892131
892131
شرفات

يوميات .. «يَ وَدْ يَ تقيل»!

09 يناير 2017
09 يناير 2017

892134

عبدالله حبيب -

هذه الحلقة من اليوميات مهداة بكل اليفوع والاشرئباب إلى «م. م.» في تلك الأصائل «الصَّحْماويَّة» البعيدة: «يَ وَدْ يْ تقيل»!.

استكمالاً للحلقة السابقة: الخميس، 12 يوليو 2001، لوس أنجلوس، كاليفورنيا:

زرنا ظهراً متحف الطيران في سانتا مونِكا، وهو متحف صغير، وذو طابع عسكري في المقام الأول، ولا غرابة في ذلك فنحن في الولايات المتحدة في نهاية المطاف!. لا أدري لماذا ترتبط لدي فكرة الطائرات بالسذاجة والحماقة على الرغم من ان فكرة صناعة صندوق حديدي ضخم يحمل بداخله بشراً ويطير لَهُوَ إعجاز باهر للعقل العلمي، مع كامل الاحترام للحمائم. لكن ربما لأنني من مجز الصغرى فإنني أقرب إلى نموذج عباس بن فرناس من نموذج «الأخوان رايت». من الأفضل ان تكون اليدان جناحين يطير بهما الإنسان من تلقاء نفسه عوضاً عن أن يكون محمولاً في صندوق عاتٍ من حديد طائر. إلى هذا فإن رفيع الهمَّة عباس بن فرناس لم يَحُل دون أن تكون أحد أحلام الصبا أن أكون طياراً حربياً يسهم في تحرير فلسطين، بحيث تُسقط طائرته فيستشهد بعد أن يكون قد أبلى بلاء حسناً في معركة جوية كبيرة تمكن خلالها من إسقاط عدد كبير من مقاتلات العدو.

عادت بي الذاكرة إلى عام 1985 حين كنت في بريطانيا بعد سنوات طويلة من تبخُّر الحلم الجوي بالمشاركة في تحرير فلسطين التي خذلها وأحبطها الجميع، حيث زرت معرضاً ضخماً للطيران الحربي، إذ كنت أريد أن أرى رأي العين طائرة «سترايك ماستر» التي كان لها الدور الحاسم في حرب الجبل الأخضر وكذلك حرب ظفار؛ ففي الحرب الثانية كانت الـ«سترايك ماستر» تتمكن من الوصل إلى موقع أي هجوم أو كمين تنفذه الجبهة بعد خمس عشرة إلى خمس وعشرين دقيقة فقط من الإقلاع، فتتكفل بكل شيء حيث ان هذه المدة القصيرة جعلت انسحاب الثوار إلى أماكن آمنة بعد تنفيذ عملياتهم أمراً في غاية الصعوبة، خاصة وان مدفعيتهم المضادة للطائرات لم تكن على تلك الدرجة من التطور (وليس صحيحاً على الإطلاق ما يتردد عن ان الجبهة كانت تمتلك صواريخ «سام أرض – جو»). على حد علمي لم تعد مقاتلة الـ«سترايك ماستر» المثالية في مواجهة حرب العصابات في الخدمة في أي مكان من العالم. لكن بعيداً عن ذكر وذكرى هذه المقاتلة فقد هالني في المعرض الجوي ما رأيت؛ إذ إني كنت أعتقد انه حتى أكثر الطائرات الحربية بدائية كانت مجهزة لإلقاء القنابل، غير ان المعرض دحض اعتقادي بصورة شاهقة لدى مشاهدتي نماذج من أبكر الطائرات الحربية. كانت تلك النماذج تختزل عنف الإنسان وغريزته المتأصلة في القتل في كل مكان وبكل الطرق التي يصعب تخيلها أحياناً. لم أكن أتصور هذا: تحتوي الطائرة الحربية البدائية ذات المقصورة المفتوحة على مقعدين للطيار ومساعده (وهذا في الحقيقة لم يكن مساعداً بالمعنى المِلاحي، بل بمعنى الإغاثة). تتكون الطائرة الحربية البدائية، إذاً، من ذينك المقعدين، ومدفع رشاش صغير دائري الحركة، ولا شيء غير ذلك سوى البدن والمحرِّك. بذلك تقلع طائرتان متعاديتان إلى السماء ليس لأي غرض آخر سوى أن يتقاتل 4 من بني آدم هناك في الأعالي، وليس بنيَّة إلحاق ضرر على هدف عسكري على الأرض التي اقتتلنا عليها وعلينا الآن أن نحترب في السماء. هكذا يُصِعِّدُ الحديد فكرة المبارزة القديمة، لكن ليس بأي نبل كبير هذه المرة؛ إذ ما ضرَّنا لو أثخنَّا على الأرض فقط وتركنا السماء للطيور. كلا، لا يستطيع الإنسان ذلك؛ فقد اختار أن يشوِّه ويُفسد كل شيء وفي كل مكان.

