882558
882558
إشراقات

الخليلي: «ورود النار» للكافرين الجاحدين .. والمؤمنون مبعدون عنها بعدا سحيقا

29 ديسمبر 2016
29 ديسمبر 2016

بدلالة آيات القرآن الكريم مجتمعة -

تفسير كتاب الله تعالى يتوقف على النظر في سياق الآيات والمقارنة بينها.. حتى تكون وحدة متكاملة -

أوضح سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام للسلطنة أن الخطاب الوارد في قول الله سبحانه وتعالى «وإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا» هو لمنكري البعث والمعاد يوم القيامة، وأكد أن هذا المعنى تدل عليه جملة من الآيات الكريمة، والاستدلالات السياقية واللغوية.

وأكد سماحته أن تفسير كتاب الله تعالى يتوقف على النظر في سياق الآيات بالنظر إلى ما سبقها وما لحقها؛ إذ إن معاني القرآن إنما تستلهم من السياق، وبالنظر في الآيات، حتى تربط هذه الآيات بعضها ببعض، لتكون وحدة متكاملة .. جاء ذلك في برنامج سؤال أهل الذكر بتلفزيون سلطنة عُمان، فإلى ما جاء في اللقاء.

وضح سماحته مسار الاستدلال في قول الله تعالى: «وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا » فقال: إنما هذه الآية الكريمة مسبوقة بقول الله تعالى: «وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا، أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا، فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا، ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا، ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا ، وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا» وهنا يتبين أن سبق الكلام يتعلق بإنكار المعاد، ومجادلة الذين يجادلون في هذا الأمر، ويستبعدون أن تكون قدرة الله سبحانه وتعالى شاملة لرد الإنسان بعد موته إلى الحياة مرة أخرى؛ سبقُ هذا يدلنا على المخاطب بقوله: « وإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا»، ذلك أن الخطاب ها هنا إنما هو لمنكر المعاد والبعث.

أسلوب الالتفات.. ودلالاته

وأضاف سماحة الشيخ المفتي: إن سياق الآية الكريمة يقتضي أن يقول سبحانه وتعالى: وإن منهم إلا واردها، ولكن بدلا من أن يكون الضمير ضمير غيبة، كان الضمير ضمير خطاب؛ لأن هؤلاء بعد ما حكي عنهم من عنادهم وكفرهم، وإصرارهم على ما هم عليه، بعد هذا كله؛ وجه الله سبحانه وتعالى إليهم هذا الخطاب، الذي فيه هذا الوعيد الشديد، وهذا أسلوب معروف عند العرب، يسمى بالالتفات، وهو كثيرا ما يتكرر في القرآن الكريم، ففي سورة الفاتحة نفسها أسلوب التفات، حيث قال الله سبحانه وتعالى في بدايتها: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» وقد كان السياق يقتضي أن يقول : «إياه نعبد» لأن الوصف للمعبود الخالق سبحانه؛ فقد كان الوصف يقتضي أن يأتي الضمير بأسلوب الغيبة، ولكن بدلا من ضمير الغيبة جاء ضمير الخطاب، لأن الإنسان بعد أن يستحضر هذه الصفات العظيمة من صفات الله سبحانه وتعالى، وآخر هذه الصفات أنه « مالك يوم الدين» ؛ لا ريب أنه يشعر بهيبة ذي الجلال؛ فيجد نفسه منساقا إلى خطابه سبحانه وتعالى خطاب الخضوع والانقياد له، وهو خطاب العبادة، والاستعانة: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ».

