أفكار وآراء

قرار وقف الاستيطان ورد الاعتبار لحل الدولتين

08 يناير 2017
08 يناير 2017

د. عبدالعاطي محمد -

أعطى قرار مجلس الأمن 2334 بوقف الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة قبلة الحياة لمشروع حل الدولتين ورد له الاعتبار بعد أن كاد يدخل غرفة الإنعاش ويفقد قيمته على مدى عدة سنوات مضت. ولم يكن مفاجئا أن تشعر إسرائيل بالذعر من هذا القرار لأنه يحدث تغييرا جوهريا في مسار أي مفاوضات مزمعة لتحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وذلك على عكس ما ذهبت إليه إسرائيل. وتفاقم الذعر الإسرائيلي بعد خطاب جون كيري وزير الخارجية الأمريكي الذي اتهم فيه إسرائيل صراحة بأنها المسؤولة عن انهيار الجهود الأمريكية بسبب إصرارها على التوسع الاستيطاني.

وتعود أهمية القرار إلى أمرين أساسيين أولهما يتعلق بربط مصير حل الدولتين بوقف الاستيطان، وحيث نص القرار على عدم مشروعية الاستيطان فإن ذلك يؤثر بوضوح على القضايا الأخرى مثل الحدود والقدس والسقف الزمني للمفاوضات، وثانيهما أنه صدر بأغلبية 14 عضوا في مجلس الأمن مع امتناع الولايات المتحدة عن التصويت، فيما اعتبر امتناعها موافقة ضمنية على القرار بما يعني أن هناك إجماعا دوليا يصعب للغاية على أي إدارة أمريكية مقبلة أن تغيره.

لسنوات طويلة أصرت حكومات إسرائيل المتعاقبة على أن تجعل مسألة الاستيطان خارج أية مفاوضات مباشرة بينها وبين الطرف الفلسطيني باعتبارها ضمن أجندة الحل النهائي الذي يأتي لاحقا بعد إقرار السلطة الفلسطينية بيهودية الدولة الإسرائيلية (إسقاط حق العودة)، والاتفاق على الترتيبات الأمنية، والانسحاب التدريجي من الأراضي الفلسطينية المحتلة ووقف أعمال المقاومة والعنف المتبادل وكلها كانت تندرج تحت عنوان بناء الثقة، وليس تفعيل حل الدولتين الذي صار حوله إجماع دولي بل وقبول رسمي إسرائيلي منذ بداية عملية السلام في مؤتمر مدريد 1991.

وعلى مدى سنوات طويلة شهدت جولات عدة من المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية كان المطلب الأول من الجانب الفلسطيني هو التوقف فورا عن بناء المستوطنات في الأراضي المحتلة، كما أن الولايات المتحدة ذاتها على اختلاف إداراتها كانت تحذر الطرف الإسرائيلي من التمادي في الاستيطان باعتباره عقبة كبرى أمام إحلال أية تسوية سلمية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي وبالتالي أمام الصراع العربي الإسرائيلي.

ويأتي القرار 2334 (الصادر 23 ديسمبر 2016) ليضع نهاية للصلف الإسرائيلي ويعيد الأمور إلى الطريق الصحيح. فوفقا لصيغته وحجم التأييد الدولي الذي حظي به فإن المستوطنات لم تعد موضوعا للتفاوض عند الحل النهائي لأنها لا تصلح لأن تكون موضوعا للتفاوض بما أنها أصبحت غير شرعية وفقا لمنطوق القرار. ليس الجديد منها غير شرعي فقط بل كلها مجتمعة منذ الاحتلال في يونيو 1967.

كما أن القرار بهذا المعنى يحتم أن تكون هناك شروط للتفاوض لا تستطيع إسرائيل الفكاك منها، وهي التي ظلت تصر دوما على ألا تكون هناك شروط مسبقة في أية مفاوضات. فطالما لم تعد المستوطنات مشروعة فإنه لا يجب الاعتراف بأية تغييرات حدثت في حدود 4 يونيو 1967، وفي وضع القدس أيضا. فوفقا لنص القرار يطالب مجلس الأمن إسرائيل بأن توقف فورا وعلى نحو كامل جميع الأنشطة الاستيطانية في الأراضي المحتلة بما فيها القدس الشرقية، ويؤكد عدم شرعية المستوطنات منذ عام 1967، ويعتبر المستوطنات انتهاكا بموجب القانون الدولي وعقبة أمام تحقيق حل الدولتين وإحلال السلام العادل. وأشار القرار إلى أن أي تغييرات على الحدود لن يتم الاعتراف بها إلا بموافقة الطرفين، كما أكد على التمييز في المعاملات بين إسرائيل والأراضي المحتلة عام 1967 فيما يعني أن الدول الأوروبية مثلا من حقها رفض السلع الزراعية الإسرائيلية التي يتم إنتاجها داخل المستوطنات.

وجاء خطاب جون كيري وزير الخارجية الأمريكية الذي ألقاه بعد أيام قليلة من صدور قرار مجلس الأمن وتحدث فيه عن رؤية إدارة أوباما لإحلال السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين (خطاب الوداع) كاشفا للمضمون السياسي لهذا القرار وهو تحديدا إنقاذ مشروع حل الدولتين. وقد تحدث كيري بلغة حادة للغاية ضد إسرائيل في سابقة غير معهودة زادت من حالة الذعر السياسية التي انتابت حكومة نتانياهو. وتضمن خطابه مقولات مهمة من شأنها تعزيز التغيير في مسار التسوية الذي أحدثه القرار 2334.

