880309
880309
شرفات

إنشائية الفراغ ودلالاته في«نظرات مختلفة» ضمن مجموعة «الأحمر» لإشراق النهدي

26 ديسمبر 2016
26 ديسمبر 2016

الشاذلي عبد الصمد -

«نظرات مختلفة» هي الأقصوصة الأولى في مجموعة «الأحمر» القصصية للقاصة العمانية إشراق النهدي، تمتد هذه الأقصوصة من الصفحة الخامسة الى الصفحة الحادية عشرة، وفيها وصف الراوي حياته في بيت خالته وما عاناه من فراغ ووحشة، إلا أن هذا الفراغ مكن إشراق النهدي من بناء نص قصصي ممتع، واستدعانا لقراءته وتبين الأدبية فيه وكشف دلالاته.

افتتحت إشراق النهدي أقصوصتها «نظرات مختلفة» بتصدير تقول فيه:«الكل بعيد، الكل مشغول، الحياة اسرع منا. نحن ننسى كثيرا. ونتجاهل أكثر. رغم ذلك هناك إحساس غائب وغير مكتمل» بينت إشراق النهدي في هذا التصدير أن العالم اليوم طابعه الفردية والتشتت معتمدة التكرار «الكل بعيد، الكل مشغول» والفرد يعيش في هذا العالم نسقا سريعا مرهقا، وبين رغبات الفرد في الأنس والسعادة من جهة ومتطلبات الحياة من جهة أخرى مفارقة تؤلم الإنسان، ولذلك فإن الحل في النسيان والتجاهل، إلا أن ذلك لا يحقق سعادة الإنسان، فالتصدير يختزل الفكرة الأساسية للأقصوصة، فيبين الأسباب ويقترح الحلول، لكنها حلول منقوصة، ليبقى الإنسان باحثا عن سعادة وهمية لن تتحقق.

ينتقل الراوي إلى بيت خالته للقيام بمقابلة من أجل الالتحاق بالوظيفة، وفي انتظار المقابلة يبقى وحيدا في البيت بعد خروج أفراد أسرة خالته للعمل والدراسة، وهو ما جعله يعيش الفراغ والوحدة. فعبرت إشراق النهدي عن هذا الفراغ المطبق؟

كثفت الكاتبة من المعجم الذي يدل على الفراغ، فقد وردت كلمة الفراغ ست عشرة مرة، ووردت كلمة الوحدة أربع مرات، أما فريد وبمفردي فذكرتا مرتين، وذكر الملل والضجر والسكون والوحشة مرة واحدة، زد إلى ذلك عبارات أخرى تدخل في المعجم نفسه، مثل:( خطوات قلقة) و( الخمول) و(أجفاني الذابلة) و( أحتسي الكسل) و( يئس) و(أحبط)... أسماء وأفعال وصفات كلها تكاملت من أجل تكثيف الفراغ حتى سيطر على النص ولفه بوحشته ، وهي تدل على ماعاناه الراوي الشخصية في بيت خالته زمن خروج العائلة إلى العمل والدراسة.

ولوصف هول هذا الفراغ الذي عاشته الشخصية تعتمد الكاتبة المركب النعتي « فراغا هائلا و التشبيه» يسكنني بحجم البيت الذي أسكنه لكن اللافت للانتباه هو حضور الاستعارة بقوة، حتى حولت الفراغ شخصية تتحرك في النص تؤثر في الراوي والبيت والحياة، فهذا الفراغ « يتنسم الوحدة وأنا أشاطره تلك الأنسام» ،

فتعتمد الكاتبة الانزياح، إذ أن الأنسام عادة ما تكون لطيفة تنعش صاحبها، وتبعد عنه الحزن، لكنهن هنا أنسام تبعث الملل والضجر ، وفي الإطار نفسه فإن الفراغ «يشدو ألحان الوحدة ويسكبها في نفسي طازجة» إنها الحان الحزن والقلق. وللفراغ أذيال بأذياله المتشعبة» وأذرع « بأذرعه الأخطبوطية وبلعوم من بلعوم الوحدة» يتحول الفراغ إلى متاهة ووحش كاسر أسطوري، يصبح الفراغ عدوا يهدد الراوي وسجنا يسلبه حريته وإرادته وسعادته وشبحا يلاحقه أينما اتجه «يضمني الفراغ أينما أحط وأقع».

وقد أثر الفراغ في كل شيء، حتى اللوحة على الحائط لم تسلم هي الأخرى من هول الفراغ «فارغة كفراغي، فارغة كفراغ البيت بأسره، بل إنها بفراغ الحياة المهولة بأكملها» .

هكذا يصبح الفراغ فراغا روحيا وجوديا، وما حياة الإنسان إلا فراغ إن لم يجد لها معنى .