ليلاً، ازدادت وعكة [...] فأخذتها إلى مكان مألوف لديَّ بسبب اعتلالاتي الصحية المتلاحقة: UCLA Medical Center . في قاعة الانتظار كان الممرض يأتي منادياً اسم المريض الذي جاء دوره. وإن كان هذا نائماً على المقعد في وضع الجلوس أو القرفصاء، غير المتاح غيرهما أصلاً، فإن الممرض يوقظه برفق، كما انه ينادي الجميع بأسمائهم العائلية. بيد أنه كان من بين المنتظرين مريض أسود في منتصف العمر، رثّ الثياب، ورثّ الجسد بحيث انه بدا مُشَرَّداً إلا قليلاً فقط، وكان نائماً أو سادراً في الوهن. جاء الممرض الأبيض وناداه، حسب الأصول، باسمه العائلي (Mr. …) غير أنه كان مستغرقاً في ما كان مستغرقاً فيه، فما كان من الممرض إلا أن أخذ يركله بقدمه بازدراء شديد، مستمراً، في الوقت نفسه، في التلفظ بالنداء المهذب (Mr. …). يا لأمريكا وقشورها البراقة: أيها السيد المحترم فلان لقد آن أوان إهانتك؛ فأنا أناديك باسمك العائلي علامة لـ «احترامي» لك وأنا أركلك بقدمي دلالة على موقفي من لونك!.

في ساعة متأخرة من الليل وصل دورنا، فأخذونا إلى غرفة جاءتنا فيها ممرضة (أو كما حدستُ أنها طالبة طب متدربة في كلية الطب بالجامعة). وهذه سألت [...] بعض الأسئلة الروتينية والعامة المعهودة لدى زيارة المستشفيات الأمريكية. وبعد وقت طويل من ذلك جاءت الطبيبة التي كانت قد اطلعت على ما هو مكتوب عن الحالة بقلم تلك الممرضة أو المتدربة. حين دخلت الطبيبة الغرفة كنا نتحدث. سألتنا بتهذيب احترافي شديد ممزوجاً بابتسامة أمريكية جاهزة مثل دجاج كِنْتَاكي المقلي عن اللغة التي نحكي بها، فأجبتها انها العربية. طلبت مني الطبيبة أن أغادر الغرفة. لاحقاً أخبرتني [... التي كانت تعاني من التهاب نسائي شائع] أن أول ما سألته الطبيبة بعد خروجي كان يتعلق بالتفاصيل الحميمة لعلاقتنا، وذلك طبيعي ولا حرج فيه. غير ان الطبيبة أمعنت بما يشبه الاستيهام التعويضي في طرح أسئلة تفصيلية لم تبدُ ذات وجاهة طبية، فأبدت [...] استياءها للطبيبة من تجاوزها الحدود المقبولة في طرح أسئلة يفترض انها تبتغي الدقة في تشخيص المرض وليس كتابة سيناريو فيلم بورنوغرافي. ردت عليها الطبيبة بأنها إنما تطرح تلك الأسئلة الغائرة لأنها تعلم جيداً ان العرب وحشيون جداً في المعاشرة!. حسن جداً، لا يوجد الاستشراق في معاهد البحوث والدراسات، والدبابات وحاملات الطائرات فقط، بل في المستشفيات أيضاً. وفي أية حال يحاجج إدوَرد سعيد ــ في استفادة مباشرة من ميشيل فوكو -- ان الاستشراق «خطاب» أكثر منه «مؤسسة».

