879919
879919
شرفات

يوميات : «نعم، نعم، أنتم تُحَلِّقون تحت سماء فلسطين»

26 ديسمبر 2016
26 ديسمبر 2016

879913

هذه الحلقة من «اليوميات» مهداة بكل الحزن والشجن إلى ذكرى ضياء البرغوثي. -

عبدالله حبيب -

الخميس 28 يونيو، 2001، العين:

صحتي عليلة لكني مشتاق لأصدقائي. أعتقد ان الشوق للأصدقاء أفضل بكثير من الأصدقاء أنفسهم. جاء خالد بدر ونجوم الغانم إلى العين حسب الاتفاق لعدم تمكني من زيارتهما في رحلتي المزدحمة جداً إلى الإمارات. التقينا في أحد منتبذات فندق الإنتركُونتِنَنتَال الذي أقاما فيه، وبعد إغلاق المنتبذ عند منتصف الليل تقريباً واصلنا السهر في غرفتهما. كانت في صوت خالد بحَّة الصداقة القديمة، وإصغاؤه لما تقول عوضاً عن سماعه فقط. لا أدري لماذا لا أستطيع أن أتصور خالد من غير أحمد راشد ثاني. قد يكون السبب هو تزامن تعرفي إليهما وما حفرته الأيام الخوالي في الذاكرة من صعلكات، وكتب، وأحلام. تحدثنا عن أشياء كثيرة كمشاركتهما المحتملة في كتاب تِشوما غابرييل القادم بحيث أقوم بترجمة مادتهما المشتركة ان رغبا في ذلك، أو مادة كليهما منفردة إن هما حبَّذا هذا، ولكن حماسهما للفكرة لم يبدُ منقطع النظير [...].

بعد أن ودعت نجوم وخالد نزلت إلى مواقف السيارات لأرى ان الجانب الأمامي من السيارة مهشم تماماً [...].

الجمعة 29 يونيو إلى الإثنين 2 يوليو 2001 (البريمي والعين):

يؤلمني أنه لم يعد ممكناً السفر إلى مجز الصغرى في ذهاب أوسع من تلك الخلسة الليلية- لا سباحة في البحر الذي أخذني إلى العالم، ولا اطمئنان على ما تبقى من مكتبتي في بيت الوالد، ولا زيارة للخالة عائشة أرملة تعوب الكحَّالي، ولا انزراع حنينيّاً في ذلك المكان الذي كانت تتوقف فيه دراجة هوائية يحمل صاحبها في صدره نسائم الضحى المشتاقة: «أنا اسمي عبدالله، انتيه من اسمك»؟، «أنا اسمي فاطمة»، ثم تغص اللعثمة في حشرجات المدى قبل سنوات طويلة من تَسَمُّري وأنا أشاهد «ظِلال أسلاف منسيين أو خيول النار» لسيرجي بارادجانوف: «اسمي إيفانكو»، «اسمي ماريشكا»، «آه يا ماريشكا»، «آه يا إيفانكو». ومن الغريب فعلاً أن النقاد السينمائيين يغضون النظر عن ضرورة معرفة الشخصية اسم الشخصية الأخرى في أفلام بازوليني، بحيث لا بد أن يكون السؤال وارداً في الحوار: «ما اسمك»؟. يتعلق الأمر هنا بخطاب (discourse) مزدوج يخص ما يحدث على الشاشة والمتفرج معاً. حسن جداً يا مجز الصغرى، أنا لا أنسى الأسماء، وليس لي إلا أن أعود إلى «هناك» من دون تحقيق الأمنيات كالعادة، لكنك يا مجز الصغرى أمنيتي الوحيدة، والمستحيلة، وأنا لا أنسى اسمك.

أعاني من آلام سيئة للغاية في المعدة، لكني سأرحل ولو بمعدة معطوبة، فهذا خير من البقاء في هذا المكان المعطوب تماماً ولو بمعدة صالحة. وعليَّ أن أتذكر أني جُبْتُ أكثر من ثمانية محلات أشرطة في البريمي والعين بحثاً عن شريط يحتوي أغنية طلال مداح «زمان الصمت» لكني لم أجدها. أحد باعة الأشرطة الهنود قال لي: «أنا يعرف هذا أغنيه زين زين، ليكن هذا أغنيه فيه قديم واجد. ألحين انته ما فيه يحصل. الحين نفرات يريد أغنيه جديد»، وهو على حق، لأنه ما من أرض تنسلخ من ذاكرتها كما يحدث لأرضنا (قبل هذا بسنتين بذلنا- [...] وأنا ــ المستحيل من أجل «العثور» على أغان لمحمد عبدالوهاب وأم كلثوم بلا جدوى).