لقد كان الراوي ضحية الفراغ، لم يستطع الفكاك منه، إذ يقول: «بت طبقا شهيا يلتهمني الفراغ» بل إن الفراغ أثر في المكان، فهو يصف المدينة قائلا: «في هذه المدينة المرقطة بالوحشة»، فتصبح الوحشة لونا يصبغ هذه المدينة. و أثر الفراغ في الزمن، فتحول من زمن موضوعي إلى زمن نفسي بطيء يثقل النفس ويكبل الجسد «أتشرب وطأة الدقائق التي تمر بتثاقل لم أعهد له مثيلا». و قد التجأت الكاتبة أيضا للتعبير عن الفراغ إلى الحوار الباطني ، إذ يقول الراوي: «إذا حدث ونلت وظيفة هنا ، كيف سأتعايش بكل هذا الفراغ الموحد، لا أدري» والحوار الباطني يأتي بعد مقطع سردي أو وصفي ، ولم يجد الراوي من يحادثه فاضطر إلى أن يكلم نفسه لعله يبعد ضجرا جثم على القلب فأنهكه .

ساهمت هذه الأساليب وخاصة الاستعارة والمجاز إضافة إلى المعجم والتشبيه والحوار الباطني في رسم حال الفراغ الذي عاشه الراوي وهو وحيد في بيت خالته ، هو فراغ ينطلق من الخارج إلى داخل نفسيته ، ومن داخلها إلى البيت والحياة والزمن والمدينة ، هو فراغ مطبق كثيف ، لكن هل حاول الراوي إبعاد شبح الفراغ المهيمن عليه وعلى المكان والزمان والوجود؟

حاول الراوي مقاومة الفراغ بأعمال شتى منها، اللجوء إلى المطبخ لكنه لم يفلح في إبعاد القلق، يقول: أحسست بحيزه الذي ابتلعني دون تردد لأن المطبخ يشبع حاجة مادية جسدية بينما هو في حاجة إلى إشباع نفسه وروحه، وهو ما دفعه إلى الذهاب إلى الصالة التي زادت في وحدته، يقول: «اندهشت من خدر يسري بالصالة، ويبعث سكرته من جدران الفراغ» فما كان للراوي إلا أن يعود إلى استرجاع صورة بيتهم بين أهله، يستعيد الأنس والسعادة أستأنس الزحام وصخب الأيام» ولكن المقارنة بين بيتهم وبيت خالته تشعره بالألم، يقول: «بينما هنا كل شيء معد للملل ومهيأ للضجر» فالبيوت الفارهة لا تحقق السعادة، بل إن السعادة في البيوت التي تتضوع فيها علاقات حميمية وحركة وأصوات حتى وإن كانت بيوتا بسيطة. وحتى عندما استنجد الراوي بالتلفاز وجده خاليا من القنوات المبرمجة لا يؤدي وظيفة، إنه مجرد ديكور. هذا الفراغ الهائل دفعه إلى القيام بعمل عبثي، وهو عد أصابع القدمين ، وفكر في عد كم رمشة تحدث في الثانية، ثم عدلت عن الفكرة لتبقى اللوحة ملاذا آخر له. إن عد أصابع القدمين هو عودة إلى العدد أي إلى الجماعة، إلى الناس مثلما كان يعيش في بيتهم، بينما هو الآن وحيد يعاشره الفراغ ويعاشره . في هذه اللوحة رجل وامرأة يديران ظهريهما لكرسي، وأمام الكرسي برج كبير، ومن الخلف هناك بحيرة ذات هوة . إن هذا الكرسي المهجور وقد تجاهله الرجل والمرأة ما هو إلا صورة للراوي وقد بقي وحيدا في البيت، أما الجدار والبحيرة فهما يرمزان إلى حالة الحصار التي يعيشها داخل هذا البيت البارد عاطفيا رغم رفاهيته.

لقد زادت اللوحة وحشة الراوي، فما كان منه إلا أن نزعها ورماها في الفناء الخلفي للمنزل. إن رمي اللوحة دون استشارة اهل البيت يدل على حال التوتر التي وصل غليها الراوي، ومن الفراغ ما يصنع كائنا عدوانيا، ومن الفراغ ما يؤدي إلى العبث والجنون يقول: أعبث بالوقت، ويقول أيضا: «استرخاء تام وجنون».

بعد رمي اللوحة يعود ليطالع مجلة، فيقول: «سأشتغل بمطالعة مجلة» ليصبح بعد ذلك كتابا «خلقت ألفة مع الكتاب». أهو يقرأ مجلة ام كتابا؟ لعل ذلك يعود إلى حالة التوتر والاضطراب اللذين عاشهما الراوي.