قبل نحو أسبوعين انتحرت أو قُتلت سعاد حسني في ظروف بائسة وغامضة في لندن. في أوائل السبعينات كان كل الأولاد والبنات تقريباً في صحم المركز، وإلى درجة أقل في البلدات والقرى التابعة، يرددون:«يَ وَدْ يَ تقيل». كانت هذه آية من آيات الرقي الغزلي وأمارة من أمارات الحداثة في «الدلع»، حيث بدأت اللهجة المصرية القادمة مع المدرسين وأغاني ومسلسلات الإذاعة والتلفزيون في تلقيح اللسان التَّغزُّلي لدينا في عُمان. كان البعض يخلط مفردات الخطاب الغزلي العماني القديم بذلك القادم من أرض الكنانة، وبالنسبة لي فقد كانت أحد اجتهاداتي الصغيرة هكذا: «يَبُويي يَ الدَّلع يَ التُّوح صوبنا إذا ما عندكم معازيب يَ وَدْ يَ تقيل». وبالتأكيد فإن هذه العبارة المُرَكَّبة كانت غليظة، ودَبِقَة، وثقيلة الظل، وأطول مما ينبغي في افتقارها للتكثيف والرشاقة لجهة إرسال إشارة رغبة في همسة ظامئة ومُختَلَسَة. في أية حال، كان ذلك مثالاً واحداً فقط على ركاكتي المتطرفة وبلاهتي الفائقة في فن «المغازل». غير انه، ومهما يكن من أمر، كانت سعاد حسني تشرف على مرحلة اخضرار قلوبنا الصغيرة وتسارع وجيبها الراعش نحو موسم نضج العناقيد.

سنستمع، إذاً، بعد المستشفى الاستشراقي إلى «يَ وَدْ يَ تقيل» فيما يشبه قداس الموتى الإجلالي للسندريلا. لها في منامها الأخير السلام، ولها الرقة، والعذوبة، والخلود في قلوبنا أو ما تبقى منها.

الجمعة، 13 يوليو 2001، لوس أنجلوس، كاليفورنيا:

ما يستطيعونه، لم يستطيعوه بعد.

لكن، لا تطمئنوا.

السبت 14 يوليو 2001، لوس أنجلوس، كاليفورنيا:

شاهدنا فيلم «بيرل هاربر» لِمايكل بي: فيلم أمريكي جداً، وبالمعاني كافة في رداءته، ونذالته، وسخفه، وصفاقته، وحقارته، وتفاهته، ورقاعته، ودناءته، وحماقته، بل وتحريضه الصريح على الجريمة والإبادة.

أعتقد أن هذا الفيلم انما يأتي في إطار منحى جديد في السينما الأمريكية؛ وهو المنحى الذي تتم فيه إحالة حدث كبير إلى ما يشبه المعطيات الشخصية، وذلك من أجل القول للمشاهد الأمريكي «لقد كنت أنت أيضاً هناك»، أو «كان يمكن أن تكون هناك كذلك»؛ وهذه الـ «أنت» هي بالضبط ما يلعب عليه «ميكانيزم» التماهي في السينما الأمريكية. لقد أصبح، مثلاً، في وسع كل مراهق أمريكي اليوم أن يعيش قصة حب خارقة في بذخ مقصورات، وقُمرات، وقاعات الـ «تايْتَنِك» بل وعلى سطحها وهي تغرق كما في فيلم جيمس كاميرون الذي لا أنسى انه واحد من أسوأ من أخرج أفلاماً ضد العرب والمسلمين، وأن يكون كل مراهق أمريكي لياناردو دي كابريو بطريقته في إسراف الوسامة. كما أتذكر أن الفيلم الذي ظهر في 1996 حول التجربة الغرامية التي عاشها ارنست هِمِنجواي مع ممرضة كان، إلى حد غير قليل، موجهاً إلى الطلبة الأمريكان بمعنى «أنت أيضاً يمكن أن تكون ارنست هِمِنجواي، ولكن ليس ثمة داع لأن تكتب «العجوز والبحر»، أو أن تدخل ماسورة البندقية في فمك وتطلق النار»؛ فـ «هِمِنجواي الأمريكي المعاصر» ليس شخصاً تراجيدياً جمع في روحه كل تناقضات الحياة الأمريكية فانتحر بسبب ذلك، وإنما هو شاب وسيم يعيش قصة حب مع ممرضة جميلة، والأمر بِرُمَّته في نظري ليس إلا وجهاً من وجوه ثقافة سلسلة كتب “How to be the…”؛ حيث تجد ضمن إصدارات هذه السلسة الرائجة عناوين من قبيل «كيف تصبح رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية»، و« كيف تصبح أغنى شخص على الأرض»، و« كيف تصبح أعظم شاعر في التاريخ». ولا أستبعد شخصياً وجود عنوان في هذه السلسلة مثل «كيف تصبح أغبى أمريكي على الإطلاق».

