الملف السياسي

ترسيخ دورها التنموي .. وتعميق مفهوم المواطنة

26 ديسمبر 2016
26 ديسمبر 2016

علاء الدين يوسف -

,, لاشك في أن المشاركة في الانتخابات البلدية هي في حد ذاتها ترجمة عملية لحق المواطن في الممارسة السياسية، وبالتالي فهي ليست في حاجة إلى ضغوط أو مبررات أو حملات لإقناعه بالمشاركة لأنه في نهاية المطاف هو الهدف لأي ممارسة ديمقراطية بما يعود عليه بالنفع والرقي.

وبرغم ذلك تبقى الحقيقة التي لا يجوز إنكارها بحتمية رفع درجة الوعي لمختلف أطراف العملية الانتخابية من المرشحين والناخبين على حد سواء، بما يؤمن مشاركة كبيرة من قاعدة الناخبين وفي الوقت ذاته امتلاك المرشحين لمقومات ومؤهلات ممارسة العمل البلدي لما له من أهمية كبرى في دعم العمل التنموي على الصعد الاقتصادية والمجتمعية والثقافية وكذلك تعميق مفاهيم المواطنة.

مبعث ذلك أن المجالس المحلية أو البلدية هي الخلية الأولى للعمل السياسي ومن خلالها نجحت دول عديدة في تحقيق معدلات تنمية مرتفعة وتعظيم موارد الدولة وإحداث طفرات حقيقية في مستويات المواطنين ومستوى الخدمات والبنى الأساسية سواء بالرقابة أو التنفيذ والمتابعة لضمان ارتفاع المستوى من ناحية، ومواجهة أي أبواب للفساد أو سوء الإدارة من ناحية أخرى، حيث تمثّل المجالس البلدية الهيئات الرسمية الشعبية التي تتولّى قيادة وإدارة المناطق الجهوية، وهذا النظام من شأنه أن يقدم الخدمات إلى السكان أينما كانوا، ميسراً لهم سهولة التناغم البيئي المناسب، وتقليل الفجوات التنموية بين مختلف المناطق وبالتالي تحقيق العدالة الاجتماعية وإنعاش وتنمية المجتمعات المحلية.

وتاريخيا يعتبر مفهوم المجتمع المحلي حديثا بظهوره في بداية الخمسينيات من القرن العشرين لدى بعض الدول المتقدّمة وشاع انتشاره في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، وقد عملت هيئة الأمم المتحدة على تعميم هذا المفهوم كخطوة ضرورية للتنمية، وعلى مستوى الدول النامية كانت الهند أول دولة استخدمت هذا المفهوم في خطّتها الخمسية الأولى (1953-1957)، وبدأت التجربة العربية باستخدام هذا المفهوم في بداية الستينيات من القرن ذاته في مصر . ومفهوم المجتمع المحلّي في التخطيط وكذلك مفهوم الإقليم التنموي لا يعني التمزيق أو الاستقلال عن كيان الدولة الأم، أو الانعزال المكاني والاقتصادي والاجتماعي لهذا المجتمع عن غيره من المجتمعات أو الأقاليم المجاورة، ولذا فالدور الذي يجب أن تنهض به المجالس البلدية يلقي عليها مسؤولية كبيرة ويجب أن تكون هذه المجالس على مستوى المسؤولية والكفاءة وبعد النظر بحس حضاريٍ رفيع، وأن تكون هذه المجالس قادرة على التخطيط، لا للأبنية والشوارع والمنشآت فحسب، بل للإنسان الذي يستعمل هذه المقدرات.

وإذا كانت بداية تجربة المحليات الناجحة قد انطلقت من الهند كما ورد من قبل فقد كانت المجالس البلدية هي أساس النجاح التنموي والتطور المجتمعي في عديد من الدول فيما بعد، ولعل من المناسب إلقاء الضوء على جانب منها، فدراسة تجارب الآخرين خاصة الناجح منها تمثل خبرة مهمة في الانطلاق محليا نحو ما هو أفضل، ولعل التجربة التركية هي الأحدث والأهم في هذا المقام، فقد شرعت الحكومة التركية في السنوات الأخيرة بإجراء إصلاحات للإدارات المحلية بهدف تعزيز الديمقراطية المحلية وإعادة تقسيم المهام بين الإدارات المركزية والمحلية من جديد، وإعادة تعريف الإدارة المحلية باعتبارها كيانا مستقلا إداريا وماليا، والعمل على تقديم الخدمات المحلية للمواطنين في أقرب مكان لهم (مبدأ اللامركزية في تقديم الخدمة)، ونتيجة لهذه الإصلاحات باتت الإدارات المحلية أكثر قوة من حيث الاستقلال الإداري والمادي، وتحققت إمكانية قيام البلديات والإدارات الخاصة في المحافظات بمهامهم بشكل أكثر نفعا وتأثيرا.

ويعد اتساع مجالات المهام والسلطات والمسؤوليات الخاصة بالإدارات المحلية – والحديث لا يزال عن التجربة التركية - أحد أهم مؤشرات التطور الديمقراطي، وبسبب البنية المتعصبة التي سادت في تركيا طيلة سنوات عدة تغيرت قوة الإدارة المحلية ولم تجر التعديلات اللازمة على اللوائح والقوانين. وتم في السنوات العشر الأخيرة تجديد القوانين الأساسية فيما يخص البلديات والإدارات الخاصة في المحافظات بهدف إرساء الديمقراطية واللامركزية، فأُعِيد تعريف مهام البلديات وسلطاتها ومسؤولياتها وأجهزتها، وتمتعت إدارة البلديات بالاستقلالية الإدارية والمالية، وذلك في إطار مبدأ «اللامركزية في تقديم الخدمة»، كما تم تقليص السلطة التسلطية المفروضة على قرارات مجالس البلديات، وتمت إعادة تنظيم جميع الاحتياجات ذات الطابع المحلي والمشترك الموجودة داخل حدود البلدية باعتبارها إحدى مهام البلديات، كما تم إضفاء الصفة القانونية على»مجالس المدن» بهدف ضمان المشاركة في تقديم خدمات البلدية، وتم السماح للبلديات بتشغيل المتخصصين بعقود عمل وإقامة المشروعات الخدمية المشتركة بالتعاون مع المؤسسات المهنية العامة ومؤسسات المجتمع المدني والهيئات الدولية.

