحضور لتحيتها وقوفا بموجة من التصفيق.