وكذلك قول الله سبحانه وتعالى: «وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا ، أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا» حجة على الإنسان المجادل في هذا الأمر، وإقامة البينة عليه من خلقه بنفسه، كما في قول الله تعالى: «أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ، وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ، أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» وقوله «أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا» هذا الإنسان الذي خلق ولم يكن شيئا من قبل ؛ كان عدما ، وأخرج من العدم إلى الوجود، كيف يجادل في هذا الأمر، وهو الذي أخرج من لا شيء، فكيف يستحيل أن يعاد مرة أخرى بعدما وجد من عدم مرة أخرى، هكذا يقيم الله تعالى على الإنسان الحجة: «أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا، فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ، ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا ، ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا ، وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا» إن أي أحد من هؤلاء إلا هو وارد النار والعياذ بالله، وتدل على هذا أمور منها أن الورود في النار، لا يذكر إلا للكفرة والعياذ بالله تعالى، فالله تعالى يقول في فرعون: «فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ» وكذلك بقية الآيات التي تتحدث عن ورود النار، إنما هي وعيد للكفرة والعياذ بالله، «يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا، وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا» المجرمون هم الذين يردون النار، فلا يرده المؤمنون، هذا من جملة الأدلة التي تدل على هذا التفسير.

الإحضار

وقال الشيخ أحمد الخليلي: إن لفظة «الإحضار» لا تذكر في القرآن الكريم إلا في حق أعداء الله سبحانه وتعالى المستحقين لعقابه، فإن الله سبحانه وتعالى ذكر: « ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ» أي المحضرين للعذاب، والعياذ بالله، وكذلك قول الله سبحانه وتعالى: «وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ»، فالآيات الدالة على هذا آيات كثيرة تدل على أن الإحضار إنما هو في العذاب، هذا كله مما يدل على أن هذا الخطاب لا يشمل المؤمنين المتقين، ولا يشمل البررة.

وأضاف سماحته: إن مما يؤكد هذا المعنى ما وصف الله سبحانه عباده الأبرار يوم القيامة، فالله سبحانه وتعالى يقول: «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ، لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ ، لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» هم لا يسمعون حسيسها فكيف يدخلونها، هذه كناية عن بعدهم عنها، فقد أبعدوا عنها بعدا سحيقا، بحيث لم يعودوا يسمعون لهذه النار حسيسا قط . وكذلك قول الله سبحانه وتعالى: «إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ، نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ» هؤلاء تتنزل عليهم الملائكة بالبشرى عندما يحين حينهم، وحينما تحضرهم الوفاة، وكذلك عندما يبعثون، فتتلقاهم الملائكة «أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ».

يأتون آمنين يوم القيامة

وقال سماحته: نحن نرى في كتاب الله تعالى ما يدل على أن الله سبحانه وتعالى يقي عذابه المؤمنين يوم القيامة حتى الخوف، هذا ما يدل عليه القرآن الكريم.

وقال: إن رواية عبدالله بن بأباء التي جاء فيها أنه حتى الأنبياء قال: يجثون على ركبهم، حتى إنهم عزوا إلى المسيح عليه السلام، أنه قال: « رب لا أسألك اليوم إلا نفسي، لا أسألك مريم التي ولدتني» هذا كلام لا يتفق مع دلالة القرآن الكريم.

وأضاف: إن الله سبحانه وتعالى قال: «الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ» فالخلة بين المتقين باقية، فكيف عيسى بن مريم لا يسأل حتى عن مريم عليها السلام، فهذا كلام بعيد، والله سبحانه وتعالى بيّن كيف يكون الأمن، «وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ، وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ، مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ» هؤلاء الذين جاؤوا بالحسنة هم الذين يأمنون في ذلك اليوم، من جاؤوا بالحسنات، وكانوا تائبين من السيئات، لم يأتوا بأوزار من السيئات، هؤلاء الذين يأتون آمنين في ذلك اليوم، هم الذين استثناهم الله سبحانه وتعالى: «فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّه» هؤلاء هم من شاء الله، فالسياق نفسه يدل على ذلك، كذلك يقول الله تعالى: «أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آَمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ومعنى ذلك ؛ أن من لا يلقى في النار، فإنه يأتي آمنا يوم القيامة. إذ إن كل من ألقي في النار هو غير آمن، وكل من وقي شر النار – والعياذ بالله – فهو آمن يوم القيامة، والآيات التي نصت على أن هؤلاء لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، لا يعني أنهم لا يخافون في الدنيا، هم في الدنيا تضطرب قلوبهم من خوف الله تبارك وتعالى، وأما عدم الخوف فإنه يوم القيامة، وكذلك الحزن يأتيهم في الدنيا، وغنما يوم القيامة لا يحزنون أبدا. إذن، كذلك قول الله تعالى: «وإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا» إنما جاءت في هؤلاء.

