أفكار وآراء

الكفاءة وحدها لا تكفي لقيادة الأمم المتحدة

10 ديسمبر 2016
10 ديسمبر 2016

د. عبدالعاطي محمد -

إن الطبيعة الخاصة لوظيفة الأمين العام للأمم المتحدة تفرض عليه في حد ذاتها بعض القيود التي تجعله بمثابة من يتحرك في حقل من الألغام أو يسير على حد السيف.! فمن يقرأ ميثاق المنظمة الدولية لا يجد مادة أو أكثر تتعلق بمهمته.

مع بداية عام 2017 يتسلم أنطونيو جويتريش مهام منصبه أمينا عاما للأمم المتحدة خلفا لبان كي مون. وكالعادة فإن الأنظار تتجه للقادم الجديد يحدوها الأمل في أن يحقق الرجل أهداف المنظمة الدولية في تحقيق السلم والأمن الدوليين والتنمية المستدامة للعالم أجمع. ولكن الآمال لا يجب أن تنطلق من فراغ، وإنما من وقائع، ولذلك فإن دور الأمين العام الجديد مثل كل الأمناء الثمانية الذين سبقوه مرتبط بما يجمعه من نقاط على صعيد سماته الشخصية وقدراته على القيادة من ناحية، ودرجة تعاون الدول الكبرى معه من ناحية أخرى.

لقد أحيطت عملية انتخاب جويتريش (من البرتغال)، كتاسع أمين عام للأمم المتحدة، بقدر واضح من الترحيب، ليس فقط من جانب أغلبية كبيرة من المجتمع الدولي ممثلا في الجمعية العامة (192 دولة)، وإنما بالأساس من جانب الدول الخمس الكبرى صاحبة حق الفيتو في مجلس الأمن الذي هو الجهة المخولة بترشيحه قبل التصويت على انتخابه في الجمعية العامة. حدث ذلك برغم وجود منافسين أقوياء كثر، ورغبة النشطاء في أن يتولى المنصب هذه المرة امرأة أو شخص من شرق أوروبا. وتمت العملية بسلاسة على غير ما حدث من قبل سواء مع بطرس بطرس غالي أو كوفي عنان أو بان كي مون، حيث كثيرا ما كانت تنشب الخلافات بين الدول حول أحقية منطقة ما سواء آسيا أو إفريقيا أو أمريكا الجنوبية في المنصب وعدم احتكاره على أوروبا الغربية، وهو ما حدث في حالة هؤلاء.

هذه المرة اختفى هذا التعنت إن جاز التعبير وغض الجميع البصر عنه وكأنه كان أمرا ليس ذا قيمة في عملية إسناد المنصب الرفيع لشخص دون غيره. اتضح أن المعيار الجغرافي في تبادل تولي المنصب ليس هو المعيار الأنسب، وإنما الكفاءة هي الأساس. وقد انطبق هذا الشرط على جويتريش إلى حد كبير.

فالرجل صاحب الـ67 عاما شغل من قبل منصب رئيس وزراء بلاده البرتغال بين عامي 1995 و2002 ويتقن الأسبانية والإنجليزية والفرنسية بطلاقة إلى جانب لغته الوطنية البرتغالية. وبعد ذلك تولى منصب مفوض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين بين عامي 2005 و2015، وهي فترة عصيبة شهدت انفجارا في أزمات اللاجئين لم يسبق لها مثيل بسبب الأوضاع المتردية في سوريا والعراق وأفغانستان وبعض الدول الإفريقية. وقد ارتبطت هذه الفترة بتدفق الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا الغربية بكل ما سببته لها من أزمات. وقد أبدى الرجل أداء مميزا في مهمة إنسانية صعبة كهذه شهد بها الجميع بمن فيهم الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن. وأفادته المهمة في التعرف عن قرب على أداء الأمم المتحدة كأكبر منظمة عالمية، فضلا عن بناء علاقات قوية مع الدول الكبرى وكبار المسؤولين في المنظمة الدولية.

وقد حظي الرجل بإشادة عالمية واضحة وقت إعلان فوزه بالمنصب ظهرت جلية من كلمات ممثلي الدول الخمس الكبرى في مجلس الأمن. ولكن الإشادة ذات المعنى بهذا الخصوص وجاءت معبرة عن حيثيات انتخابه وردت على لسان بان كي مون نفسه حيث قال: «على جبهات الصراعات المسلحة والمعاناة الإنسانية - لطالما قدرت نصائحه وأعجبت بروحه للعمل، إن مواهبه السياسية هي تلك المناسبة للأمم المتحدة.. التعاون من أجل المصلحة العامة، والمشاركة في المسؤولية فيما يخص الشعوب والكوكب».

الإشادة بالقادم الجديد إلى المبنى الزجاجي العتيق في نيويورك سواء من سلفه بان كي مون أو من ممثلي الدول الخمس الكبرى في مجلس الأمن ركزت على معيار الكفاءة للمنصب سواء من حيث وجود رؤية أو قدرات مميزة على القيادة الإدارية أو الدبلوماسية أو السياسية، أو الإصلاح والابتكار، فضلا عن المرجعية الأخلاقية والإنسانية.

