أعمدة

هوامش.. ومتون : رحلة صوفيّة على أنغام الجاز

25 ديسمبر 2016
25 ديسمبر 2016

عبدالرزّاق الربيعي -

مرّ الغناء الصوفي بمراحل، بفعل التطوّر الحاصل في مجالات الحياة، فانتقل عبرها من حلقات الذكر المعروفة، التي وضع أسس أشهرها جلال الدين الرومي بما يطلق عليها الطريقة «المولوية»،التي عُرفت في القرن الثالث عشر للميلاد، إلى استفادة الملحّنين، والمغنّين، والموسيقيّين من أشعار المتصوّفة، والأجواء الروحيّة المصاحبة لحلقات الذكر، مستلهمين منها ما يضفي على فنّهم طابعا روحانيّا، فأدخلوا الآلات الموسيقيّة، التي تقتصر، في تلك الحلقات في الطرق الصوفيّة التقليديّة، على الدفوف، واستفادوا من القوالب اللحنيّة، التي يردّدها المتصوّفة، وقد وجد هذا النمط من الموسيقى ،والغناء هوى في نفوس الجمهور، بخاصّة ، أنّ توجيه الخطاب للمعشوق هو قاسم مشترك، بين المتصوّفة في حلقات الذكر، كونهم ينطلقون من الحبّ الإلهي، فيما يخاطب الكثير من المغنّين المعشوق بما يحملونه من هوى، واشتياق ، وكلاهما ساحته العاطفة الإنسانيّة :

أنا من أهوى ومن أهوى أنا

نحن روحان حللنا بدنا

فإذا أبصرتَني أبصرتَه

وإذا أبصرتَه أبصرتَنا

ويمكن اعتبار الفنان التونسي ظافر يوسف واحدا من الموسيقيين الذين أخذوا من تلك الألحان إشعاعاتها الروحيّة، وقام بمزجها بألحان جديدة، وآلات موسيقيّة حديثة، شرقيّة، وغربيّة، فنجح في تقديم الموسيقى الصوفيّة بطريقة تجذب الأسماع، وقد استهوت جمهورا عريضا في الغرب، وربما فاقت ماهو لدينا في الشرق، إذ تشبّعت أسماعنا بالإيقاعات الصوفيّة التقليديّة، لذا لم أستغرب الإقبال الكبير الذي تشهده حفلاته الموسيقيّة في بلدان الغرب، فهو ينطلق من المناخات التي استلهمها من المتصوّفة، كونه نشأ في بيئة دينيّة بتونس، منحدرا من عائلة مؤذّنين، وقد تلقّى تعليمه في إحدى مدارس تحفيظ القرآن الكريم، وكانت بعض جمله اللحنيّة القائمة على مدّ الصوت مستلهمة من الأذان، فقام بمزاوجة ذلك بموسيقى الجاز، ليحلّق بفنّه في فضاءات لحنيّة جديدة، وهذا يفسّر اندماج العديد الكبير من الأجانب الذين حضروا الحفل الذي أحياه بدار الأوبرا السلطانية مسقط، رغم أنّ الكلمات التي غنّاها كانت بالعربيّة ، وقد بدأها بنسمة حلاجيّة :

مُزِجت روحك في روحي كما

تمزج الخمرة بالماء الزلال

فـإذا مسَّـك شيء مسّنــي

فإذاً أنت أنا في كلّ حـال

وعلى مدى سبعين دقيقة متواصلة، تهادى صوته، بأداء أقرب ما يكون للهمس على أنغام موسيقى صافية، على هيئة مناجاة. ضمن رحلة صوفيّة كانت المساحة المتاحة للآلات الموسيقيّة، خلالها، أوسع من غناء انساب مثل خرير الماء، وسط نغمات عود كان يمرر أصابعه على أوتاره، برشاقة، بمؤازة الغيتار ( أيفيد أرسيت)، والبيانو( إسفار نارابسكي) والباص (فيل دونكين)، والطبول( فيرينك نيميث)، وكلّ هذه الآلات كوّنت ما يعرف بموسيقى العالم(الجاز) وهو مصطلح» يطلق على مجموعة كبيرة من الموسيقى الفولكلوريّة، والقوميّة لمختلف البلدان، والشعوب التي تتخذ أشكالًا، وتعابير تمزج بين العناصر التقليدية ، والحديثة» كما جاء في تعريفها بدليل العرض، فمزج البنية النغمية لموسيقى الجاز، بالشعر الصوفي كـالحلاج ،وأبي نواس الذي خصه في عام 2010 بألبوم حمل عنوان «رابسودي أبو نوّاس»، واستفاد من جمل المتصوّفة الصوتيّة التي ترافق جلساتهم ، وحتى من أدائهم، فوقف على المسرح جسدا، بينما هامت في عوالم أخرى، وكان يتحرّك برشاقة، مع آلة العود التي يضعها على صدره تارة، وجانبا تارة أخرى، وفي لحظة اندماج ، طلب من الحضور في العشر دقائق الأخيرة من الحفل الذي تضمن عدة فقرات هي: الأرواح والظلال المتمازجة، ومتتالية قدّاس الطيور، والمرثية التأملية، والتنهد الأبدي، و،خمسة، والشعر الغريب، والأمواج الشرقية ورحلة صوفية، الوقوف، ومشاركته، كما طلب من مهندس الإضاءة إشعال الأضواء، ليخرج بالجمهور من حالة الغياب إلى الحضور الجسدي، فحوّل الحفل إلى عرض بهيج، فتعالى التصفيق الذي جعله ينساب ضمن إيقاع واحد ، بدأ عاليا،ثم خفتت حدّته شيئا،فشيئا، حتى ذاب، وتحوّل إلى صمت، لتحلّ الآلات محلّه، وعاد الجمهور إلى مقاعده، وكان بإمكانه أن يحلّق به، على المستوى الروحي، أعلى في تلك الدقائق، ليبلغ ذروة هي ما يسعى لبلوغها المتصوّفة في حلقات الذكر، لكنّه أراد أن يعيد الجمهور للواقع، وكلّ ذلك جاء في حفل موسيقي هو مسك ختام جولة فنيّة طاف بها عددا من البلدان على مدى أربع سنوات حملت عنوان «قداس الطيور»، مثلما طاف بنا في رحلة صوفيّة على أنغام الجاز.