«ثم» للمهلة الرتبية

وتطرق سماحة الشيخ إلى دلالة حرف «ثم» في قوله تعالى «ثم ننجي الذين اتقوا»، وعلاقتها بتفسير الآية الكريمة «وإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا» فأوضح قائلا: قد يتعلق متعلق بأن «ثم» هنا تدل على المهلة، ومعنى ذلك أن تنجية هؤلاء بعدما يصلون النار. ومن يقول بهذا يجب أن يفكر في كيفية مجيء «ثم»، إن «ثم» عندما تعطف الجمل، غالبا ما تكون للمهلة الرتبية ولا تكون للمهلة الزمنية، وهذا هو الغالب على «ثم» عندما تعطف الجمل، وشواهد ذلك في القرآن كثيرة وكذلك في كلام العرب، حتى إن من علماء العربية من نص على أنها لا تأتي عندما تكون عاطفة جملة على جملة إلا للمهلة الرتبية، ولا تكون للمهلة الزمنية، كما هو في شرح ديوان الحماسة، وهذا الذي أيده العلامة ابن عاشور من علماء العربية النابغين المتأخرين في تفسيره التحرير والتنوير.

وأضاف سماحة الشيخ قائلا: ونحن نرى أن «ثم» قد تأتي وتقيد المهلة الزمنية، ولكنها أكثر ما تكون مفيدة للمهلة الرتبية، ومن شواهد كون «ثم» للمهلة الرتبية؛ قول الله سبحانه وتعالى: «فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ، فَكُّ رَقَبَةٍ ، أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ، يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ، أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ، ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ» إن كونهم من الذين آمنوا سابق على كل ما تقدم، من مثل وصفهم بأنهم يعنون بفك الرقبة والإطعام، وغير ذلك؛ لأنه لا قيمة لفك الرقبة ولا للإطعام مع عدم الإيمان، إنما هذا إنما يجب أن يكون مسبوقا بالإيمان، إذن الإيمان سابق وليس الإيمان متأخرًا، وكذلك قول الله سبحانه وتعالى: «إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ» هذا جاء في سورة الحجر، وفي سورة صاد جاء ما يدل على أن الله آذن الملائكة قبل خلق الإنسان، بأنه خالق بشرا من طين، وأمرهم، فالأمر سابق: «فَإِذَا سَوَّيْتُهُ» وإذا تدل على المستقبل، فالتسوية تكون في المستقبل، «فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ» ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى يقول: «وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا» جاءت «ثم» هنا مع أن آية الحجر وآية صاد دالتان على أن قول الله سبحانه وتعالى للملائكة: «اسجدوا لآدم» سابق على وجود آدم؛ فإذن إن «ثم» هنا للمهلة الرتبية وليست للمهلة الزمنية، ومن شواهد كونها للمهلة الرتبية وليست للمهلة الزمنية في هذا السياق نفسه، سياق آيات مريم، قول الله تعالى: «ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا» ، هل علم الله تعالى متأخر ؟!، وإنما علم الله سابق، وعلم الله أزلي.

وخلص سماحة الشيخ الخليلي إلى القول: إن هذا التفسير هو التفسير الصحيح، وهو التفسير الذي ذكره ابن جرير الطبري لجماعة من علماء السلف، وعوّل عليه جماعة من محققي المفسرين، من المتقدمين كالفخر الرازي وكذلك من المتأخرين الطاهر بن عاشور، فهذا التفسير يجب أن يؤخذ به ولا يعدل عنه، لأن الآيات إذا جمعت وجدناها تدل على هذا المعنى، ولا تدل على غيره، فيعول على هذا التفسير وحده.