الملف السياسي

واقعية مدروسة .. وحماية المكتسبات الاجتماعية

09 يناير 2017
09 يناير 2017

علاء الدين يوسف -

,, بادئ ذي بدء لابد من الإشادة بالبيان التحليلي لوزارة المالية الذي أصدرته بالتنسيق مع الأمانة العامة للمجلس الأعلى للتخطيط حول أهم ملامح وتقديرات الموازنة العامة للسنة المالية الجديدة إضافة إلى أهم النتائج المالية للسنة المالية 2016 وفق الحسابات الأولية، وذلك لأسباب عديدة,,

فقد اتسم البيان بمنهجية ومهنية شديدة الإدراك للظروف الاقتصادية والمالية،ليس للسلطنة فحسب،ولكن للتطورات الجارية إقليميا ودوليا،بحيث جاءت الموازنة في إطار واقعي مدروس انعكس في بيانها التحليلي الذي قدم على وجه التقريب صورة متكاملة للأوضاع الاقتصادية في الدولة وماليتها العامة الحالية والمستقبلية، مع رصد كافة السلبيات والايجابيات وكذلك المصاعب والتحديات القائمة نتيجة استمرار التراجع في أسعار النفط مما حتم فرض موازنة واقعية تستجيب للظروف الجارية سواء من حيث تبني برامج تقشف محدودة أوتحريك لأسعار بعض السلع والخدمات وتعظيم الموارد ورفع كفاءة استخدامها دون التضحية بكل تأكيد بالأبعاد الاجتماعية التي حرصت عليها السلطنة خلال العامين الماضيين في ظروف اقتصادية صعبة حتى لا تشعر المواطن بوطأة وضغوط هذه الظروف.

ولا غرابة بالتالي في أن يكون من بين أهم أهداف الموازنة استقرار المستوى المعيشي للمواطنين، بعدما حققت السلطنة إنجازات كبيرة في مجالات الصحة والتعليم والخدمات الأساسية والبنية الأساسية والتي دفعت بالمستويات المعيشية للمواطنين إلى مستويات عالية،هذه الإنجازات تحققت من خلال السياسات القطاعية لكافة الوحدات الحكومية ومن خلال الاستخدام الأمثل لمخصصاتها من الموازنة العامة للدولة، ومن هنا فإن الموازنة - وكما جاء في بيانها التحليلي - تستهدف المحافظة على هذه الإنجازات خاصة في قطاعات التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية،كما تستهدف الموازنة الى المحافظة على مستوى الخدمات الحكومية الأساسية كالصحة والتعليم والتدريب والكهرباء والمياه والخدمات الأمنية والاتصالات ومساعدات الضمان الاجتماعي والعمل على تحسين جودتها قدر الإمكان،وتوفير الاعتمادات المالية اللازمة لتفعيل دور الصندوق الوطني للتدريب ليتمكن من الدفع بجهود التوظيف في القطاع الخاص وتمويل برامج التأهيل والتدريب على النحو الذي يضمن جودتها وسرعة تنفيذها والاستمرار في تنفيذ برنامج بناء المساكن الاجتماعية وبرنامج المساعدات السكنية النقدية للفئات المستحقة من المواطنين، وجميع النقاط السابقة تؤكد الحرص الشديد على حماية المكتسبات الاجتماعية.

وتمثلت الواقعية المدروسة أيضا في بناء موازنة 2017 على عدم المبالغة في تقدير أسعار البترول التي تعتمد عليها المدخولات الجارية للدولة بنسبة ما زالت تتجاوز السبعين في المائة من مجمل مواردها،ونؤكد أن تلك واقعية مدروسة لأنه برغم التحسن الذي طرأ على أسعار النفط في الأسواق العالمية خلال الأشهر الماضية وبلوغه خمسة وخمسين دولارا للبرميل وسط توقعات بمزيد من التحسن في المرحلة المقبلة إلا أنه من الواضح أن الحذر كان مسيطرا تحسبا لأية طوارئ بحيث لا تتعرض الموازنة لهزات غير متوقعة أو لمزيد من العجز غير المرغوب، لتظل في نهاية المطاف إمكانية سد جانب من العجز قائمة مع احتمالات التحسن التدريجي لأسعار النفط، وربما يمكن القول وفي ضوء معطيات عديدة إن الأصعب قد يكون ولى بالفعل وأن المؤشرات ترجح حدوث تحسن ولو بشكل تدريجي،ولكن ما يبعث على الارتياح أيضا التمسك بعديد من برامج الإصلاح وطرحها بشكل تفصيلي وخاصة فيما يتعلق بالخروج من العباءة النفطية وتنويع الموارد المرتبطة بالأنشطة الاقتصادية ودعم دور القطاع الخاص والمشاركة بين الحكومة وهذا القطاع خاصة في دعم المشروعات الصغيرة والخاصة لإيجاد أجيال جديدة من رواد الأعمال برؤى واضحة، فضلا عن تبني برنامج للخصخصة يعتمد منهجية علمية لحماية أصول وموارد الدولة وتوسيع مشاركة الاستثمارات الخاصة في الوقت ذاته.

