الملف السياسي

بعيدا عن الهستيريا والمبالغة !!

02 يناير 2017
02 يناير 2017

د.عبدالحميد الموافي -

بالرغم من أن الدول العربية بوجه عام، والأشقاء الفلسطينيين بوجه خاص يدركون تماما أن قرارات الأمم المتحدة سواء صدرت عن الجمعية العامة أو عن مجلس الأمن أو عن مجلس حقوق الإنسان أو عن اليونسكو وغيرها من منظمات الأمم المتحدة لا تكتسب أهميتها الكبيرة إلا إذا توفرت لها إمكانية التطبيق العملي بشكل أو بآخر، وهو ما تفتقده كل القرارات الصادرة بالنسبة للقضية الفلسطينية، وآخرها القرار 2334 لمجلس الأمن،

مجلس الأمن الدولي ليس مجلسا نيابيا لدولة نامية، ولا حتى لدولة كبيرة، ولكنه مكون من ممثلي 15 دولة منهم الدول الخمس دائمة العضوية فيه، وعشر دول غير دائمة تمثل مناطق العالم المختلفة، ومن ثم فإنه عندما تجتاحه عاصفة من التصفيق يوم الجمعة الثالث والعشرين من ديسمبر الماضي عند الإعلان عن نتيجة التصويت على مشروع القرار العربي بإدانة المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية والمطالبة بوقف بناء المستوطنات واعتبارها غير قانونية ومعرقلة لحل الدولتين فإن الأمر لابد أن يلفت الانتباه ليس فقط لأن التصفيق هو أمر نادر في مجلس الأمن الدولي، ولكن أيضا لأنه انطوى على دلالة يصعب تجاهلها. وبغض النظر عما إذا كان التصفيق نكاية في إسرائيل من جانب البعض، أو سعادة بامتناع واشنطن عن التصويت على مشروع القرار، خاصة بعد أن تركت «سأمنثا باور» مندوبة أمريكا في الأمم المتحدة الجميع في حالة من عدم اليقين حول موقف بلادها من مشروع القرار، أو فرحا بصدور مثل هذا القرار القوي والواضح في معارضته وتنديده بالمستوطنات الإسرائيلية، وبمثل هذا الإجماع – 14 دولة من 15 دولة عضوا في مجلس الأمن مع امتناع واشنطن عن التصويت – الذي يقر بالحق الفلسطيني، بعد طول انتظار فإن ما يجمع ذلك كله في النهاية هو أن هناك شعورا دوليا واسع النطاق سواء داخل مجلس الأمن وأروقة هيئات الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها، أو على مستوى الضمير والرأي العام الدولي، بأن إسرائيل تتحدى العالم، وأنها لن تفسح الطريق أمام الحل السلمي مع الفلسطينيين، وأنها ماضية نحو ضم الضفة الغربية المحتلة عبر توسيع المستوطنات فيها وإكمال تهويد القدس الشرقية، وإنها بالتالي في حاجة إلى الإفاقة، أو على الأقل إضاءة الضوء الأحمر في وجهها بشكل تراه وتدرك معناه بشكل حقيقي. وكان الموقف الأمريكي بالامتناع عن التصويت على مشروع القرار الذي سبقته تحركات عديدة عربية ودولية شاركت فيها القاهرة بشكل ملموس – بغض النظر عن محاولات إساءة الفهم أو إساءة التفسير – شديد الأهمية، ومتوجا للإجماع الدولي في هذا الشأن لأنه من المعروف قانونا، وضمن آليات عمل مجلس الأمن الدولي أن امتناع أية دولة من الدول دائمة العضوية عن التصويت على أي مشروع قرار يعرض للتصويت لا يعتبر اعتراضا، وبالتالي فإن امتناع واشنطن عن التصويت لم يسمح فقط للقرار بالصدور، ولكنه حمل أيضا معنى واضحا على كل من الجانبين الأمريكي والإسرائيلي، وذلك هو ما يفسر حالة الهستيريا التي امتدت من مندوب إسرائيل في الأمم المتحدة، في تعليقه المليء بالمغالطات على القرار بعد صدوره، ووصولا إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي وعدد من أعضاء حكومته. فلماذا هذه الهستيريا الإسرائيلية التي بلغت حد التجاوز في حق الرئيس الأمريكي باراك أوباما وحق وزير خارجيته جون كيري، وهو ما حاول كيري الرد عليه بشكل شديد الدلالة في حديثه اللاحق حول موقف بلاده من حل الدولتين ومن الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية. على أية حال فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:

*أولا: إنه من المعروف أن إسرائيل «دولة مارقة» أي أنها لا تهتم كثيرا بقرارات الأمم المتحدة، ولا غيرها من المنظمات الإقليمية والدولية، خاصة فيما يتصل بالحقوق الفلسطينية المشروعة، وبحل الدولتين، وهى اعتادت أن تضرب عرض الحائط بقرارات الأمم المتحدة ومنظماتها، وبالطبع قرارات مجلس الأمن. ومن هنا فإن الهستيريا الإسرائيلية ليست بالتأكيد غضبا من صدور القرار 2334 لمجلس الأمن في حد ذاته، ولكن الهستيريا والغضب كانا بسبب الموقف الأمريكي بالامتناع عن التصويت على القرار، وما يشكله ذلك من سابقة لا يمكن أن تنساها إسرائيل من ناحية، ولأن صدور القرار سيكون في الواقع خطوة تسمح للدول الأخرى، ومنها دول غربية بالتعبير الواضح عن معارضتها للمستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، وهو ما كان أكثر صعوبة قبل صدور القرار من ناحية ثانية. ولم تكن مصادفة أن تعبر بريطانيا عن موقفها، حتى وإن كان ذلك قد جاء مغلفا بالتأكيد على الابتعاد عما أشار إليه جون كيري في حديثه عن المستوطنات الإسرائيلية. وبالتالي فان إسرائيل تشعر، وبحق، أن جدار الصد أو الحماية الأمريكية لها في مجلس الأمن قد تهاوى. وهى بالتأكيد لا تريد أن تتقاطر دول العالم في إدانة نشاطها الاستيطاني، ومن هنا أيضا كانت الهستيريا الإسرائيلية في الرد على أوباما وكيري، وفي التعامل مع الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي واتخاذ إجراءات بتقليص البعثات الدبلوماسية الإسرائيلية فيها، أو التعاون الإسرائيلي معها من ناحية، والتفكير في إجراءات ضد الأمم المتحدة ذاتها، وهى كلها إجراءات متخبطة تكشف عن حجم المفاجأة، أو شعور الصفعة التي تلقتها إسرائيل بالقرار 2334.

ومع الوضع في الاعتبار أن الإدارة الأمريكية الجديدة - إدارة الرئيس المنتخب ترامب - ستتولى السلطة يوم العشرين من يناير الجاري، وأن ترامب نفسه انتقد أوباما بسبب القرار، وأنه حاول مواساة إسرائيل ورفض ما أسماه «معاملتها بازدراء» إلا أن ما حدث قد حدث، وأصبح الموقف الأمريكي في مجلس الأمن الدولي ضمن مكونات الموقف الأمريكي العام حيال عمليات الاستيطان الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، وأنه يمكن الرجوع إليه، والبناء عليه أيضا من جانب أي مسؤول أمريكي يرى في ذلك مصلحة لبلاده، أو حتى لإسرائيل من وجهة نظره، صحيح أن إدارة ترامب لن تفعل ذلك، ولكن الصحيح أنها لا تستطيع العودة عن ما تم، وإن كانت تستطيع مجاراة إسرائيل أو مجاملتها أو غض النظر عن سياساتها الاستيطانية. ولكن العالم والدول الأخرى ترى ما حدث في مجلس الأمن الدولي وستقف عنده طويلا خلال الفترة القادمة.

*ثانيا: إنه بالرغم من أن الدول العربية بوجه عام، والأشقاء الفلسطينيين بوجه خاص يدركون تماما أن قرارات الأمم المتحدة سواء صدرت عن الجمعية العامة أو عن مجلس الأمن أو عن مجلس حقوق الإنسان أو عن اليونسكو وغيرها من منظمات الأمم المتحدة لا تكتسب أهميتها الكبيرة إلا إذا توفرت لها إمكانية التطبيق العملي، بشكل أو بآخر، وهو ما تفتقد إليه كل القرارات الصادرة بالنسبة للقضية الفلسطينية، وآخرها القرار 2334 لمجلس الأمن، إلا أن الأيام الماضية شهدت ما يمكن تسميته بمبالغة عربية كبيرة في الترحيب بالقرار، بل والحديث أحيانا عن «مرحلة جديدة»، والتبشير وكأن القضية ستحل غدا، بل وبالغ البعض على نحو اقترب كثيرا من الهستيريا الإسرائيلية، عندما تصور أن القرار يمكن أن يفتح المجال أمام سوق إسرائيل مكبلة وإلقائها في فناء محكمة الجنايات الدولية !! وهو أمر غير صحيح وغير ممكن، على الأقل في هذه المرحلة ولاعتبارات كثيرة ولظروف عربية وإقليمية وأمريكية ودولية كثيرة وواضحة. ولذا فإنه من المهم التعامل بوعي وهدوء مع هذا القرار، واستثماره قدر الإمكان لممارسة المزيد من الضغط على إسرائيل ودفعها إلى وقف النشاط الاستيطاني، والدخول في مفاوضات مع الجانب الفلسطيني. وبعيدا عن الشعارات الرنانة فإن الرئيس أبو مازن كان واعيا ومسؤولا ومدركا بحق لكل الأبعاد عندما أكد على استعداده للدخول في مفاوضات مع إسرائيل، إذا أوقفت النشاط الاستيطاني، وأن صدور القرار أمر طيب ولكن تنفيذه قضية أخرى، وكان نتانياهو قد شن – ولا يزال يشن – حملة شرسة ضد أبو مازن متهما إياه بأنه لا يريد المفاوضات، برغم أن نتانياهو نفسه هو من أفشل المفاوضات ورفض وقف الاستيطان، بل واستمر فيه بنشاط خاصة منذ عام 2014م بعد فشل جهود كيري المكوكية لإحياء المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية. وعلى ذلك فإن القرار الصادر عن مجلس الأمن هو خطوة طيبة، إذا تم استثمارها جيدا عربيا وفلسطينيا، خاصة خلال مؤتمر باريس للسلام خلال الأيام القادمة، مع العمل على تجنب المبالغة التي لا طائل منها، ولا حاجة لها، خاصة في ظل ظروفنا العربية الراهنة.