ومن ذلك تأكيده أن غالبية الأراضي التي يجب أن تكون تحت سيطرة الفلسطينيين حسب اتفاقية أوسلو أصبحت تحت السيطرة الإسرائيلية، وأن مواقع بعض المستوطنات تجعل من قيام الدولة الفلسطينية أمرا مستحيلا (وصلت إلى الحدود الأردنية)، وأن معظم الضفة الغربية الآن غير مسموح للفلسطينيين بالبناء عليها ،وهناك المئات من الحواجز الأمنية التي أقامتها إسرائيل في الأراضي المحتلة . وقال أيضا إن المستوطنات تهدد أمل الفلسطينيين في إقامة دولتهم كما تهدد أمن إسرائيل في آن واحد. وبناء عليه أكد كيري أن حل الدولتين الآن أصبح في خطر شديد، وقال إن إسرائيل لا تؤمن سوى بإسرائيل العظمى وترفض حل الدولتين.. «هل يقبل إسرائيلي أو أمريكي العيش تحت الاحتلال». وخلاصة خطابه أنه لا عودة عن حل الدولتين وعلى إسرائيل أن تقبل ذلك صراحة دون أية مواربة لأنه الحل الذي يوفر لها الأمن من وجهة نظر إدارة أوباما، فضلا عن تحقيقه لحلم الفلسطينيين في دولة مستقلة، وما أعاق تحقيق ذلك هو الاستيطان.

في تقييم الحدثين القرار 2334 وخطاب الوداع لجون كيري، هناك قراءتان كالعادة في عالمنا العربي فيما يتعلق بأي تطور معتبر يطرأ على مسار البحث عن السلام في الشرق الأوسط، الأولى وهي الأكثر انتشارا لما تحويه من إثارة وشحن للآراء والمشاعر التي تريد للصراع العربي الإسرائيلي التأجج باستمرار والثانية التي تراه فرصة يتعين الإمساك بها والبناء عليها لتحسين الموقف العربي والفلسطيني بالطبع دون تفريط أو إفراط.

أنصار القراءة الأولى قالوا بأن القرار قيمته رمزية ليس إلا لأنه غير ملزم (فقط ينطلق من المطالبة والحث على وقف الاستيطان ولا يتضمن عقوبات) وأنه تصفية حسابات شخصية من جانب أوباما ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو لغياب الكيمياء بينهما، ولأن الأخير تعمد إحباط جهود الأول في أن يحقق نجاحا في عملية السلام ينسب لتاريخه قبل أن يغادر البيت الأبيض خصوصا أن شيئا كهذا لطالما راود كل الرؤساء الأمريكيين في العقود الأخيرة، وبناء عليه فقد أوعز أوباما لمسؤوليه بأن يمضوا قدما لإصدار قرار يدين إسرائيل ويحرج حكومتها إلى حد كبير. ومن جهة أخرى أراد أوباما أن يصدر العراقيل إلى خصمه ترامب قبل أيام من توليه المنصب. وإلى هنا تنتهي قيمة القرار حيث لن يغير من الأمور شيئا. وقد التقت هذه القراءة مع القراءة الإسرائيلية! التي قالت من اللحظة الأولى إن أوباما غدر بإسرائيل، وما كان بصديق أن يأخذ صديقه إلى مجلس الأمن على حد تعبير نتانياهو. كلاهما حكمته نظرية المؤامرة.

وأما أنصار القراءة الثانية فيرون العكس، أي أن كلا الحدثين جاء حرصا على إسرائيل والفلسطينيين في آن واحد. فوفقا لما جاء على لسان كيري نفسه فإن حل الدولتين الذي يحتم وقف الاستيطان هو الطريق الوحيد لمستقبل إسرائيل دولة ديمقراطية .هو يرفض أن تظل إسرائيل دولة احتلال مسؤولة عن شعبين، حيث لن يحقق لها ذلك الأمن ولا هويتها ولا نظامها السياسي الديمقراطي، ويتساءل: «هل ستقبل إسرائيل أن تتولى أمر الأراضي الفلسطينية إذا ما انحلت السلطة الفلسطينية؟».

كما يأخذ في اعتباره التغيير السكاني الحاصل في الأراضي الفلسطينية حيث من المتوقع أن يتعادل السكان الفلسطينيين بالأراضي المحتلة مع سكان إسرائيل عام 2020 عند 6.6 مليون شخص لكل منهما. هذا من جهة، ومن جهة أخرى ليس من المتصور أن تنقلب إدارة مثل إدارة أوباما على صديقتها إسرائيل وهي التي كانت أكثر سخاء من غيرها في دعمها للدولة العبرية ماليا وسياسيا طوال السنوات الثماني الماضية (منحتها 38 مليار دولار وزودتها بطائرات إف-35 التي يستخدمها الجيش الأمريكي فقط).

ومن جهة ثالثة فإنه بغض النظر عن مواقف ترامب شديدة الانحياز لإسرائيل حسبما ظهر خلال حملته الانتخابية لم يحدث أن قطعت إدارة أمريكية الخيوط تماما مع إرث الإدارة السابقة، بل هناك حد أدنى من التواصل والتلاقي في الرؤى. وقد شكل ترامب فريقا متوازنا يضم بين مجموعاته شخصيات تقليدية وفية تنادي بالحفاظ على تحالفات الولايات المتحدة والتزاماتها الدولية على صعيد السياسة الخارجية، ومن ثم يصعب على إدارة ترامب أن تتنصل من قرار دولي صدر بما يشبه الإجماع، كما من الصعب أن تقبل الدول التي صوتت لصالح القرار العدول عنه أو تعديله احتراما لإرادتها ومكانتها الدولية. هذا فضلا عن أن حل الدولتين إرث سياسي ممتد منذ عدة إدارات أمريكية وجاء بمشاركة المجتمع الدولي كله.

هناك جديد إذن في مسار أي مفاوضات مزمعة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، ولا يجب على الطرفين العربي والفلسطيني إهدار الفرصة.