شرفات

بعبارة أخرى : ما يبدو ثانوياً مهم أيضاً

12 ديسمبر 2016
12 ديسمبر 2016

د. حسن مدن -

في أحد فصول «أسئلة علم الاجتماع» يناقش بيير بورديو موضوعاً لافتاً، ويمكن القول أيضاً انه طريف، هو العلاقة بين الأزياء الراقية والثقافة الراقية. العنوان نفسه حملني على التفكير في العلاقة بين المظهر الخارجي لمن ينتجون الثقافة الراقية وبين مظهرهم الخارجي، الذي أعني به تحديداً شكل هندامهم ومقدار عنايتهم بالشكل الذي يجب أن يظهروا به أمام الآخرين، لا الملامح المعطاة لهم فطرة، كشكل أو تفاصيل وجوههم أو بنية أجسادهم.

سأقف تحديداً عند الصورة التي لا أعلم إذا كان يصح وصفها بالبوهيمية لبعض كبار الكتاب والموسيقيين والفنانين التشكيليين، من حيث عدم مبالاتهم تجاه ما يلبسون، فتكون ملابسهم رثة، وشعر رؤوسهم أشعث، ولحاهم مطلقة دون أن تهذب، وبين الرقي الذي لا جدال فيه لمنتوجاتهم الإبداعية من كتب أو مؤلفات موسيقية أو لوحات تشكيلية.. الخ.

طبعاً لا يقف الأمر في هذه الحال عند حدود المظهر الخارجي، إنما يتعداه إلى نمط الحياة الذي يعيشه هؤلاء، الذين غالباً ما أكثر ما يكونون غير مكترثين بأن يؤسسوا عائلات، وإذا حدث وإن تزوجوا فإن الخيبة هي مآل زيجاتهم، حين يخفقون في الوفاء بمتطلبات الحياة الزوجية هم الذين ألفوا نمطاً من المعيش قوامه الحرية وحتى «الفوضى».

صحيح أنه لا قاعدة هنا، فليست هذه دعوة لأن يكون المبدع غير مكترث بهندامه أو صحته، كي نقول عنه إنه مبدع، وليس كل «بوهيمي» مبدعاً، فما أكثر الأدعياء من هؤلاء، الذين ينسبون أنفسهم إلى فضاء الإبداع، وهو منهم براء. لكن ليس بوسعنا تجاهل النماذج الكثيرة من المبدعين الذين ينطبق عليهم وصف «البوهيمية»، ولا تجاهل أن كثيراً من أدعياء الثقافة والفن ممن يولون مظهرهم الخارجي كل الاهتمام، والذين يظهرون الحرص على ارتداء الملابس الأنيقة واقتناء الماركات الشهيرة، لا يقدمون إلا السطحي والهش وحتى الزائف من الإنتاج الأدبي والفني.

في نهاية المطاف فان الصعلكة في الحياة لا تستعار أو تُحاكى، إنما هي معطى فطري، بمعنى أن لدى «الصعلوك» كل القابليات لأن يكون صعلوكاً، وليس بوسعه، حتى لو أراد، أن يتمرد على ما جبل عليه، ويحاكي من يحرصون على أن يعيشوا حياة مهندمة في كل شيء.

قلت في المفتتح إن عنوان بورديو عن الأزياء الراقية والثقافة الراقية هو ما أوحى لي بالتداعيات السابقة، لكنه لم يكن يناقش في هذا الفصل ما ذهبنا إليه هنا، وإنما يناقش موضوع الموضة عامة، الذي يراه جديراً بأن يكون مبحثاً من وجهة نظر علم الاجتماع، حيث لا يوجد موضوع مهم وآخر غير مهم، فكل الموضوعات يمكن أن تكون مهمة أو العكس، حكماً من زاوية المقاربة التي نأتيها من خلالها، وهذا يحيل إلى موضوع آخر.

مضى الزمن الذي كنا نستهلك فيه السلع تلبيةً لاحتياجات معينة كالأكل والشرب والملبس والزينة. فنحن اليوم لا نستهلك السلع كسلع وانما نستهلكها كماركات مسجلة، فحين نعطش، مثلاً، نُقبل على شراب معين بعينه لا بوصفه مشروبا لذيذا فحسب، وإنما لقناعة تسربت إلى نفوسنا واستوطنتها بأن هذا المشروب، كونه ماركة معروفة، يروي الظمأ أكثر ما يفعل الماء العذب الزلال.

وحين نستخدم نوعاً معينا من الصابون ونحن نستحم، فإننا لا نستخدمه بوصفه صابوناً فقط، وإنما لانطباعٍ تشكل لدينا بأنه يجعل ملمس الجسد بعد الحمام ناعماً وعطراً أكثر مما يفعله صابون آخر لا يحظى بنفس الشهرة، أو أنه لا يحمل اسماً، فقد يكون محض صناعة منزلية بسيطة نتيجة خلطة للمواد التي منها يتكون الصابون.

