المنوعات

أعظم 100 كتاب غير أدبي: 4 ـ رسائل عيد الميلاد

04 يناير 2017
04 يناير 2017

روبرت مكروم -

إعداد: أحمد شافعي -

سوف يتضافر الشعر في هذه السلسلة كأنه خيط من ذهب، فالشعراء في كل جيل هم الذين يعيدون ملء معين الوعي الجمعي، وهم الذين يعذِّبونه. وهذه السلسلة ـ مثلما سبق أن ذكرت ـ قائمة شخصية بالنصوص الجوهرية، وبالكتب التي أرى أنها صاغت خيالنا «وجعلت منا ما نحن إياه». ويتسق مع القالب الذي نعمل فيه كتاب «رسائل عيد الميلاد» الذي عاش بعد مؤلفه تيد هيوز عيش الجرأة الفاضحة، والبلاغة المدهشة، والحماسة الغنائية، ممتزجة جميعا بصراحة تكسر القلوب. هو باختصار، مَعْلم في الشعر الإنجليزي.

كان من شأن قصة تيد (هيوز) وسلفيا (بلاث) أن تكون في أي عصر فصلا في كتاب المآسي الغرامية. فضلا عن أنه في التراث الأدبي الأنجلوأمريكي كان طبيعيا لزيجة تجمع بين شاعرين متعاصرين كبيرين من كلتي ضفتي الأطلنطي أن تكون مصدر فتنة لا تنضب. ضع في أول الأمر ضفيرة الحب والعمل الذي أثمر عددا من القصائد اللافتة، ثم أضف إلى ذلك انتحار أحدهما مبكرا، وبقاء أحدهما للعذاب طويلا، تجد بين يديك أسطورة. عندما حدث في صيف 1997 أن دخل هيوز مكتب ناشره فيبر آند بيبر، كان يحمل بين يديه مخطوطة تضم 88 قصيدة نحت فيها موجز دراما شخصية عجيبة. صدرت المخطوطة، وهي مخطوطة رسائل عيد الميلاد، في 1998 لتصبح أكثر دواوين الشعر الغرامي حسية في الذاكرة الحية.

صدام الفن والحب، وهما من الطبقات التكتونية في مسيرة أي شاعر، صدام الإبداع إذ يمتزج بالحياة اليومية، لا بد أن يثمر ما يصح أن يكون غلطة من غلطات الأدب الكبرى. وحينما يتصادف أن يكون الكاتبان المعنيان شاعرين عظيمين متعاصرين، وندَّين في الفن، فالخامة التي تنفجر من هذه الأعماق لا بد أن تكون وهاجة مبهجة مشبوبة المشاعر كأنها من غير هذا العالم. فكان حتما على هيوز أن يكون تناوله لبلاث ذا بعد أسطوري. يكتب:

الحالمة بداخلها

وقعت في غرامي

ولم تعرف.

ولحظتها

وقع الحالم بداخلي

في غرامها

وعرفت.

يرد وصف لخلفية القصة في رسالة من عام 1998 بعثها هيوز إلى صديقه ورفيقه الشاعر شيمس هيني. يقول هيوز إنه بدأ ابتداء من السبعينات يوجه «رسائل إلى سلفيا» مستكشفا كل جانب من جوانب العلاقة التي جمعت بينهما. يقول هيوز إنه في أول الأمر كان يكتب دونما ترو، وبصبغة غير رسمية، ثم إنه لاحقا حاول أن يعمل على ما كتب بطريقة أكثر سيطرة، لكنه وجد نفسه عاجزا عن ذلك. فرجع سيرته الأولى، إلى مغامراته العفوية، وظهر بعض رسائل عيد الميلاد للمرة الأولى في كتابه قصائد مختارة (1995)، ولكنه اعترف في مراسلات مع أصدقاء له إنه وجد بعض تلك القصائد أشد شخصية من أن تنشر. كانت رسائل عيد الميلاد المكتوبة على مدى خمسة وعشرين عاما هي التأمل العظيم في مسيرة هيوز، غير أنها كما سوف يتبين لم تكتمل.

