888177
888177
المنوعات

«نارنجة» جوخة الحارثية تطرح أسئلة المسافة بين الواقع والخيال

03 يناير 2017
03 يناير 2017

في جلسة نقاشية لمختبر السرديات -

د. أحمد الحنشي: الرواية تستجيب للمسار التاريخي للمجتمعات وتختزل الوعي بالذات -

كتب ـ عاصم الشيدي -

ناقش حضور مختبر السرديات العماني أمس الأول رواية «نارنجة» للكاتبة جوخة الحارثية من خلال ورقة قدمها الدكتور أحمد الحنشي من كلية الآداب جامعة السلطان قابوس.

لكن الجلسة النقاشية لم تكتف بورقة الدكتور الحنشي بل قدم الشاعر إبراهيم سعيد الذي كان يدير الحوار استعراضا لأهم الكتابات النقدية والمراجعات الصحفية التي قدمت في الرواية منذ صدورها واضعا الحضور أمام أهم القراءات وأهم الملاحظات التي رصدها النقاد والصحفيون على الرواية لينطلق الحوار بعدها من أرضية فاحصة للرواية.

وكانت الرواية قد فازت بجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب. تروى الرواية بصوت زهور الشخصية المحورية في الرواية والصوت السارد.. تستحضر زهور الذكريات عن جدتها، الجدة في الرواية بطلة رئيسة، لكنها تظل على مدار السرد من دون اسم خاص بها هي «بنت عامر» فقط. لا يعرف القارئ اسم الجدة، ولا اسم البلدة التي عاشت فيها، وهذا التغييب يبدو معمارا أساسيا في البناء السردي للرواية. تستمد الرواية عنوانها من الترميز في الربط بين شجرة النارنج التي زرعتها الجدة في الحوش، وانطفاء الشجرة بعد رحيل الجدة. تتبع الرواية حياة البطلة، بنت عامر، منذ أن كانت طفلة ولدت في عمان في أعقاب الحرب العالمية الأولى، مع إحدى موجات الغلاء والجفاف، إلى طردها من البيت مع أخيها من شدة الفقر، والأعمال الشاقة التي قامت بها لسد الرمق، ومن ثم انتقالها إلى بيت أحد أقربائها، بدعوة منه، وحياتها في ذلك البيت التي امتدت لأربعين عاما. تحكي زهور «الحفيدة» عن حياة الجدة: ففي الوقت الذي تغوص قدما «بنت عامر» في تراب البيت لتزرع أشجاره، وتعجن الطحين وتفرك جسد الطفل منصور بالليفة، كانت الثريا الأم الحقيقية لمنصور ترتفع عن الأرض وتغوص في صلواتها وعالمها السماوي. بالتوازي مع حكاية الجدة، هناك قصة زهور وأصدقائها في الغرب. عالم مختلف فيه أشخاص مختلفون: كحل وعمران وسرور، عالم بعيد لكنه مثل أي مكان آخر على وجه الأرض فيه الصراع الطبقي الذي لا يعرف الرحمة. ترتبط زهور بصداقة مع الفتاة الباكستانية سرور وأختها كحل التي تقع في غرام عمران وتتزوجه زواج متعة. تنتمي سرور وكحل إلى طبقة اجتماعية ثرية، فيما عمران الذي تتزوجه كحل فلاح فقير باع والده قطعة أرض كي يكمل ابنه دراسة الطب في لندن. وهكذا، في غربتها في بلاد الثلج تستعيد زهور أحلام جدتها العذراء التي لم تتحقق قط. وهناك يجمعها القدر بسرور وأختها كحل وزوجها عمران الهارب من حقله في باكستان، يشكلون معا مثلثا غامضا تغذيه ذكرى الجدة التي لم تملك حقلها، حائمين حول السؤال الأزلي: هل من علاج للحزن؟

وقدم الدكتور أحمد الحنشي في أمسية المختبر ورقة أكد فيها «اخترت ألا تكون هذه الورقة بحثا أكاديميا علميا وإنّما محاولة لقراءة سريعة تكتفي باقتراح بعض مما تراه مداخل ممكنة لقراءة نص رواية نارنجة، فاقتصرتْ على تحديد محاور عامّة مثّلت في رأيي أبعادا مُهمّة، شكّلت بناء هذا النص و غذّت مادته. فهي باختصار لا تقدم القراءة الوحيدة و النهائية لهذا النص».

