المنوعات

2 ـ عام التفكير السحري

28 ديسمبر 2016
28 ديسمبر 2016

أعظم مائة كتاب غير أدبي -

إعداد: أحمد شافعي -

في الحلقة الأولى من هذه السلسلة عرضنا لهلاك الجنس البشري المحتمل من أوسع منظور عالمي ممكن. في هذه الحلقة، وهي الثانية، ينتقل التركيز إلى إطار أضيق وألطف وأكثر حميمية وأمعن في طبيعته الشخصية. في ديسمبر من عام 2003م سنحت لجوان ديديون ـ وهي المتخصصة الدقيقة في الكتابة عن نفسها طوال حياتها ـ فرصة فريدة لدراسة تجربة الثكل.

الحب والموت ثيمتان في الروايات العظيمة، ولكن العاطفة التي تربط الحب بالموت ـ وهي عاطفة الحزن ـ أكثر شيوعا كمادة للمذكرات منها في الأدب. ومع ذلك ينبغي أن تكون من نوع شديد الخصوصية من الكتاب لتجد في نفسك القدرة على الانفصال اللازم للتنقيب في خسارتك الشخصية المدمرة، لا سيما إذا كنت تعتزم الكتابة عنها من الداخل. وهذا على وجه التحديد ما تفعله ديديون في «عام التفكير السحري».

والنتيجة عمل يرقى إلى مصاف الكلاسيكيات، موضوعه الحزن، وموضوعه كذلك تقرير صحفي يكتبه شخص ولد بعد الحرب العالمية الثانية عن حياته، محتفيا احتفاء خافتا بذاته الفاتنة. ولعل كتابات ذكريات البؤس تشيع بيننا اليوم ـ فلدينا مثال ممتاز يتمثل في «قصة أرملة» للروائية والقاصة جويس كارول أوتس (الصادر في 2011)، ولكن إسهام ديديون في هذا الجنس الأدبي ارتقى إلى مصاف الأدب، باعتراف الكاتب المسرحي ديفيد هير الذي أخرج بنفسه النسخة المسرحية من سيرة الكاتبة فلعبت بطولتها على الخشبة فينيس ريدجريف سنة 2007.

ببرود ودقة وامتحان دائم لمشاعرها من خلال الكلمات تروي ديديون أحداث سنة بدأت بانهيار زوجها الكاتب «جون دريجوري دون» إثر أزمة قلبية في الشقة التي يمتلكانها بـ«أبر إيست سايد» في الثلاثين من ديسمبر سنة 2003. («الحياة تتغير بسرعة. الحياة تتغير في اللحظة. تجلس لتناول العشاء بينما الحياة التي تعرفها تنتهي»). دقة كدقة الجراحين، تكتسي هدوءا تاما، لتجعل سيرة ديديون هذه سبيلا إلى التطهر من حزنها ووضع خسارتها في سياق جديد هو سياق الترمل.

ثمة دراما موازية تقتحم ألم هذه الحكاية، هي الدراما التي تخص ابنتهما كوينتانا والجراحة العاجلة التي أجرتها في مستشفى بنيويورك إثر التهاب رئوي تفاقم بصورة سريعة. كانت كوينتانا في واقع الأمر لا تزال فاقدة الوعي في وحدة العناية المركزة بمستشفى «بيث إسرائيل نورث» حينما قضى والدها نحبه. وخلال عام 2004 تعافت كوينتانا، ثم انهارت مرة أخرى بنزيف في المخ. وخلال أقل من عامين ماتت وهي في التاسعة والثلاثين بعد سلسلة من العلاجات وقبيل صدور «عام التفكير السحري» الذي يعد أكثر كتب ديديون مبيعا حتى اليوم. في «ليال زرقاء» الصادر بعد ست سنوات تنطلق ديديون في كتابة مرثية كوينتانا، ولكنها ـ بصورة مفهومة ولعلها محتومة ـ لا تكاد تقوى على التصدي للمهمة.

هذان الكتابان معا يعززان مكانة ديديون العظيمة كواحدة من أهم الرواد الأمريكيين فيما بعد الحرب العالمية الثانية في الكتابة الذاتية ـ وإن كان لـ «عام التفكير السحري» الدور الأكبر. ويقتنص مقال لويز ميناند في ذي نيويوركر جوهر ديديون إذ يقول إن الناس أحبوا مجموعة قصصية لديديون، ووقعوا في أسر رواية لها (برغم بعض المقالات النقدية المعادية)، غير أن ما فتن الجميع بحق هو ذات الكاتبة.

