أفكار وآراء

الاغتيال السياسي.. إنذار باندلاع الحروب العالمية

01 يناير 2017
01 يناير 2017

د. عبدالعاطي محمد -

في أول رد فعل وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حادث الاغتيال بأنه «استفزازي». والكلمة في حد ذاتها تعني أن الرئيس الروسي يؤمن بأن هناك طرفا أو أطرافا تتحدى بلاده وتريد أن تجرها إلى أن تنخرط في معركة أو حرب كرد فعل متوقع أو منتظر منها، كما تعني أنه من الطبيعي أن ترد روسيا بموقف كهذا، حيث ليس من المتصور أن الرد على الاستفزاز هو الصمت أو الخنوع. من تجارب التاريخ البعيد والقريب، ارتبط اندلاع الحروب العالمية أو التهديد باشتعالها بأحداث الاغتيالات السياسية، وذلك لما تمثله هذه الأحداث من مساس صريح لا يمكن التهاون معه بالسيادة والكرامة الوطنية والأمن القومي للطرف أو الأطراف المنخرطة في صراع يتصف بالشمول من حيث تنوع مصادره وتعدد أطرافه وقابل للانفجار إلى حد الحرب العالمية.

في 28 يونيو 1914 قام طالب صربي يدعى خافيرلو برينسيب باغتيال ولي عهد النمسا فرانز فردينا وزوجته خلال زيارتهما لسراييفو مما جعل النمسا تعلن الحرب على صربيا ثم أعلنت روسيا القيصرية مناصرتها لصربيا ضد النمسا، بينما قامت ألمانيا بإعلان الحرب على روسيا، وهكذا اندلعت الحرب العالمية الأولى التي اتسعت دائرتها لتشمل المجر وبريطانيا وفرنسا واستمرت 4 سنوات. وقد كانت لهذه الحرب أسبابها غير المباشرة بالطبع تتعلق معظمها بقلق الدول الأوروبية الكبرى آنذاك وروسيا من صعود ألمانيا الموحدة عقب انتصارات بسمارك في الحرب البروسية الفرنسية (1870-1871) وتشكيل ألمانيا قوة بحرية ضخمة هددت تلك الدول .

والقصد أن اندلاع الحروب العالمية له بالتأكيد أسبابه غير المباشرة تؤشر كلها بأن الظروف مهيأة لقيامها، ولكن من الممكن أن يكون هناك سبب مباشر لإشعال فتيل الحرب في أي وقت وغالبا ما يكون حدثا يتعلق بسيادة وكرامة الدول وأنظمتها الحاكمة أو أمنها القومي. وهكذا مثلا وقف العالم على رأسه عندما وقعت أزمة الصواريخ الكوبية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق عام 1962 عقب عدة محاولات فاشلة من جانب الولايات المتحدة لإسقاط النظام الكوبي واغتيال كاسترو. وعندما وصلت أزمة البرنامج النووي بين إيران والولايات المتحدة (ومعها الدول الأوروبية) إلى طريق مسدود قبل بضعة سنوات من توقيع الاتفاق النووي 2015. وكذلك عندما وقعت الأزمة الداخلية في أوكرانيا عام 2014 (تغيير النظام الحاكم ورئيسه الموالي لروسيا وهروب الأخير خوفا من الاغتيال) والتي على إثرها تدخلت روسيا عسكريا وأعادت شبه جزيرة القرم إلى أراضيها بالقوة.