وما يقال عن الصابون ينطبق على ماركة بعينها من «الشامبو» تجعل الشعر كالحرير، أو على تلك الماركة من المعجون التي تجعل الأسنان ناصعة البياض تفوح منها رائحة النعناع، أو على هاته الفرشاة بالذات دون سواها لأنها تتوغل في ثنايا الأسنان واللثة، وتنتزع منها بقية الطعام كما لا تفعل أنواع الفرشات الأخرى.

يصح الأمر كذلك على طرازٍ من السيارات نتوهم أنها دون سواها من يقتحم البراري الشاسعة ذات الكثبان الرملية ومراعي الغزلان، وقس على هذا في جميع أدوات التجهيز المنزلي وأجهزة التلفزة والفيديو والثلاجات، وأنواع الهواتف النقالة.

ظاهراً، توفر المجتمعات الحديثة حرية الاختيار، فهناك وفرة غير مسبوقة في السلع وتنوع كبير فيها، غير مسبوق أيضا، يوسع من خيارات المستهلك، لكن يمكن نفي هذه الحرية حين تفلح إحدى السلع في إقناع المستهلكين بأنها الأصلح والأجدى والأكثر فعالية، ما يؤدي إلى نفي السلع المشابهة أو تهميشها، لأنها تخلق انطباعاً لدى المستهلك بأنها الأجدر باهتمامه حتى لو كان سعرها أعلى، وفق قناعة سائدة بأن الجودة تفرض ثمناً أعلى، فالمواصفات التي يفلح منتجو ومروجو هذه السلعة في إقناع المستهلك بوجودها فيها لا تتوفر في السلع الأخرى سواء كان ذلك صحيحا أم أنه مجرد إيحاء.

ووجد أحد الباحثين في سلاسل المفاتيح التي لا تباع وإنما تُهدى للمشتري والتي تحمل شعار ماركة مسجلة ما مظهراً من مظاهر هذا النجاح في تماهي المستهلك مع السلعة التي استحوذت على رضاه.

في النتيجة هناك واقع جديد يتشكل في العالم كله، ولا ينحصر في منطقة بعينها أو قارة لوحدها، إنما يعم العالم كله، يشكل طبائع جديدة للاستهلاك لم تعهدها الأجيال السابقة التي ألفت الندرة في السلع، وكان عليها أن تجترح شتى الطرق للتغلب على تلك الندرة وتدبر أمور العيش.

وعودة إلى السؤال: هل يمكن تصنيف الأشياء والأمور في الحياة إلى صنفين: مهم وآخر غير مهم، أو حتى تافه؟

سيجاب على هذا بالإيجاب من قبل الغالبية منا، إن لم يكن منا جميعاً، فما أكثر ما نزدري الاهتمام بأمور تافهة والانصراف عن الأمور المهمة.

مع ذلك فالأمر قابل للنقاش: مَن الذي يملك الحق في تحديد ما هو المهم وما هو ليس كذلك، وقد يغدو ما ينظر إليه باستخفاف، أكان ظاهرة أو فرداً، مقرراً وفاصلاً في لحظة من اللحظات.

غاية القول إن التقسيم بين المهم وغير المهم ينطوي على درجة من النسبية، لا لأنه لا توجد قضايا مهمة بالفعل وأخرى غير مهمة بالفعل، وإنما لأن ما يحسبه فرد من الأفراد أو جماعة من الجماعات مهماً ومصيرياً لا يبدو كذلك عند أفراد آخرين أو جماعات أخرى. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن «غير المهم» ينطوي هو الآخر على ما هو مهم، علينا تقصيه فيه، حين نحوله إلى موضوعٍ للدرس.

الشمولية السياسية والفكرية، ماضياً وحاضراً، تظهر خطورة نفي النسبية في التقسيم بين المهم وغير المهم، حين توظف هذه الشمولية ما لها من نفوذ في فرض «مُهم» واحد على المجتمع كله، حين تقرر أن ما تراه هي مهماً يجب أن يكون مهماً عند الجميع، وهي في ذلك لا تقف عند حدود تجاهل القضايا والاهتمامات والأفكار التي يراها الآخرون مهمة، وإنما لا تتورع عن محاصرتها، وحتى سحقها.

الإقرار بنسبية المهم وغير المهم هو من سمات قبول التعددية الفكرية والمجتمعية، ما يتيح لكافة الرؤى والأفكار أن تتعايش على الأرض نفسها، ولا بأس لو خاضت مباراة المفاضلة فيما بينها، عملاً بالقاعدة القائلة: البقاء للأفضل، حتى ولو احتاج الأمر إلى زمن طويل وخبرات متراكمة حتى يقتنع الناس، وعبر تجربتهم المباشرة، ما هو الأفضل حقيقة، شرط منح الأفكار والرؤى المتضادة درجة متكافئة من حرية الإفصاح عن نفسها، وتحريرها من سيف شيء ما اسمه «المهم» يُملى عليها من أعلى.