وبدون أدنى شك باتت هذه البرامج الإصلاحية مهمة للغاية مع استمرار الامور التي تعاني منها الموازنة، ليس في عام 2017 فحسب ولكن خلال الأعوام السابقة حيث ما زال الإنفاق الحكومي على جهاز الدولة الإداري يرهق كاهل الموازنة بالفعل، وهي مشكلة كبرى تعاني منها دول عديدة خاصة في منطقتنا العربية،وعلى سبيل المثال فأن الرواتب والأجور الحكومية تلتهم نحو75% من النفقات الجارية وهو رقم ضخم بكل تأكيد وله تبعات سلبية أخرى، فنظراً لظروف الموازنة التي تأثرت جراء الانخفاض الحاد في أسعار النفط ونظراً لارتفاع حجم الرواتب ونسبتها من الإنفاق العام وتنامي عبئها المالي فإن فرص التوظيف في القطاع الحكومي خلال عام 2017 ستكون محدودة ليصبح التعويل بشكل أساسي ووفقا لرؤية الموازنة الجديدة على شركات ومؤسسات القطاع الخاص لخلق فرص عمل للشباب العُماني من خلال إقامة المشروعات الاستثمارية ذات العائد الاقتصادي حيث تشير الإحصائيات الصادرة عن المركز الوطني للإحصاء والمعلومات إلى ارتفاع عدد العُمانيين العاملين في القطاع الخاص إلى 222 ألف عامل في عام 2016 بزيادة قدرها 13 ألف عامل مما يعني أن القطاع الخاص قد استطاع استيعاب هذا العدد وقياساً عليه فإنه من الممكن أن يوفر سوق العمل فرص عمل إضافية في حدود 12 إلى 13 ألف فرصة خلال عام 2017.

وفي ضوء ذلك وفي سياق جهود لجم العجز المالي والحد من تفاقمه كان من الضروري أن تتضمن موازنة 2017 عدداً من الإجراءات طالما طالب بها عديد من الخبراء في جانبي الإيرادات والإنفاق أهمها تنشيط الإيرادات غير النفطية ضمن حزمة إجراءات أخرى ومنها تعديل قانون ضريبة الدخل المتوقع صدوره خلال هذا العام،وتطبيق الضريبة الانتقائية على بعض السلع الخاصة كالتبغ والكحول وغيرها بشكل متزامن مع تطبيقها في باقي دول مجلس التعاون الخليجي، وتعديل رسوم إصدار تراخيـص استقدام العمال غير العُمانيين،وتعديل بعض الرسوم الخدمية للخدمات التي تقدمها شرطة عُمان السلطانية، والحد من الإعفاءات الضريبية للشركات والمؤسسات، ورفع كفاءة تحصيل الضرائب وتفعيل الرقابة والمتابعة، وتعديل الضوابط المطبقة للإعفاءات من الضريبة الجمركية، وتطبيق التعرفة المعدلة لكبار مستهلكي الكهرباء للاستخدامات التجارية والصناعية والحكومية وتعديل ضوابط تخصيص الأراضي التجارية والسياحية والصناعية والزراعية وتطبيق الرسوم الخدمية الموحدة للخدمات البلدية وتعديل الرسوم لبعض الخدمات المقدمة من الوزارات والوحدات الحكومية بما يعكس تكلفة ومستوى الخدمات المقدمة.

ويتطلب ذلك بالتأكيد ضرورة تكثيف الجهد الوطني بكل أشكاله، باتجاه توسيع قاعدة تعزيز الإيرادات بالدولة،حتى يكون بمقدورها أن تمضى قدما في التفاعل مع تطلعات العمانيين في التنمية المستدامة وتلبية الاحتياجات اليومية، والاستمرار في بناء قاعدة تنموية قوية لا يقف مردودها عند الأجيال الحالية فحسب، وإنما يوفر الأساس القوى الذي يسهم في تلبية متطلبات أجيال الزمن المقبل، ولاشك في أن أولى الخطوات المطلوبة في هذا السياق تتجسد في ضرورة البحث عن بدائل تتجاوز الأطر التقليدية التي تتضمنها برامج واشتراطات الهيئات المالية الدولية،مثل صندوق النقد والبنك الدولي، ويأتي في صدارتها تخفيض حجم الإنفاق العام،وتقليص المبالغ المخصصة للدعم وترشيد الزيادة في القوة العاملة في الحكومة والقطاع العام، وفرض ضرائب على المحروقات بشكل مبالغ فيه وغيرها من خطوات بوسعها في حال تطبيقها أن تخصم بالضرورة من رصيد الحماية الاجتماعية،التي توفرها الدولة لمواطنيها،وهو ما كانت له آثار وخيمة على كثير من الدول التي قبلت بهذه النوعية من الوصفات، إلا أنه في المقابل فإنه من الضروري ترشيد الإنفاق العام حتى لا يكون مفتوحا على مصراعيه، بحيث يتجاوز دائرة الإسراف والترف في بعض الأحيان ،بما يجعله يركز فقط على الضرورات وما يشكل أساسا لمشروعات التنمية ضمن الخطط الاستراتيجية الموضوعة سواء قصيرة أو متوسطة أو طويلة الأجل.

ومن الخطوات المطلوبة أيضا فتح آفاق جديدة أكثر نشاطا عما قبل للقطاعات الإنتاجية كالصناعة والزراعة وصيد الأسماك والسياحة وصناعة الموانئ والطاقة النظيفة والمتجددة،خاصة أن مقوماتها متاحة بمعدلات معقولة،وقد تكون هناك مؤشرات على مخرجات جيدة لهذه القطاعات حتى الآن، لكنها لم تبلغ بعد حد المساهمة بنصيب وافر في إيرادات الدولة، أو مدخلات الناتج العام، والتي ما زالت محدودة مقارنة بعائدات النفط التي تساهم بالنسبة العظمى من إجمالي إيرادات السلطنة، غير أن ذلك يستوجب تحسين البيئة التعليمية والتدريبية لتوفير الكوادر الوطنية القادرة على أن تتعامل مع هذه المجالات بالكفاءة المطلوبة ويتزامن مع تلك الخطوة ضرورة توفير بيئة استثمارية جديدة ومغايرة لما كان سائدا في السنوات الماضية، أو بالأحرى اتخاذ المزيد من السياسات الرامية الى جذب المزيد من رؤوس الأموال العربية والأجنبية.