الثلاثاء 3 يوليو 2001 (في السماء عند الغيوم والسُّحُب):

العودة إلى لوس أنجلوس، مدينة الشياطين، والدخان، والقذارة، والتلوث، والجريمة، والفداحة حيث حتى قبَّة السماء أصغر عما الأمر عليه في بقية مدن المدمورة- لوس أنجلوس: أقبح مدينة في العالم بامتياز. يكفيها «فخراً» انها أضافت إلى لغة شكسبير كلمتين من فيوض تلوثها البيئي وكفاءتها الجريمية: “smug” و”carjacking”.

على عكس المرات الفائتة، سارت الأمور بيسر غريب في المطار، ولم تجرِ الاستجوابات الطويلة المعهودة والتفتيش «المايكروسكوبي»، لدرجة أن موظف الهجرة قال لي مبتسماً من خاطره: “Welcome back!» وأنا رددت صادقاً مبتسماً مخلصاً له الدين بقولي: “Glad to be back!”.

الأربعاء 4 يوليو 2001، لوس أنجلوس، كاليفورنيا:

اليوم، في ذكرى الاستقلال الأمريكي، بثَّت محطة الـ «سي إن إن» خبراً عن الحكم على مواطن أمريكي يقضي أصلاً عقوبة «الإفراج مع الإبقاء تحت الملاحظة» (probation) بعقوبة إضافية هي السجن لمدة عشر سنوات بسبب بعض استيهامته الجنسية التي أوردها في يومياته التي من المفترض ألا يطلع عليها أحد في بلاد تزعم انها تحترم الخصوصية الشخصية. ورغم أن هذا المواطن الأمريكي أصر على أن المسألة ليست سوى «خيال» إلا أن هذا «الخيال» كان كافياً لتجريمه، وإدانته، والحكم عليه. ولم تقل المحطة شيئاً عن سبب وضع ذلك التَّعِس تحت الملاحظة أصلاً قبل صدور الحكم الجديد عليه، ولكن حتى ولو كان الأمر يتعلق بالجنس أو ما شابه فإن من الواضح أن سبب العقوبة الجديدة هو الكتابة، وهذا لَعَمْري مكمن الخطورة.

لم أشعر أبداً اني مصاب بالـ«البارانويا» حين أتخذُ إجراءات احتياطية معقَّدة للغاية من أجل حماية هذه اليوميات خاصة حين أكون بصدد الغياب عن الشقة ليوم أو أكثر (ولست ساذجاً بما فيه الكفاية لأبوح بشيء من تلك الاحترازات)، فهذي بلادٌ «جورج- أوروليَّة» على الرغم من واجهة الرابع من يوليو البرَّاقة حيث ستطلق الألعاب النارية الليلة، خاصة وإنني لا أزال تحت الـ «الإفراج مع الإبقاء تحت الملاحظة» بسبب قضية [...]، ولذلك يحق نظرياً اعتقالي في أي وقت، وهذا فوق ما أجازته المخابرات العربية لنفسها.

الخميس 5 يوليو 2001، لوس أنجلوس، كاليفورنيا:

بصراحة شديدة، صرت أتمنى تسارع وتيرة أَمْرَكَة العالم، ففي هذا وحده ضمان تعجيل نهايته، أي حلول الخلاص أخيراً (وكم هي عبقرية الأديان في تقديمها فكرة نهاية العالم).

الجمعة 6 يوليو 2001، لوس أنجلوس، كاليفورنيا:

نزهة ممتعة على الطريق البحري والطرق الجبلية الهادئة بمنطقة «فنتورا» (وكلاهما لم أره منذ الصيف الفائت)، والأخيرة من الأماكن القليلة الأقرب إلى الطبيعة في هذه المدينة الأخطبوطية القبيحة. لو كانت قريبة من حيث أسكن لذهبت إليها في كل يوم.

لكن فاتتنا مساء فرصة مشاهدة نسخة 35 ملم جُلبت من أوروبا لعرض واحد فقط لفيلم مايكل أنجِلو أنتونيوني «زبريسكي بوينت» في «السينماتِك» بسبب ازدحام الطريق السريع الأكثر تبجيلاً في لوس أنجلوس، الطريق السريع رقم 405.

أحسست بأن ضياع فرصة مشاهدة الفيلم إنما هي ثمن لا بد منه لمتعة النزهة («عليك أن تدفع مقابل كل شيء» كما قال جان جينيه، و«الحياة كلها فواتير» كما رأت موزه مطر قبل أيام).