وقال الحنشي: «نارنجة رواية واردة في شكل مداخل أو لوحات، بلغ عددها 44. كل لوحة شبه مستقلة وقائمة بذاتها لولا الخيوط التي تَنسُج بينها، وهي خيوط السرد التي يمسك بها وبإتقان صوت الراوية المهيمن، الطالبة التي هاجرت إلى الغرب لغرض الدراسة».

وأضاف في مداخلته: «يمكن القول بأنها رواية، في ظاهرها، تصوير لأحداث مَثّلت عموما سيرة عائلة عمانية، من أعماق عمان، من نهاية الحرب العالمية الأولى إلى أواخر النصف الثاني من القرن الماضي».

وحسب ورقة الباحث فإن: «نارنجة غطّت جغرافيات متنوعة توزَّعت بين قرى ومدن عُمان وشيء من أرجاء باكستان ثم عاصمة من عواصم البلدان الغربية، بجامعاتها ومقاهيها. وقد مثلت هذه الأخيرة المكان المرجع الذي منه تنطلق القصة وإليه تعود، في رحلة تَحكّمت الراوية في رسم منعرجاتها ومنعطفاتها العديدة. فليس هناك إطار واحد لأحداث هذه الرواية كما ليس هناك زمن واحد، خطيّ كرونولوجي يسرد أوّلا بأوّل، وإنّما هناك حركة دؤوبة ومتكررة، بين ذهاب وأوبة عبر الزمان والمكان، لا تعرف أسرارها إلا الراوية التي يتعلق بها الحل والعقد في سير الرواية وأحداثها».

وتحت عنوان «بين سيرة العائلة ومسيرة عمان، مسألة الهوية» استشهد الحنشي بمقولة للكاتب الرحال إمبرتو إيكو: «يتحدث كل كِتاب عن كُتُب أخرى، وتروي كل قصّةٍ قصّةً كانت قد رُويت من قبل. كان هوميروس يعرف ذلك، ويعرفه أيضا أرسطو، وكذلك رابليه وسرفانتيس».. ليقول بعدها إن جوخة الحارثي، الكاتبة، لم تشذّ عن هؤلاء؛ لذا نجد أنّ روايتها «نارنجة»، تروي لنا قصصا عديدة، وتزخر بعوالم مليئةٍ بالأحداث والشخصيات المتلونة. فهي عبارة عن فُسيفساء حُجَيْراتها هي تلك القصص المتدافعة لتصب في القصة الكبرى: قصة أم عامر.

الرواية تعرض ـ بحسب الباحث ـ سيرة عائلة عمانية على مدى جيليْن وزيادة: هي عائلة زهور، الطالبة التي انتقلت إلى الدراسة في الغرب. وقد مثّلت شخصيّة بنت عامر – التي عاشت ثمانين عاما-، الذاكرة التي واكبت مسيرة هذه العائلة؛ إذ عايشت كلا من سليمان، الجد، ومنصور، الأب، والحفيدة أو الأحفاد الذين تربَّوا في ظل رعايتها وصاحبتهم لسنوات طويلة.

نُزّلت هذه السيرة العائلية في إطار أوسع هو المسيرة التاريخية للبلاد العمانية، وقد ورد في نص الرواية العديد من الصفحات التي تُذكّر ببعض الأحداث التي جدّت فسجلتها الذاكرة التاريخية. هذا الذي يسمى في المصطلح النقدي «المرجعية»، والتي يقترن وجودها في النص بقضية المصداقية، أي مصداقية ما يُنزّل في جنس المتخيل مثل الرواية والقصة، وهي آلية تُصوِّر كما لو كان هناك تماه بين تاريخ البلاد وتاريخ هذه العائلة (مثل الترفيع أو التخفيض في مستوى الضرائب على التمور و مدى تأثيره على الحياة اليومية أو في الرضا أو الثورة على الإمامة، ثم تدخّل البريطانيين لاحتواء الموقف، وصولا إلى تلك الفترة التي بدأت تشهد العديد من أجيال العمانيين والعمانيات الذين يُرسلون في بَعَثات للدراسة بالجامعات الغربية). فما مِن شكّ أن هذا الجانب التاريخي يمثل مُكوّنا مهمّا من مكونات «نارنجة»، ويشكّل مدخلا من مداخل قراءتها.