ارتباطا بما سبق وكنموذج للمقارنة والتحليل للعلاقة بين الاغتيال السياسي وقيام الحروب العالمية، فإنه لو قسنا حادث اغتيال السفير الروسي مؤخرا في تركيا ،على حادث اغتيال ولي عهد النمسا مثلا لوجدنا الظرف متشابها إلى حد يكفي بتوقع اندلاع حرب عالمية بسببه. ولكن عالم اليوم مختلف إلى حد النقيض تماما لما كان عليه العالم في بدايات القرن العشرين، حيث لم تعد فكرة كهذه بالأمر الهين عند صانع ومتخذ القرار في أية دولة من الدول، وذلك لأنه لم يعد هناك صراع على أرض المعمورة اليوم له بعد واحد وإنما متعدد الأبعاد ما بين الديني والعرقي والقومي (الوطني) والاقتصادي والسياسي بل والثقافي أيضا، ولم يعد محصورا بين طرفيه أو أطرافه المباشرة فحسب، وإنما دائرته أوسع بكثير، وهو ما يجعل الأطراف المتصارعة تخوض الصراع لتحقيق بعض المكاسب لا كلها من ناحية، وتتحلى بالحذر الشديد في مواقفها وردود أفعالها أو تحركاتها من ناحية أخرى، لا أن تصل بالأمور إلى حد اندلاع حرب عالمية والانخراط في تداعياتها مهما توافرت لديها عوامل القدرة على خوض مثل هذا النوع من الحروب.

في واقعة اندلاع الحرب العالمية الأولى اعتبرت النمسا اغتيال ولي عهدها حادثا مهينا لكرامتها الوطنية التي تعد الوجه الآخر لسيادتها خصوصا أنها كانت من أقوى دول أوروبا في ذلك الوقت، ووجدت الواقعة مبررا لها للتصرف المنفرد بخوض الحرب ضد صربيا. كانت النزعة القومية عالية جدا في دول أوروبا مع نشأة «الدولة القومية», ولم تكن عصبة الأمم قد قامت بعد (تشكلت بعد نهاية تلك الحرب) لكي تضع عليها قيودا تمنعها من شن الحرب لسبب كهذا، وكانت الإمبراطوريات العالمية تتشكل كل منها يريد التوسع والسيطرة على العالم منشيا بما لديه من قوة.

والأمر ليس بعيدا في حالة السفير الروسي فيما يتعلق بالمساس بالكرامة والسيادة الوطنية ومن الطبيعي أن يصدم مشاعر الروس ويفجر لديهم براكين الغضب والرغبة في الثأر إلى حد القبول بالانخراط في حرب عالمية، مثلما حدث في واقعة اغتيال ولي عهد النمسا قديما. فالسفير الروسي أندريه كارلوف كان يمثل روسيا الدولة الكبيرة العائدة بقوة لمكانتها العالمية، وتم اغتياله على الهواء مباشرة وسط مسمع ونظر العالم كله بينما كان يتحدث من على منصة افتتاح معرض فني للصور في قلب العاصمة التركية، وقبل كل شيء هو دبلوماسي رفيع لا يتعين مطلقا المساس بحياته تقديرا لطبيعة وظيفته مثل كل الدبلوماسيين في العالم، وهي توفير كل فرص السلام ليس فقط لدولته وشعبه وإنما لكل الدول والشعوب. كلها عوامل كان يمكن، بالحسابات القديمة في إدارة الصراعات أو الأزمات، أن تدفع صانع ومتخذ القرار الروسي للرد بإشعال حرب عالمية مهما تكن النتائج، مثلما حدث في واقعة ولي عهد النمسا قديما. وبالحسابات الحديثة أي المتعلقة بالظروف الراهنة كان من الممكن أن تجد فيها روسيا ما يعطيها المبرر للرد بهذه الطريقة.

في أول رد فعل وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حادث الاغتيال بأنه «استفزازي». والكلمة في حد ذاتها تعني أن الرئيس الروسي يؤمن بأن هناك طرفا أو أطرافا تتحدى بلاده وتريد أن تجرها إلى أن تنخرط في معركة أو حرب كرد فعل متوقع أو منتظر منها، كما تعني أنه من الطبيعي أن ترد روسيا بموقف كهذا، حيث ليس من المتصور أن الرد على الاستفزاز هو الصمت أو الخنوع.