لكن ما استحوذ على اهتمامي في فيلم «بيرل هاربر» كان اللقطة التي تتبع فيها آلة التصوير السينمائية (والكلمة غير دقيقة بسبب «الصُّور المُوَلَّدة حاسوبيَّاً» –CGIs-- الكثيرة التي يستعملها الفيلم) عمودياً قنبلة منذ لحظة إلقائها من مقاتلة يابانية حتى لحظة انفجارها على الهدف في المرفأ. عليَّ أن استحضر ان مثل هذه اللقطة قد شاع في التغطية التلفزيونية في حرب تدمير العراق، «عاصفة الصحراء»، حيث هناك آلة تصوير صغيرة مرفقة بالصاروخ أو القنبلة ترصد حركة الحتف الموثَّقة عبر البث المباشر إلى قُمرة القيادة وتنفجر مع الانفجار بعد ان تكون قد سجلت الواقعة ليراها العالم كله بعد ذلك (وربما لهذا حاجج جان بودليار بترف نظري فرنسي حريري ان «حرب الخليج لم تحدث»). ولم يحدث على حد علمي ان استخدمت هذه اللقطة على نطاق واسع في السينما الأمريكية (مع اعترافي بضعف متابعتي للسينما الأمريكية المعاصرة التي لا أُضغن لها الكثير من الحب في المقام الأول). وفي الوقت نفسه فإن هذا الكلام يَتَمَشْكَلُ باسترجاع عمل سينمائي أمريكي كلاسيكي هو فيلم ستانلي كوبرِك «دكتور سترانجلاف»؛ فقد كانت هناك لقطة القنبلة الهاوية وعلى متنها رجل. غير اني أميل إلى الاعتقاد ان عبقرية كوبرِك قد تعالقت مع حقيقة ان أحداث الفيلم كانت تدور في عز الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، والتسابق في إنتاج وسائل الاستراق والتلصص. وأن يكون هناك رجل مرفَق بقنبلة تسقط من الجو فذلك عائد إلى سخط كوبرِك ومرارته المعروفة من العنف المستشري عبر التاريخ في حياة البشر أفراداً وجماعات، وهي المرارة التي كرَّس لها حياته السينمائية بالكامل، وبذلك فقد ترك بصمته الخالدة على تاريخ الفن السابع.

لكنني احتسيت لتوِّي سبع قنانٍ يابانيَّة فاخرة («سابارو») مع سبق الإصرار والترصد في انتقام من فيلم «بيرل هاربر»، ولذلك فإني لا أريد أن أقتنع بأن كلامي فيه الحد الأدنى من الوجاهة.

الأحد 15 يوليو 2001، لوس أنجلوس، كاليفورنيا:

نزار عندري وأنا حضرنا عرض مسرحية «ماركس في سوهو» لهَوَرد زِن بأداء استثنائي لِبْرايَن جونز. عمل ساحر في مشهد واحد. أعجبني العمل كثيراً، إذ اني تمكنت من تقليم أنياب «الاحتجاجات الجمالية» التي كانت تحاول أن تخربش رأسي بأن اقنعتها ان هذا عمل مسرحي عن «الشيبه العود» من تأليف أعظم مؤرخ ماركسي أمريكي (“People’s History of the United Stats”)، وليس من تأليف مؤلف مسرحي متخصص إلى درجة انه لا ينتمي حتى إلى نفسه.

الاثنين 16 يوليو 2001، لوس أنجلوس، كاليفورنيا:

هذا يوم يحاول أن يكون لطيفاً؛ يحاول كثيراً جداً، إلى الحد الذي أشفقت عليه فيه وحزنت لأجله، وتظاهرت بالاقتناع، لأجل خاطر استماتته في المحاولة بأنه يوم لطيف.

الثلاثاء 17 يوليو 2001، لوس أنجلوس، كاليفورنيا:

هذا يوم استمات حتى مات، ولا أدري ما الذي عليَّ أن أفعل الآن بجثته.

الأربعاء 18 يوليو 2001، لوس أنجلوس، كاليفورنيا:

على المرء ألا يسامح العالم أبداً، وألا يقترف، بسبب ذلك تحديداً، خطأ بحق أي أحد أبداً، أبداً. على المرء أن يكون دوماً جنديَّا مجهولاً في الجانب الشريف، والرجولي، والعنادي، والشهم، والانتحاري، والبطولي من المعركة، تاركاً الوحل لمن أرادوا التمرغ فيه منذ البداية؛ منذ الطلقة الأولى في حرب الغدر والخيانة.