استطاع الكتاب ان يعيد إليه توازنه «غلف الاطمئنان وجهي»، استطاع الكتاب أن يعيد الهدوء المفقود، ذلك أن الكتاب هو المؤنس «وخير جليس في الزمان كتاب» لأن الكتاب يصنع عالما خياليا يحتوي شخصيات وأمكنة وأزمنة وأحداثا يتفاعل معه القارئ حتى يصنع عالما آخر يبعده عن الواقع الموجود، فان تقرأ يعني أن توجد. هذا القلق الكوني يعود إلى غياب الكتاب والقراءة؟

ويبتعد الفراغ أكثر عندما تعود ابنة الخالة إلى البيت، والتي سرعان ما تفطنت إلى غياب اللوحة، ولكنها عبرت عن رضاها إذ تقول عن اللوحة: «لا تروق لي بتاتا».

نتبين أن الراوي حاول إبعاد شبح الفراغ بالمكان والآلة والجسد والفن، اكن كل ذلك لم يفلح، ولم يبعد عنه ضجره إلا الكتاب والإنسان متمثلا في ابنة الخالة والعائلة فيما بعد، ولذلك فإننا نلاحظ تطورا في نوع الحوار، ففي حال الفراغ اعتمدت الكاتبة الحوار الباطني وعندما تبدد هذا الفراغ اعتمدت الحوار الثنائي الذي دار بين الراوي وابنة خالته ، ولما ابتعد الفراغ نهائيا حضرت المحادثة، وهي الحوار الذي يتجاوز الاثنين.

اجتمعت العائلة وقت العشاء، وتساءل الأب عن اللوحة، واختلفت العائلة في تحديد مكونات اللوحة، فابنة الخالة تعتبرها صورة لقطة، وزوج الخالة يراها لوحة الطفلة ذات العينين الجاحظتين، الابن فهي عنده صورة قبيحة لخفاش أو ربما لوطواط وأما الخالة فترى أنها صورة لبومة، وهي متأكدة من ذلك.

ما نلاحظه أن الراوي زالت غربته عند قراءة الكتاب، وهجره الفراغ عندما حل أفراد العائلة، و الحديث. فالفراغ سببه الوحدة والعزلة والصمت المطبق، وهو أمر نفسي ينعكس على الجسد، وقد حاول الراوي طرده بكل الوسائل، ليبقى الإنسان في حاجة إلى الآخر ليؤنسه، ولعل كلمة الإنسان تعود إلى الأنس وليس إلى النسيان فقط. ويعتبر الراوي أن الفن حل من الحلول للقضاء على الفراغ ولكن حسب رؤية الفرد له. فمن ميزات الفن أنه لا يفرض قراءة واحدة، ولذلك اختلفت العائلة في تحديد الصورة في اللوحة، ثم إن تفاعل الإنسان مع الفن ليس ثابتا، فالراوي لم تعجبه اللوحة بل أزعجته حتى رماها في الفناء الخلفي للبيت، لكنه بعد حوار الأسرة أصبحت له رغبة جامحة في رؤية اللوحة من جديد.

ما يستوقفنا في قراءة اللوحة هو تباين القراءات وتنافرها من قطة إلى طفلة إلى خفاش إلى بومة، وقبل هذا رؤية الراوي للوحة. إن الجمع بين هذه الرؤى المختلفة المتناقضة يدخلنا إلى عالم الرسم التكعيبي الذي يقوم على إدماج المتنافرات أو ما يسمى بالكولاج والتلصيق. إنها اللوحة الشبح.

الفراغ قاتل، مدمر للإنسان في ظل عالم يعيش فراغا روحيا مقيتا ، ولذلك حن الراوي إلى بيتهم وأهله لأنهم أناس تربطه بينهم علاقات عاطفية ملؤها الحب والدفء والعفوية، وهو ما افتقده في بيت الخالة البارد عاطفيا، وكل شيء فيه مصطنع.

تريد الكاتبة أن تبرز أن لا سعادة في عالم مادي يهتم بالجسد ويهمل الروح والقلب، ولذلك رأت أن الفن والكتاب يمكنهما إنقاذ الإنسان من هذا القلق .

صورت إشراق النهدي الفراغ الذي عاشه الراوي بأسلوب أدبي اعتمد الاستعارة خاصة حتى تحول الفراغ إلى شخص يتأثر ويؤثر، وهي في ذلك تنطلق من عالم الفرد الضيق إلى عالم أرحب، فالفراغ الذي عاناه الراوي هو من فراغ الروح ، ومن فراغ هذا العالم القائم على المال والجسد، وبالفراغ الذي عاشه الراوي أثثت القاصة إشراق النهدي نصا ممتعا يبعد عن القارئ الضجر والفراغ.

*كاتب تونسي