ومن جهة أخرى فإن مشهد الاغتيال كان بالغ الدلالة في إيقاع المهانة بالصورة العامة عن روسيا كقوة عظمى أو كبرى. وفي ظل ما أتاحته وسائل التواصل من مساحات واسعة لانتشار الأحداث والتعليق عليها، تهيأ مناخ من الشماتة في الدب الروسي كان كافيا في حد ذاته لدفع متخذ القرار في موسكو للوصول بتداعيات الحادث لأقصى مدى من الانتقام. ومن جهة ثالثة فإن علاقات روسيا بكل من الولايات المتحدة وأوروبا في أسوأ حالاتها، فضلا عن انغماس موسكو الشديد في أوضاع الشرق الأوسط الملتهبة لدرجة أن الشاب التركي «مولود مرت ألطن طاشا » الذي نفذ الاغتيال قال إنه فعل ذلك انتقاما لحلب المدينة السورية التي دمرتها الطائرات الروسية في الحرب الدائرة هناك. كلها عوامل غير مباشرة كانت كفيلة بتكرار مشهد الحرب العالمية الأولى من جانب روسيا هذه المرة.

إلا أن المشهد لم يتكرر برغم وجود قدر من التشابه بين حالة ولي عهد النمسا وحالة السفير الروسي سواء فيما يتعلق بالسبب المباشر (اغتيال شخصية رفيعة) أو فيما يتعلق بالأسباب غير المباشرة (الظروف المهيأة للحرب) مع الأخذ في الاعتبار تغير الزمان والمكان. فمنذ اللحظة الأولى لاغتيال السفير الروسي حرصت كل من موسكو وأنقرة على أن لا يؤثر الحادث برغم أهميته وخطورته على العلاقات الثنائية بينهما، حرصا منهما على المصالح التي تحققت بينهما في الملف السوري بكل أبعاده الإقليمية والدولية. فمع أن الحادث وقع على أراضيها وضمن مسؤولياتها الأمنية، إلا أنها، أي أنقرة، شددت على أنه حادث مدبر من قوى في الخارج ولا يشكل تورطا رسميا من جانبها بغض النظر عن التقصير الأمني، وبذلك نزعت مبكرا أي مبرر يدعو روسيا للانتقام منها كما حدث من جانب النمسا قديما ضد صربيا، وعليه انتفى السبب المباشر الذي كان يمكن أن يجر العالم إلى حرب عالمية مثلما حدث في الحرب العالمية الأولى.

ولكن الأسباب غير المباشرة ألقت بظلالها وجعلت الباب مفتوحا أمام روسيا للرد، ليس على طريقة شن الحرب العالمية الثالثة للأسباب التي سبق ذكرها، وإنما على طريقة حروب الإنهاك والإضعاف للخصوم، وهي حروب مفتوحة وممتدة زمنيا. فمن الواضح أن كلا الطرفين المباشرين في واقعة السفير الروسي متفقان على أن هناك أطرافا خارجية دبرت الواقعة أو مستفيدة منها على الأقل وعليها أن تتوقع تعرضها لمثل هذا النوع من الحروب إلى أن تقتنع روسيا بإغلاق ملف اغتيال السفير. كلاهما لخص الأمر على أنه جزء لا يتجزأ من الحرب على الإرهاب، وهذا صحيح في جانب كبير منه ولا يشكل جديدا، وكلاهما يتعاون فيه مع الآخر. ولكن المسكوت عنه وتحديدا من الجانب الروسي هو ما يندرج تحت عبارة القوى التي تقف خلف عملية الاغتيال. هذا الجانب لم يتعجل في توجيه الاتهامات ولم يسارع بتقبل الرواية التركية التي ركزت على ضلوع جماعة جولن في الحادث، ولكنه أيقن أن نفوذه في الشرق الأوسط ليس آمنا، وأن مراكز صداقاته الجديدة لم تعد أمنة أيضا، والمعنى أنه يعيش أجواء الانخراط في حرب عالمية ولكن بآليات وأشكال مختلفة عما فعلته النمسا في الحرب العالمية الأولى.