أفكار وآراء

الترهل الإداري في القطاع الحكومي

31 ديسمبر 2016
31 ديسمبر 2016

د. محمد رياض حمزة -

يندر أن نجــد دولة تخلو مؤسساتها الحكومية مـــن الترهـــل الإداري أو البطـــالة المقـنـعـة (Hidden Unemployment) وتعريفها «وجود أعداد من القوى العاملة في الأجهزة الحكومية تفوق الحاجة الفعلية للعمل». ولعل ظاهرة الترهل الإداري في الدول العربية من بين أكثر التحديات التي تثقل كاهل اقتصاداتها. كما أن الدول الخليجية، على قلة سكانها ، تعاني اقتصاداتها من هذه الظاهرة.

دراسات أكاديمية ومقالات كثيرة تناولت تحدي وجود أعداد متزايدة من الباحثين عن عمل لاقتصادات الدول العربية . غير أن خطر الترهل الإداري في المؤسسات الحكومية على كفاءة أدائها لم ينل الكثير من الدراسة والتحليل . ولا يقتصر خطر الترهل الإداري على أداء المؤسسات الحكومية بل خطر هذه الظاهرة على الاقتصادات الكلية الوطنية أكثر . يمكن توضيح تضخم الهيكلية الإدارية للمؤسسات الحكومية في الدول النامية عموما وفي الدول العربية والخليجية على وجه التحديد بأن الحكومات تلجأ لتشغيل أكبر عدد ممكن من مواطنيها الباحثين عن عمل التي تتزايد أعدادهم سنة بعد أخرى في مؤسساتها للحد من تبعات وجود أعداد كبيرة من مواطنيها في سن العمل لا تتوفر لهم فرص عمل.. كما أن شيوع ظاهرة الترهل الإداري في الأجهزة الحكومية الخليجية جاء نتيجة لواقع اقتصادي و اجتماعي ولعدد من المسببات منها:

ـــ عدم تَوَفر فرص عمل بالتوازي مع نمو أعداد القوى العاملة الوطنية القادمين الجدد إلى سوق العمل الخاص بالقطاع الخاص.

ـــ تفضيل القطاع الخاص تشغيل القوى العاملة الوافدة على تشغيل القوى العاملة الوطنية في منشآته وشركاته لأسباب الإنتاجية والربح.

ـــ وللسببين المتقدمين فإن وجود أعداد متزايدة من الباحثين عن عمل يشكل ضغوطا دائمة على الحكومات لتتجه إلى تشغيل أكبر عدد ممكن في مؤسساتها.

ــ وجود مزايا عمل مشجعة في القطاع الحكومي وعدم توفرها في القطاع الخاص كالراتب وسهولة وطبيعة العمل واستقراره وضمان نهاية الخدمة والحوافز.. وغيرها، الأمر الذي يؤدي إلى تطلُّع القوى العاملة الدائم للتعيين في القطاع الحكومي مهما طال انتظارهم.

تجدر الإشارة إلى أن المؤسسات الحكومية في معظم دول العالم المتقدمة الصناعية لا تعاني من (البطالة المقنعة) لأن المديرين التنفيذيين في المؤسسات الحكومية يعملون بمعيار الأجر مقابل الإنتاجية والعائد كما هو الحال في القطاع الخاص. أما في الدول النامية فإن لظاهرة (البطالة المقنعة) ضرورات اقتصادية واجتماعية وبعلم الحكومات، كما أنها مسوغة أخلاقيا، إذ أن من واجب الحكومات رعاية مواطنيها أنْ تكفل لهم حق العمل والعيش الكريم من خلال توظيفهم في مؤسساتها كجزء من الواجب الحكومي بتحفيز سوق العمل توفير فرص العمل بالتناسب مع تزايد أعداد الباحثين عن عمل. وإنْ كان ذلك يشكل إنفاقا ماليا غير منتج من خزينة الدولة. ونتيجة لذلك فإن أعدادا جديدة من الموظفين سيضافون الى سابقيهم من المحسوبين على«البطالة المقنعة»: فتتفاقم مشكلة الترهل الإداري.

ويختلف حجم الترهل الإداري في المؤسسات الحكومية من دولة لأخرى، فالدول النامية ذات الكثافة السكانية العالية أكثر معاناة من غيرها من الدول الأقل سكانا. بل أن الترهل الإداري تحول إلى واقع يصعب تغييره كما في مصر والهند والصين وإندونيسيا وغيرها من الدول ذات الكثافة السكانية العالية فإن الترهل الإداري فيها واقع لا يكمن تغييره حفظا للأمن الاجتماعي.