الخط القصصي في «عام التفكير السحري» (والعنوان مستلهم من الاستعمال الأنثروبولوجي لمصطلح «التفكير السحري» الذي يمكن من خلاله اجتناب الأحداث الكارثية) هو ببساطة الخط الصاعد الهابط الذي يتحرك فيه حزن ديديون بعد وفاة زوجها. إذ تسرد ديديون أمثلة عديدة لـ«تفكيرها السحري»، لا سيما عجزها التام عن التخلي عن حذاء زوجها، وقد رأت أنه قد يحتاج إليه حينما يرجع.

في البداية تمرر ديديون سيرتها عبر الأدب أدبها وأدب غيرها، ولكن هذه الكتب لا تحقق لها الرضا المطلوب. تكتب «لقد تعلمت منذ الطفولة أن علي في أوقات العناء أن أقرأ وأتعلم وأغلب العناء بالعمل، أن أغرق نفسي في الأدب». فكأن في المعلومات سيطرة. وبرغم أن الحزن أكثر البلايا شيوعا بين الناس يبدو أدب الحزن نادرا بالقياس إلى الحزن نفسه. ربما تكون لدينا يوميات «معاينة الأسى» التي دونها سي إس لويس عقب موت زوجته، ولكن ليس لدينا غيرها الكثير.

ببطء، تهاوت دفاعات الكاتبة على الصفحة. «كنت أريد أن أصرخ. كنت أريده أن يرجع». ثم حدث من خلال «خوف الموت» الذي تمكن منها (ويا له من لعنة خفية) ومن خلال مخاوفها اليومية العادية على سلامتها («بدأت أشعر بالهشاشة، والاضطراب ... ماذا لو سقطت أنا نفسي؟»)، حدث من خلال ذلك أن واجهت هاوية الحزن. وها هو أحد أجمل مقاطع كتابها نثرا.

«يتبين أن الحزن مكان ما لأحد منا أن يعرفه إلا بالوصول إليه. نستشرف (أو نعلم) أن شخصا قريبا منا قد يموت، ولكننا لا ننظر إلى ما هو أبعد من الأيام القليلة التالية مباشرة لهذا الموت المتخيل أو ربما الأسابيع. وحتى هذه الأيام والأسابيع القليلة نخطئ تصورها. قد نتوقع صدمة عند الموت الفجائي. لا نتوقعها صدمة قابلة للانمحاء، للانخلاع من الجسم والعقل. قد نتوقع أن ينال منا التعب، وأن يحل علينا الفقد حلول ما لا عزاء له، قد نتوقع أن يضربنا الجنون. لكننا لا نتوقع جنونا فعليا، كأن تتحول إحدانا إلى مجنونة تتوقع أن يرجع زوجها فيحتاج إلى حذائه».

كتب عام التفكير السحري والتجربة لم تزل ساخنة إلى أقصى درجة ممكنة فيما بين أكتوبر وديسمبر سنة 2004، فهو في أغلب الحالات مربك، وهو في آن واحد قاس ودقيق، ومبهم غامض، وصريح ومهووس بالتكتم. يجاور ما بين الموت والزواج، مسهبا في أحدهما بالتفصيل، ومبديا في الآخر أقوالا ثاقبة، فيها من الفتنة مثل ما فيها من العاطفية. جون جريجوري ديون حاضر بقوة في كل صفحة، لكنه شخصية غائبة. وإذا كانت نسخة الزوجة من الحكاية تتسم بالأمانة، لكن فيها مناطق كثيرة متروكة للفضول المشروع (إلى أي مدى كانت الزيجة ناجحة؟ وحميمية؟ وآمنة؟).

وهكذا، فإن قصة تبدأ في حي من نيويورك تكتسب صبغة إنسانية، وعمقا وسموا، فهي مرآة يمكن أن يستعين بها كل الثكالى والأشقياء من كل مكان. وأخيرا، فإن ديديون انضمت إلى تلك زمرة الكتَاب الذين استطاعوا أن يحولوا الأسى إلى أدب.

عن مقالة روبرت مكروم

بوكس

«نحن مخلوقات ناقصة فانية، نعي بفنائنا حتى ونحن ندفعه عنا، يخذلنا تعقيد أنفسنا، فحين نبكي فقدنا لأحد، نبكي أيضا ذواتنا. ذواتنا التي كانت. ذواتنا التي لم تعد. ذواتنا التي في يوم من الأيام لن تكون».