حينما ظهرت رسائل عيد الميلاد أخيرا، ألقى هيوز سحره الاستثنائي ـ ولم تكن تلك هي المرة الأولى ـ على جمهور نشأ عبر جيلين على أعمال للشاعر مثل «الصقر في المطر» و«الغراب» وغيرهما، وكذلك على حكاية تيد وسلفيا، إحدى حكايات الغرام في القرن العشرين. وراج الكتاب على الفور وحصد الجوائز.

في رسائل عيد الميلاد مفارقات كثيرة. منها إحياؤه العلاقة المأساوية التي عاش هيوز نفسه نصف حياته ينازعها. فعلى مدار حياته، تعرض هيوز لعذاب شديد من جماهير بلاث الذين أرادوا أن يحملوه مسؤولية انتحارها في شتاء عام 1963، وكذلك مسؤولية الطريقة التي أدار بها نشر أعمالها بعد وفاتها. فبقيت سلفيا في موتها، مثلما في الحياة، مصدر قلق له.

أصبحت رسائل عيد الميلاد مؤلمة، وفي بعض الأوقات معقدة، بفضل تركة ذات قوة مشعة، وبفضل البنيان الهائل الذي ظل يذكر قراء هيوز بما للرجل من مكانة أدبية. كان كذلك كتابا علامة في مسيرة هيوز. واليوم بعد قرابة عشرين عاما من وفاته، يظهر هيوز الشاعر ـ الذي طالما تعرض للسخرية والمضايقات في حياته ـ صرحا أدبيا من صروح القرن الماضي، لا يكاد يذكر إلا ذكر إليوت، وييتس، وأودن، ولاركن، حتى أنه أصبح ـ على حد وصف أوبزرفر له أخيرا ـ «ملك الخيال الإنجليزي الماضي والقادم».

برسائل عيد الميلاد ضم هيوز أيضا بلاث إلى خلوده الأبدي بصورة لا انفكاك لها. ولعلها ما كانت لتستاء من هذا. فقد كانت بلاث شخصا معذَّبا وجريئا لا يتردد أن يلعب دوره في أي مسرحية. وقد قال هيوز ذات مرة عن أيامهما الأولى معا في الخمسينيات «لقد كانت تكتب قصائدها الأولى ببطء شديد». قال: «كأنها كانت تحل مسألة رياضية، فتعض على شفتيها، وتضع دائرة سميكة داكنة من الحبر حول كل كلمة تحركها في المعجم».

يصف كتاب رسائل عيد الميلاد (مع رسائل بلاث ويومياتها) حكاية باتت معروفة الآن. لو أن بدايات سلفيا كانت بطيئة ومكتبية، فسرعان ما حلقت بلاث إلى حيث لا يطالها حبيبها. ولكن في منحنى قاتل. لقد كان توافقهما مأساويا، فسرعان ما ساءت علاقتهما. بحلول عام 1963 كان الاضطراب الذي سيطر على حياة بلاث قد تمكَّن منها تماما وآلمها أشد الألم. والسؤال الذي طالما خاض فيه النقاد النسويون هو: هل كان أبوها الميت يسيطر على تفكيرها فجعل انتحارها أمرا مفروغا منه، أم أن سلوك هيوز، لا سيما قراراه بالرحيل عنها إلى امرأة أخرى بعد زيجة دامت ست سنين، هو الذي دفع بها إلى الحافة؟

من يدري؟ الرسالة الأخيرة، وهي قصيدة فيها بيت مأساوي نصه «زوجتك ماتت»، لم تنشر إلا بعد وفاة هيوز. هيوز نفسه ابتلعته الدوامة، قال إن سبب الانتحار «مجهول كأنما لم يكن انتحار من الأساس». هكذا يبقى موت بلاث لغزا أوحى برائعة أدبية هي «The Savage God» لـ آل ألفاريز «محرر الشعر السابق في أوبزرفر» وفيض لا ينتهي من الكلمات والتفسيرات.