* ثالثا: إنه بالرغم من رواج عملية الربط بين صدور القرار 2334 لمجلس الأمن، وبين حالة عدم الانسجام بين نتانياهو وأوباما التي وصلت إلى حد تجرؤ نتانياهو على تحدي أوباما مباشرة، بقبول إلقاء خطاب أمام الكونجرس، وقيامه بذلك دون تنسيق أو استئذان أوباما كرئيس للدولة الأمريكية وفق أبسط القواعد البروتوكولية، بل واتهام نتانياهو لأوباما وإدارته بمعاداة إسرائيل، واتهامه كيري بأنه «مهووس» بالمستوطنات، إلا أن الأمر لا يمكن تبسيطه إلى حد وضعه في خانة الانتقام من جانب أوباما ومعاقبته لنتانياهو ولإسرائيل مثلا، فالسياسات على مستوى العلاقة الأمريكية الإسرائيلية لا تنحدر إلى هذا المستوى، بغض النظر عن هستيريا نتانياهو وعدد من وزراء حكومته اليمينية. ولعل ما يعزز هذه الفرضية أن اوباما هو أكثر رؤساء أمريكا دعما لأمن إسرائيل، وأنه أبرم معها قبل أشهر صفقة المساعدات العسكرية بقيمة 38 مليار دولار على مدى عشر سنوات وهى الأولى من نوعها في تاريخ المساعدات الأمريكية، وبشهادة توماس فريدمان الكاتب الأمريكي الشهير فإنه أكد أنه لم يعرف مسؤولين أمريكيين أشد حرصا على أمن إسرائيل وتقويتها عسكريا من اوباما وكيري، ومن هذه النقطة تحديدا فإنه يصعب افتراض أن هناك عداء أو تصفية حساب بين اوباما وكيري وبين نتانياهو، ولكن الأرجح هو أن اوباما أراد أن يضع الحقيقة أمام نتانياهو في المقام الأول، وأمام الإسرائيليين والعالم كله أيضا، وهى أن الاستمرار في عملية الاستيطان سيقود إلى أن تتحول إسرائيل إلى دولة واحدة تشمل اليهود والفلسطينيين، أو أن تتحول إلى دولة عنصرية، وهو ما سيترتب عليه تبعات كثيرة لها ومخاطر جمة بالنسبة للشرق الأوسط، كما أن انتهاء فرصة حل الدولتين ليس في صالح إسرائيل. و بالتالي فإن رفض الاستيطان وإدانة استمراره، قد ترافق مع التأكيد الأمريكي على حل الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من يونيو عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، مع تبادل متفق عليه للأراضي بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. لقد صب الإسرائيليون جام غضبهم على اوباما وكيري، ولكن لا يمكن إغفال أن اوباما وكيري تعمدا دق أجراس الخطر بقوة أمام نتانياهو والحكومة اليمينية في إسرائيل، انطلاقا من حرص على إسرائيل وأمنها، وليس من عداء حيالها.

أما ترامب فإنه من غير المستبعد أن يقوم بما أعلنه خلال حملته الانتخابية من اعتراف بيهودية إسرائيل ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس إذا وافقت إسرائيل على إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، في إطار حل الدولتين وإذا تم ذلك بشكل واقعي أو البدء في تطبيقه على الأقل.

وبغض النظر عن أية ردود فعل عربية أو غيرها فإن العرب قد يجدون أنفسهم أمام هذا الاحتمال، ربما في نهاية فترة رئاسة ترامب. فالكل يسعى لخدمة إسرائيل !!.