كما تم بموجب قوانين اخرى توسيع حدود البلديات الكبرى وفقا لعدد سكانها، وانتهى بذلك الخلط في المهام والسلطات بين بلديات المدن الكبرى، وبلديات الأحياء الكبرى، وفي إطار هذا القانون أيضا تم السماح لبلديات المدن الكبرى بعمل رقابة على خطط البناء وممارسات التشييد الخاصة ببلديات الأحياء، وذلك بهدف منع التمدد العشوائي الغير منظم وإقامة العشوائيات. وقد أثمرت هذه القوانين والسياسات بالفعل في إحداث نهضة كبرى للدولة التركية في النواحي الاقتصادية والتنموية والإدارية لخدمة المواطنين وضرب بؤر الفساد في الدولة وتحسين مستوى الخدمات المقدمة لأفراد الشعب، ولهذا باتت الانتخابات المحلية واحدة من أهم المناسبات التي تتنافس فيها الأحزاب السياسية بعدما أصبحت مفتاحا مهما للنفاذ إلى عقول وقلوب الناخبين.

وهناك بكل تأكيد نماذج ناجحة عديدة للإدارة البلدية على الصعيد العالمي وقد تحقق لها ذلك من خلال برامج ومقومات رئيسية تقوم على عناصر مهمة من بينها، إعداد القادة المحليين في البلديات ودراسة وتحليل مناهج العمل البلدي من خلال تجارب إقليمية ودولية، والاهتمام بدور البلديات في المحافظة على البيئة وتفعيل دور تكنولوجيا المعلومات في تطوير العمل البلدي إضافة إلى ضرورة إعادة تقييم وصياغة استراتيجيات خدمة الزبائن للعمل البلدي ودور البلديات في إدارة البيئة الساحلية وتنمية السياحة وإعداد محاضر الجلسات في العمل البلدي واستدامة المجتمعات الساحلية وإدارة النظم البيئية واستراتيجيات إدارة وتطوير الخدمات في القطاع البلدي وإقرار أهميتها في تطوير الاستثمار العقاري والتخطيط العمراني للمدن واستراتيجيات التنمية الشاملة والمستدامة للبلديات المحلية.

وغني عن البيان أن السلطنة قطعت شوطا كبيرا في امتلاك زمام هذه الأمور المهمة التي ساعدتها كذلك على امتلاك نظم خدمية وإدارية غاية في التقدم، ويمكن لهذه الوسائل أن تدعم العمل البلدي وترسخ دورها أمام المواطن كونها وسيلة مهمة لاصطفاف المواطنين وراءها وتحسين فرص مشاركتهم في تشكيلها من خلال الانتخابات ودعم دورها بتعظيم إنجازاتها، وعلى الإدارات البلدية كذلك رفع مستوى الأداء بوسائل إضافية تكفل تحسين استخدامات التكنولوجيا ونظم المعلومات واستراتيجيات الحد من ازدحام حركة السير وإدارة مواقف السيارات واستراتيجية تعزيز السلامة على الطرق واستراتيجيات النقل وصيانة الطرق وتحديات التنمية المستدامة وتطوير وزيادة شبكات الطرق والجسور والقنوات.

ويجب إدراك أن الإبداع العملي والإداري في العمل البلدي يكتمل باستيعاب الاتجاهات الحديثة في إدارة البلديات والمحليات والابتكار في تميز العناية بخدمة الزبائن والتفويض والتمكين والتخطيط كأساس لبناء الصف الثاني من القيادات الإدارية وإعداد التقارير الدورية ودورها في ترشيد القرارات الإدارية والارتقاء بمستوى خدمات البلديات إداريا وفنيا وتطبيق سبل الإدارة القيادية والربط بين البلدية الإلكترونية والحكومة الإلكترونية واستيعاب مفهوم البلديات وإدارة الكوارث والأزمات والاستفادة من التجارب الرائدة والنظم الإدارية والاتجاهات الحديثة في مجال إدارة البلديات والاتجاهات المعاصرة والحديثة في إدارة الجودة لرؤساء البلديات والتقنيات المعاصرة في النظافة وطرق تدوير النفايات ومراعاة البعد الاجتماعي في قرارات البلديات والمجالس البلدية والإشراف الإداري الفعال لرؤساء البلديات لضمان تطبيق الاتجاهات الحديثة في التنظيم وتبسيط الإجراءات الإدارية والارتقاء بالاتصالات الإدارية وفن التعامل مع الآخرين لموظفي البلديات وتنفيذ الإدارة المالية الإلكترونية وسياسات توظيف وإعداد وتأهيل القيادات الإدارية والأساليب والطرق الحديثة المساعدة على تنمية الإدارة الإبداعية في العمل البلدي وفي الختام تجدر الإشارة إلى أن تطبيق مثل هذه الإجراءات الإدارية والتنظيمية يمثل قمة النجاح في العمل السياسي حيث تضمن رفع الوعي لدى الناخبين والمرشحين على السواء بما يكرس أهمية ودور الانتخابات البلدية.