يُجمع المتخصصون في تخطيط القوى العاملة على أن تطبيق برامج لإعادة هيكلة وتوزيع القوى العاملة حسب الحاجة الفعلية للعمل في القطاع العام ليس بالأمر اليسير، إذ لا يمكن الاستغناء عن الموظفين في المؤسسات الحكومية بقرارات فورية قد تتسبب بتوترات اجتماعية، مثال: بسبب الأزمة المالية التي عصفت باليونان من أكثر من عامين قررت الحكومة اليونانية إغلاق مؤسسة إعلامية حكومية وتسريح موظفيها بهدف تقليص الإنفاق الحكومي، فقامت الدنيا ولم تقعد بمظاهرات واحتجاجات وأعمال عنف حتى تراجعت الحكومة اليونانية عن قرارها. ونادرا ما تستغني الحكومات في دول العالم الصناعية المتقدمة عن موظفيها، رغم أن نظم الضمان الاجتماعي فيها تكفل للموظفين المُسْتَغنى عنهم إعانات مجزية حتى يجدوا عملا.

عند تحليل ظاهرة الترهل الإداري يمكن أن نتبين أن تفشيها في المؤسسات الحكومية وحتى في بعض شركات القطاع الخاص في الدول النامية يعود إلى عدم تطبيق معادلة الإنفاق مقابل العائد وتقييم الأداء بمعيار الإنتاجية، فإن أي زيادة في أعداد الموظفين وتضخم المديرية أو الدائرة لا تعني المسؤول التنفيذي ما دام لا يدفع رواتب الموظفين من ماله الخاص. وبما أن النظم المالية والإدارية في المؤسسات الحكومية تضمن دفع رواتب الموظفين في أي موقع إداري ، عملوا أو لم يعملوا ، فإن تقييم الأداء بعيار الإنتاجية مغيب فإنتاجية العمل تنحدر لأقل نسبها.

أما الأثر السلبي لظاهرة الترهل الإداري على الاقتصادات الوطنية فإن الإنفاق الجاري في الموازنات السنوية لمعظم الدول النامية والخليجية حيث تقتطع رواتب موظفي المؤسسات الحكومية أكثر من نصف مالية الموازنة. ويمكن خفض هذا الإنفاق بالقدر الذي يقلل من أعداد الموظفين الفائضين عن حاجة العمل.

نظم العمل في المؤسسات الحكومية في الدول الخليجية لا يُستغنى فيها عن الموظفين إلا في حالات ليس من بينها «عدم الحاجة» أو «تدني الإنتاجية» ونادرا ما يصار إلى إعادة النظر في الهيكلة الإدارية . وإن الحد من ظاهرة الترهل الإداري في المؤسسات الحكومية ليس بالمهمة اليسيرة. الحد من تحدي الترهل الإداري في الدول الخليجية يتطلب برنامج عمل استراتيجي يُنَفّذُ مرحليا بالتنسيق بين القطاعين العام والخاص وكما يلي :

• تأسيس آلية مستدامة لتوفير فرص العمل في منشآت وشركات القطاع الخاص سواء بالتنفيذ الفعلي لبرامج تشغيل وإحلال القوى العاملة الوطنية بالمهن والوظائف التي تشغلها قوى عاملة وافدة . وإعطاء الأولوية في تشغيل القوى العاملة الوطنية بالمهن والوظائف بفرص العمل الجديدة التي توفرها المشروعات القائمة وتوسيعها في القطاع الخاص.

•تماثل مزايا العمل سواء أكانت وظائف مكتبية أو مهنية في المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص من حيث الأجور وضمان نهاية الخدمة ومعايير تقييم الأداء.

•تفعيل وإسناد عمل الهيئات العامة لتنمية المؤسسات المتوسطة والصغيرة في توجهها نحو موظفي القطاع الحكومي وتفرغهم لإقامة مشاريعهم الخاصة بما في ذلك ما يتعلق بتشجيع «ريادة الأعمال»،

•تشريع قانون يتيح للموظفين الحكوميين التقاعد المبكر وتنفيذ برامج لتدريب موظفي القطاع الحكومي الذين يعتزمون تأسيس مشاريعهم الخاصة سواء ممن هم في الخدمة أو من الذين تقاعدوا . فإن هذا المسعى سيكون أقرب إلى النجاح. لاسيما وأن هناك عددا غير قليل منهم من يعمل في الأسواق ويمارس نشاطا تجاريا إلى جانب وظائفهم . فهو/‏‏‏ هي الأكثر تقبلا للتفرغ لتأسيس المشروعات المتوسطة والصغيرة.

•ولابد من تطبيق معايير القطاع الخاص في التشغيل والفصل . أي عدم تشغيل أي موظف إلاّ للحاجة الفعلية للعمل . ولا ضمان للموظف غير الملتزم وغير المنتج بالاحتفاظ بعمله.

إن تضخم الجهاز الإداري الحكومي وتفاقم ظاهرة الترهل الإداري «البطالة المقنعة» سيبقى عاملا مؤثرا يستنزف مالية الدولة ويحد من استدامة تنمية الاقتصاد الوطني للدول الخليجية . ويمكن أن تكون شركات القطاع الخاص المبادر في الحد من هذه الظاهرة إن تحولت إلى أن تكون هي المشغل الأساسي للقوى العاملة الوطنية.