وأضاف الباحث «ونحن، إذا توقّفنا عند السياق العام وتساءلنا عن علاقته بآونة صدور رواية نارنجة، فإنه قد يبدو لنا أنها جاءت لتستجيب، من الزاوية التاريخية، لحاجة هي في المسار التاريخي للمجتمعات والشعوب، تُختَزل في مسألة الوعي بالذات، وما يُوَلِّده ذلك من ضرورة تحديد الإنسان لموقعه في هذا العالم. فهنا الرواية تكتب بجانب المتخَيَل، بعض الصفحات من هذا التاريخ العماني، لا بالتذكير بأحداث أو وقائع مجردة فقط، وإنّما أيضا، من جانب التصوير عن كثب، للفئات والطبقات الاجتماعية، والكشف عن ملامح «أركيولوجية ثقافتها». فإنّ السرد هنا، ينافس – كما يرى البعض-، مصالح الحالة المدنية، و لن نخطئ إذا اعتبرناه اليوم بمثابة ديوان من دواوين العرب، على غرار ما قاله أسلافنا في الشعر ووظيفته عندما كان عِلمَهم الأوّل .

وأضاف: هنا تكمن بعض المفاتيح، على الأقل، لقراءة أولى، ولفهم الاستراتيجية المتّبعة في السرد. لماذا تختار زهور أن تقصّ عن سيرة عائلتها ومسيرة بلدها في اللحظة التي ابتعدت فيها عن أهلها ووطنها؟ (عندما درج آخرون على خلاف ذلك..). فكما يقال «بضدها تتميز الأشياء» ، والآخر أو الغير هو بمنزلة المرآة التي نكتشف فيها ذواتنا، وفي «نارنجة»، هناك مواجهة بين عوالم ليست سوى مرايا عاكسة: فهناك الغرب « بلاد الكفّار»، وهناك بقية العالم الذي يمثله هذا الخليط الكوسموبوليت cosmopolitan من الأجناس والجنسيات التي تلتقي في المركّبات الجامعية الغربية، بسكناتها، بأحيائها و مقاهيها ونواديها التي يلتقي فيها الطلاب والطالبات. كلّ يحكي عن يقينه أو شكوكه، آماله أو خيباته. فمن هذه البلاد البعيدة ستأخذنا الراوية إلى بيت منصور، إلى الحارة، إلى المسفاة إلى الأودية، إلى الحوش وغرفة أم عامر، أو غرفة شيخة صديقة الجدّة (وهي قصة سيعود إليها التحليل بعد قليل)

وحول فكرة الرواية وتقاطعها مع السيرة الذاتية قالت جوخة الحارثي: «السيرة الذاتية والكتابة سؤال متكرر ولا ينفصل الكاتب كثيرا عن ذاته وعن واقعه ولكن كيف يكتب الكاتب البعد المتخيل في الكتابة والبعد الواقعي القريب من الذاتي» مضيفة: أثناء الكتابة هناك لعبة تقع بين البعد الواقعي والبعد الخيالي».

ودار حديث طويل في الجلسة حول العنوان وقال الحارثية إن أكثر ما يتعبها في الكتابة العنوان، مشيرة أنها اختارت العنوان بعد أن التقت بمعلمة لها في المرحلة الإعدادية وكانت تتحدث عن وفاة والدها، وأن بوفاته ماتت شجرة كان قد زرعها في حوش البيت.. تقول جوخة الحارثي هذه القصة أثرت عليّ كثيرا وجعلتني أعود إلى روايتي واختبار «نارنجة» لتكون عنوان الرواية. وفي مداخلة لها حول محفزات الكتابة قالت جوخة الحارثي: كنت أفكر في هذه الرواية منذ فترة وكنت قد كتبت منها بعض المقاطع ولكن كنت في زيارة عمل في دولة شقيقة وكنت أتوقع أن أخرج من مؤتمر لأدخل في آخر ولكن وجدتني محبوسة في غرفتي، محبوسة بالمعنى الحقيقي للكلمة ذلك الحبس دفعني للكتابة وبدأت أكتب ما أصبح فيما بعد «نارنجة».