السبت 7 يوليو، 2001، لوس أنجيلوس، كاليفورنيا:

أعتقد ان علاقتي بـ[...] على وشك الأفول، وليسعفنا الله على ما سيحدث بعد ذلك. طوال اليوم كانت النجوم تتساقط من عيوننا ونحن لا نتجشم حتى عناء دفنها. كان هذا يوماً مشدوداً، وبارداً، وطعاماً من اللحم، والخبز، والمرق الأثيوبي الحارق في ضيافة أستاذي، ورفيقي، وصديقي العزيز تِشوما غابرييل الذي لم ينسَ هذه المرة أيضاً أن يُذَكِّرني بدعابته العتيدة: «لا تنسَ ان مَلِكَنا النجاشي قد أجار أسلافك»!.

الأحد 8 يوليو، 2001، لوس أنجلوس، كاليفورنيا:

ابتياع عدة أفلام بأسعار معقولة من محل فيديو أَفْلَسَ وصار لا بد من أن يتخلص من بضاعته، وذلك في منطقة «مارينا دِل ري». وفي محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه تنزهنا – [...] وأنا -- في المنطقة. بصمت وانكسار شديدين تناولنا الغداء في مطعم يطل على الماء مباشرة، وقد كنا نتحاشى أن ننظر إلى عيون بعضنا البعض. احتست [...] بصورة نزقة ومتوترة حوالي أربعة كؤوس من عصير البرتقال الطازج من دون أن أكلف نفسي عناء سؤالها عن هذا الانتحار البرتقالي فقد كنت مستغرقاً في كرع عنقود ما طلبت من القناني المكسيكية.

ليلاً، وفي صمت كامل باستثناء بعض المجاملات المُغتَصَبَة التي كانت تبحث جاهدة عن صدق أكبر على الرغم من ورود كلمة «حبيبي» في أحشائها المبقورة، مشاهدة الفيلم الفيتنامي «ضوء الشمس العمودي» من إخراج تران أنه هنج. فيلم خافت، ودافئ، وشعري في أكثر من موضع، لكنه ليس من الأفلام التي تجعلك مجنوناً (لقد أصبح العالم حكيماً جداً، ولذا فإنه لم يعد بحاجة لمثل هذه الأفلام).

الإثنين 9 يوليو 2001، لوس أنجلوس، كاليفورنيا:

لا جديد تحت الشمس.

إن كان ثمة جديد فإنه لا يحدث إلا تحت الأرض.

الثلاثاء 10 يوليو 2001، لوس أنجلوس، كاليفورنيا:

اشتقت كثيراً لإسماعيل ناشف فقد مضى نحو عام منذ أن تحدثنا هاتفياً لآخر مرة. لدي رقم هاتفه لكني لم أسجل رمز الاتصال الدولي ببلاده. هاتفت موظفة البدالة طالباً منها أن تخبرني رمز الاتصال الدولي بفلسطين. قالت لي انه لا توجد هناك بلاد بهذا الاسم. رددتُ عليها: «بل توجد؛ إنها البلاد التي استولى عليها الصهاينة في «1948. ردَّت: «أنت بالتأكيد تقصد إسرائيل». أجبتُ: «كلا، إنني أقصد فلسطين». تذكرتُ ليلى خالد وقد أجبرت الطائرة المخطوفة على التحليق بارتفاع منخفض تحت سماء فلسطين، بل أصرت على الطيَّار أن يتصل ببرج المراقبة في مطار «اللد» ليقول: «هذه الطائرة تحت السيطرة الكاملة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، فهي مكان فلسطيني مُحَرَّر، وهي تحلق الآن تحت سماء فلسطين على ارتفاع [كذا قدم أو مِتر]» فأجاب برج المراقبة: «نعم، إنها تحلق تحت سماء إسرائيل ونحن مستعدون للطوارئ في حالة الهبوط الاضطراري»، فكررت ليلى خالد طلبها واضعةً فوَّهة مسدسها على صدغ الطيَّار: «إننا نحلِّق تحت سماء فلسطين، وليس إسرائيل. قُل له ان عليه تغيير المفردة، وإلا...»!. هتف الطيار في جهاز الاتصال واستعطف موظف برج المراقبة: «قُل فلسطين وليس إسرائيل وإلا فإنها ستفجِّرُ الطائرة». ردَّ موظف برج المراقبة خانعاً، جَزِعاً، ذليلاً كما يليق به: «نعم، نعم، أنتم تحلقون تحت سماء فلسطين».

رنَّ الهاتف في فلسطين، لكن اسماعيل ناشف لم يكن هناك، فتحدثت مطولاً مع أمه وكأننا نعرف بعضنا البعض، وطلبت منها أن تسلّم على اسماعيل كثيراً.