طوفان لسانك أيها الرحيق

صالح العامري -

1-

في كل جرح لا يندمل من قند صوتك، في كل قُبلةٍ صاعدة في هواء صوتك، في كل إمبراطور لغويّ ساقط من عرش صوتك، في كل درويش يدندن على سلم صوتك، في كل رحلة نازفة من حبر صوتك، في كل منعرج من سهب صوتك، في كل أرنب بريّ يتربى في خمر صوتك، في كل وادٍ سحيق من زمن صوتك، في كل فخ حميم مبارك من صيد صوتك، في كل زنبقة موسوسة في أذن صوتك، في كل ريحانة مجنونة في سر صوتك، في كل وردة منهوبة في قرصان صوتك، في كل عطر يرتعش مذكياً أواره في قلب صوتك، في كل سنبلة قمح من ذهب صوتك، في كل ورقة يافعة من شجرة صوتك، في كل طمأنينة ناعسة على سرير صوتك، في كل ثورة تعبق بالكبرياء من صيف صوتك، في كل رسالة مضمخة بالغنج والدلال من ولع صوتك، في كل عيد مسافر في قارب صوتك، في كل عروس منذورة إلى هيكل صوتك، في كل ليل مشرد في ليل صوتك، في كل نهار منبثق من وجد صوتك، في كل نهر عميق سادر في لوعة صوتك، في كل بحر مثابر على موجة صوتك، في كل سماء ملتاعة في أزرق صوتك، في كل أحمر يتلظى من جمرة صوتك، في كل أخضر منهمر من حديقة صوتك، في كل باب معتكف على ضفة صوتك، في كل نافذة أمينة على وجه صوتك، في كل سفر باذخ في قطار صوتك، في كل سكنى مكنونة في جذر صوتك، في كل حلم مجبول على لثغة صوتك، في كل قمر مولود على نبرة صوتك، في كل دَيْر دائخ في سجدة صوتك، في كل ألق مشحون بشهوة صوتك، في كل قصيدة منهارة في بريد صوتك:

أنا السكران/‏‏‏ المبتهل/‏‏‏ المتعلق بالأستار/‏‏‏ الطائش في الرمز/‏‏‏ العاري في اللوحة والصورة والأسماء/‏‏‏ الجاثم مثل كرسي يصلي في جحيم فردوسه/‏‏‏ الماكث كزرافة تحترق أو ذئبٍ مَـوّار.

2-

صوتُكِ: الأنبل في كل العصور، الأنعم من الحرير، الأفتك في رمي البلاء، الأنجع في درء الأدواء، الأصدق في معانقة الشلال، الألطف في الرقص مع الزهرة، اللحن الودود الذي يحرق المدينة، البرق السعيد الذي يشحن الريف، الوسادة الحانية التي تسرق الرأس، المهد الأول الذي يبتلع الإشارة، الطيف القزحيّ الذي يخطف العيد، الورقة المثخنة بالرقة، الإشارة المحروسة بالأجراس، الجهات المحمولة في كف اللثغة، الألعاب المطمورة في فم الفستقة، الأنفاس المشروحة في جُرح التينة، الزمردات المنسوجة في ولع الرمّانة، الكلمات المعدودات التي تنحت اللغة، الأحرف اليتيمة التي تكتب القيامة.

3-

وماذا تبتغي أيها الصوت حين تحفر الكبد التي تزفر بنجمتك؟ وماذا يمكن أن يصير قاربي المسكين في لجة نبيذك؟ وبأي لوح، أيها العاصف الرشيق، يمكن أن أتعلق حين يداهمني طوفان لسانك؟ وفي أي ناحية، أيها النشيد الخارق، يمكن أن أغرق؟ إن لم يكن في بذرتك الزرقاء وفي سرابك المنفجر في الظهيرة نهراً أو كستناء.

4-

لستَ أبداً أيها الصوتُ خمراً، لا نسيماً عليلاً، لا مهبط طائرات، لا مناطيد. لستَ جسراً للمقتولين من اللذة أو المسحوقين في رذاذ الفجر. لست أزرقَ أو أحمر أو وردياً أو لازوردياً. لستَ عسلاً ولا حليباً ولا جراداً بريا، لستَ كارثة حلوة أو سهبا مكدساً بالمواسم. لستَ أي شيء حلو، مسكر، منتقم، شهي، مرتعش كحيّة جرسية أو قصيدة فطنة.

بل أنتَ أيها الصوت رحم كل الصور، أيها الصوت الخارق الذي تعيد ترميم الخليقة، وتصبّ عسل السفر على جرح اليُتْم.

أنت الأول والآخر، البدء والختام، القُبلة والشفة، الحياة والموت، العذوبة والعذاب، الصبر والسأم، النداء الصارخ والصمت العميق، السماوات العُلى والأراضين المواربة، الفتنة الصقيلة كشظية والسهم الطائر إلى القلب، الصفحة البيضاء والفاكهة الجليلة، الدرس الأول والحقيقة الأخيرة.

5-

أوّاه، كيف يتسنّى لي، أنا المتسمِّر على صليب صوتك، أن أتلذذ وأنفطر في ذات الوقت، أن أنفجر وأولد معا، أن أنجو وأغرق، أن أدخل كمسرح وأخرج كسينما، أن أجيء كعندليب وأرجع كنسر؟ كيف أرحل كبهلول وأمكث كهبنّقة؟ كيف أتعرى كقمر وأتزيّى كألعاب ناريّة؟ كيف أصِلُ تماماً وأبدأ الآن؟ كيف أفرغ كما لو أنني لا شيء وأمتلئ كأنني كل شيء؟، كيف أدور مثل درويش وأصفن مثل تمثال؟ كيف يجنني صوتُكِ فلا أعرف الفرق بين الذروة والهاوية، الطيران والسقوط، الفوق والتحت، الطفل الذي يرسل طائرته الورقية في الأعالي أو الكهل الذي يكنز حكمته في التراب؟

6-

صوتكِ، صوتُكِ، شَرّكِ النبيل، خيركِ المكتنز بالرعب والحليب. صوتُكِ الينبوع الذي أتلقف منه عبوديتي، عبوديتي التي أقع فيها على حريتي. صوتُكِ مرض يشفيني وشفاءٌ يصيبني. صوتُكِ الماكر كثعلب مقدس، صوتُكِ العريق كاللهب، صوتُكِ الطافح كزفرة في المحشر، صوتُكِ المعتّق كنبيذ يتخطفني إلى حافة الأرياف المدهشة، صوتُكِ المحجّل كيمامة ضلت طريقها بعد الطوفان إلى دفتري النهم.