أفكار وآراء

المدن القديمة ضحية التطرف

25 ديسمبر 2016
25 ديسمبر 2016

ليلى الشمري من العراق -

نينوى المدينة المحافظة الواقعة شمالي العراق، تردد اسمها في وسائل الإعلام بعد يونيو من عام 2014 بعد خضوعها لجماعات مسلحة معروفة، دمرت آثارها وهجّرت سكانها الأصليين هي واحدة من المدن العراقية القديمة، تتمثل العراقة ليس من خلال وجودها كحاضرة فقط، وإنما في كونها مُدنا حضارية، أسست لمفاهيم وبنى متعددة، بما يؤهلها لهجمات البرابرة ومتوّحشي العصور، ممن يدّعون التمدن والديمقراطية، وهم يمارسون أفعالا لا تمت إلى الحضارة كفكر بشيء.

ولعل نينوى كمدينة استثنائية في التاريخ عانت الكثير من الحيف ممثلا بالخراب المتعمد. فقد تأسست الموصل بعد خراب نينوى في القرن السابع قبل الميلاد. احتلها العرب سنة 641م ثم العثمانيون سنة 1638 وضُمت إلى العراق عند تأسيس الدولة سنة 1918. سكانها من العرب والأكراد والأقليات الأخرى. اكتسبت شهرتها عندما تم اختراع علم الآشوريات من قبل الباحثين الغربيين. وللآثاري (مزاحم محمود) جُهد كبير في اكتشاف (مدافن نمرود) وغيرها من الآثار النفيسة. وهو من اكتشف الغرفة الجنائزية التي أتت بالتميمة القائلة (الويل لمن يلمس أجسادنا، الويل لمن يسرق حِلينا، يموت مريضا، ولا يذهب إلى الجنّة). إن ما اكتشفه يفوق الإدراك، أكثر من ستمائة حُلية وأشياء ثمينة تشكّل كنوز الكون مدفونة في القصر الإمبراطوري وكان منشأ الذهب من مصر والفيروز من إيران. أما أنماط الحلي فهي آشورية وفينيقية ومصرية. كانت نمرود مركز العالم القديم. كذلك المُدن العراقية الأخرى، التي تعرّضت إلى الهجمة الوحشية نفسها، في التطاول على رموز حضارتها.

ولعل واحدا من الأمثلة ما تعرضت له مدينة (أور) قديما وحديثا. فقد اختير موقع المطار العسكري عمدا من أجل تخريب الزقورة بفعل تقادم الزمن. كذلك حقيقة ما هي عليه، ونقصد الزقورة وأرض أور التي لم يتم التنقيب فيها سوى على 20% الأمر الذي يفتح باب الشك على نسبة الـ( 80%) وإلى ماذا تُغيض، كذلك اكتشاف بيت النبي (إبراهيم)!! وما إلى غير ذلك من أمور تصب في التخريب ذاته الذي تتعرض إليه المُدن ذات العراقة لحضارية،عبر التطاول على وجودها الحضاري متمثلاً في رموزها الآثارية. وهذا ما تعرضت إليه مدينة الموصل.

طمس المعالم الحضارية وسرقة آثار نينوى الغرض منه القضاء على تاريخ مدينة يمتد إلى آلاف السنين، الجماعات المتشددة تعرف أين تكمن الحضارة لغرض تحطيمها. كما تمتد وحشيتها في ملاحقة الأقليات والطوائف، من سكان العراق. انهم يحملون ظلامية نفوسهم.

إن الهجمة على العرق من خلال نينوى، يعني البدء بالهدم من الرأس الممتد جسده في حضارات أخرى على طول وادي الرافدين. وللتأكيد على مثل هذا التخريج، وجدنا أن المُدن الأخرى على طول قامة العراق، ابتدأت فيها الهجمة، وما زالت متواصلة في تخريب المواقع الأثرية، والتنقيب فيها بطرق غير قانونية أو مهنية. فالمنقِب ينتمي إلى عصابة تسرق الآثار، وبإيعاز من جهات متعددة. وهم عراقيون يعرفون قيمتها الحضارية، لكنهم منساقون وراء المال، الأمر الذي يتطلب بناء وعي جديد وسريع فالذي لا يمتلك جذورًا لا يحق له التطاول على وجود غيره هكذا يُفترض أن تتربى الأجيال من خلال مناهج معدّة لذلك ... فالذي يعي وجود رموزه الوطنية، سوف لا يسمح لنفسه والآخرين المساس بتلك الرموز والعلامات الحضارية، بل يزيد من وعيها، والتعمق في أسباب وجودها وديمومتها كشاهد على ماضٍ مشرق .علينا أن نبدأ بالإنسان. إننا نعيش أزمة عقل ليس إلا. عقل قادر على إدراك ما يُمرر عليه من نوايا وإن بدت وسائل لتمرير أكثر حضارية، ونقصد التقنية المدهشة، كوسائل الاتصال والبرامج المرئية والمسموعة.

الهجمة على الإسلام بالإساءة إلى الدين جاءت من الأفكار المتطرفة ومن دون أن يعي أصحابُ «الفكر المنحرف» النتائج المترتبة على اتّباع هذا المنهج المتشدّد الغائص في ظلمات زمن استباحة الحرمات بأشكال وحجج وتأويلات غريبة عجيبة، لا بدّ من وقفة صريحة شجاعة ورافضة لمثل هذا السلوك غير الحضاريّ الذي يقوّض إرادة الإله الخالق الحقيقي الذي خصَّ الإنسانَ والبشرية باستغلال الأرض وما فيها وما عليها من أجل رفاهتِه وراحته وتفاعلِه مع جميع البشر بذات المحبة التي أحبه بها هذا الإله. وهذا يستدعي أساسًا، إرادة صلدة صارخة ترفض مثل هذا الفكر المخالف لروحية الدّين الذي يأمر بالرحمة والتسامح والمحبة، لو عادوا به في قراءة روحية معمّقة بالأخذ بروحية النصّ القرآني ودلالاتِه، إنّ ما يُسمع على رؤوس الأشهاد من خطب دينية تحريضية إقصائية تكفيرية بين الحين والآخر ضدّ مختلفين في الدين والرؤية، وما يُنشر من فتاوى بالمنهجية السلبية ذاتها من قبل أطراف تزيد من تعميق الانحراف لدى نفرٍ لا يرى أمامه غير الدائرة المغلقة في الفكر والفعل والتنفيذ، يُعدّ كارثة إنسانية لا يمكن أن تتساهل معها البشرية المجروحة إزاء الأعراف والقوانين والنظم الأخلاقية والإنسانية المعروفة. فالبشر جميعًا، خُلقوا ليتعايشوا ويتكاتفوا وينموا ويكثروا ويملأوا الأرض سلامًا وبهجة ومحبة، وليس كي يحيلوها إلى سواقٍ من دماءٍ ليسَ لنزيفها توقف ولا رحمة، بسبب البضاعة الفاسدة التي يروّج لها أصحاب الأفكار المنغلقة. فاللهُ كما نعلم، خلقَ البشر متساوين وأجازَ لهم حرية العقيدة والتفكير والإيمان الذي يكفل وصولَهم إلى سواء السبيل، كلّ على طريقته ومنهجه. ثمّ ليسَ من حقّ هذا النفر المنحرف أن يحكمَ على المختلف معه، بالكفر وإنزال ما لم يجزه الله الخالق من قتلٍ وسبي واندثار وإقصاءٍ. فهذه إنْ هي إلاّ شريعة الغاب، مثيرة للاشمئزاز، لكون هذه الفئة التكفيرية تريد العودة بالبشرية قرونًا للوراء.