هيوز نفسه كمن في وكره، فعاش في ديفون، يكتب عن الطبيعة، ويتكتم على شؤونه. ولم ينفعه هذا كثيرا. فقد كتب مرة يقول «يبدو أن صمتي يثبت عليّ كل اتهام وأي خيال». وبتحمل يليق ببروميثيوس، بقي على صمته. «كنت أوثر الصمت إجمالا على أن أسمح لنفسي بالانجرار إلى حلبة الصراع والمضايقات والإساءات، وعلى أن أتقيأ كل تفصيلة من حياتي مع سلفيا».

ولكنه كان مجروحا. أتذكر أنني تهورت فطرحت عليه سؤالا عن سلفيا، بعد أن شربنا الكثير من كؤوس النبيذ، فاندهشت وتأثرت من طوفان الذكريات المحبة إثر سؤال بسيط يفتقر إلى اللياقة. كان في عنفوانه، حاضرا بقوة شأن بلاث، ذا بنيان لا ينسى، ورصيد لا حدود له من المشاعر والإنسانية، ونبرة صوت رقيقة يبدو أنه تخلق كل جملة تنطقها خلقا جديدا.

كانت رسائل عيد الميلاد أيضا محاولة من هيوز لإغلاق صندوق بندورا الذي انطلقت منه أفاعي التكهنات الشهوانية الفاسدة. يسهل أن ننسى حدة المعارضة. لقد كان الشاعر يتعرض للمقاطعة في أمسياته بصيحات تتهمه أنه «قاتل». وقد كتب النسوي الأمريكي روبن مورجان «استدعاء للمحاكمة» فكان أول بيت فيها «أوجه اتهامي إلى تيد هيوز».

بعد استكشافه فترة حياة بلاث القصيرة، توقف هيوز قبل الكشف عن ظروف انتحارها نفسه الذي أثير حوله قدر لانهائي من النميمة. كان يصارع تلك العطلة الأسبوعية الضائعة في ثلج منتصف شتاء 1963، لا سيما التفصيلة المريعة شبه القاتلة عن إحراق بلاث رسالة انتحارها الموجهة إليه أمام عينيه، بعد أن كانت قد وصلت إليه قبل الانتحار.

مضى يقطِّر روع هذه اللحظة في مسودات إثر مسودات من الرسالة الأخيرة في دفتر مدرسي أزرق يحتوي نسخا لكثير من رسائل عيد الميلاد. والشخص الوحيد الذي كان يعرف بوجود هذه القصيدة، لأن الشاعر بنفسه أعطاه نسخة منها مطبوعة على الآلة الكاتبة، هو أرملة الشاعر كارول.

وها هنا يبدأ الفصل الختامي من القصة. لقد آثرت كارول هيوز بنبل أن لا تتكلم علنا عن زوجها الراحل. وفي كل تركة أدبية يبقى السؤال عن الحق في نشر عمل لم ينشره صاحبه في حياته. زوجة هاردي الثانية أحرقت مراسلات زوجها مع زوجته الأولى مثيرة غضب أجيال من الباحثين. هيوز نفسه تعرض لانتقادات لتدميره آخر يوميات بلاث. أما كارول هيوز فحرصت دائما أن تبذل أقصى ما في وسعها من أجل أعمال زوجها. كانت تعرف طول الوقت بوجود هذه الرسالة الأخيرة وما تكشف عنه. واختارت اللحظة المناسبة لنشرها على صفحات جريدة نيوستيتسمان. وفي يوم نشرها كتبت شاعرة البلاط الإنجليزي كارول آن دافي تقول إن هذه المقطوعة الختامية لـ رسائل عيد الميلاد أشبه بالنظر إلى شمس تغيب. تمسّ الأعمق والأظلم من أي قصيدة كتبها هيوز. وسيكشف الزمن إن كانت روح سلفيا بلاث قد استراحت أخيرا. وحتى ذلك الحين، ستبقى رسائل عيد الميلاد ضمن إرث الأدب الخالد.

بوكس

تلك السترة الزرقاء

سترة الجلاد المجنون

بقيت بعدما ذهبت جملتك.

غير أني جلست

ساكنا

لا أعرف ما الذي أسكنك

وأنا ناظر إليك

وساكن الآن وإلى الأبد

إلى الأبد

مائل لوهلة عابرة

فوق كفنك.