أي أنه باختصار الرجل المناسب في المكان المناسب. وللحق فإن المتابعين لشؤون الأمم المتحدة لم يلحظوا شيئا بهذا الحجم من الإشادة والتفصيل في أسباب الانتخاب بالنسبة لمن سبقوه بدءا من تريجفي لي أول أمين عام (1946-1952) وصولا إلى بان كي مون (2007-2016)، حيث غالبا ما كانت هناك تحفظات على هذا أو ذاك.

ولكن توافر القدرات في شخصية أنطونيو جويتريش للاضطلاع بقيادة الأمم المتحدة وتميزه من هذه الزاوية قياسا مع كثيرين ممن سبقوه، إلا أن الشق الثاني من المعادلة التي تحكم دور الأمين العام، وهو مدى تعاون الدول الكبرى معه لاشك أنه موضع جدل ومناقشة ولا يبشر بأن مهمة الرجل ستكون سهلة أو أنه سيحدث اختراقا تاريخيا يسجل له فيما يتعلق بتغيير صورة المنظمة الدولية إلى الحالة المنشودة.

بداية فإن الطبيعة الخاصة لوظيفة الأمين العام للأمم المتحدة تفرض عليه في حد ذاتها بعض القيود التي تجعله بمثابة من يتحرك في حقل من الألغام أو يسير على حد السيف.! فمن يقرأ ميثاق المنظمة الدولية لا يجد مادة أو أكثر تتعلق بمهمته. فقط يجد البند الثاني من المادة الثانية عشرة (الفصل الرابع المختص بالجمعية العامة) الذي يشير إلى أن الأمين العام يخطر ـ بموافقة مجلس الأمن- الجمعية العامة في كل دور انعقاد بكل المسائل المتصلة بحفظ السلم والأمن الدولي التي تكون محل نظر مجلس الأمن أو يخطر بالانتهاء منها. وهي مادة إجرائية كما هو واضح ولا تتعلق من قريب أو بعيد بما نقصده بوظيفة الأمين العام. ورغم ذلك التجهيل، فإن وثائق مكتب الأمين العام تتحدث عن هذه الوظيفة بوصفه المسؤول الإداري الأول للمنظمة، وهكذا له أن يعين مبعوثا له لأزمة ما على سبيل المثال. ولكنه بالقطع وفقا لما هو معروف عن تاريخ المنظمة شخصية دبلوماسية وسياسية على أعلى مستوى عالميا ويتم التعامل معه بمصاف رؤساء العالم. هو عمليا رمز المجتمع الدولي وبمقتضى هذه الوضعية يتحرك ويتصرف ليل نهار ضمن أهداف الأمم المتحدة ولتحركاته ومبادراته وزنها وتأثيرها الدولي الذي لا يمكن إغفاله.

ولكن للعملة وجهها الآخر المناقض تماما لذلك، فهو أيضا وبنفس الدرجة خادم للعالم أو منفذ لما يتقرر من الأمم المتحدة. ولذلك فإن الأمين العام للأمم المتحدة له مرجعيتان كل منهما يناقض الآخر، فمن ناحية هو قيادة سياسية مؤثرة، ومن ناحية أخرى هو سكرتير للمجتمع الدولي وهذا الوصف هو المعنى الحقيقي لوظيفته وليس تعبير الأمين العام الذي يوحي دائما بأنه صاحب سلطات تنفيذية تعلو فوق سلطات رؤساء الدول. هكذا تكون للرجل مساعيه الحميدة لحل أزمة ما أو قيامه بما يسمى الدبلوماسية الوقائية، ولكنه لا يملك القدرة على التنفيذ إلا بموافقة الدول!.

ومن جهة أخرى فإن الوضع الدولي الراهن والذي يتسم بالصراع الصريح والمستتر بين الدول الكبرى الخمس في مجلس الأمن وبروز أدوار دول إقليمية عديدة تتحدى الكبار لا يشير إلى أن تعاون الدول الكبرى مع الأمين العام الجديد ممكن. يكفي الإشارة إلى الموقف العدائي الصريح للأمم المتحدة من جانب دونالد ترامب القادم الجديد إلى البيت الأبيض، مع الأخذ في الاعتبار أن الولايات المتحدة هي صاحبة النصيب الأكبر في تمويل ميزانية المنظمة الدولية (22%).

وبافتراض أن ترامب سيحسن علاقات بلاده مع روسيا وفقا لما أشارت إليه خطاباته في حملته الانتخابية، بما يرجح أن ينعكس ذلك في تحسن تعاون القوتين الكبيرتين مع الأمين العام الجديد للأمم المتحدة، إلا أن الأرجح هو اتفاق كل من روسيا والولايات المتحدة على العمل المشترك دوليا خارج نطاق الأمم المتحدة وليس داخلها.

ويضاف إلى ذلك أن أوروبا منقسمة على نفسها وعلاقاتها ليست طيبة مع روسيا، وهكذا من الصعب التنبؤ بأن دولا مثل فرنسا وبريطانيا مستعدتان للم شمل القوى الخمس في مجلس الأمن. لن يتعجلا الدفع إلى التعاون داخل المنظمة الدولية في أفضل الأحوال. ما يزيد المشهد صعوبة هو أن الصين لا تزال حذرة ومتوجسة من حالة الوضع الدولي. وإذا أضيف لذلك قدرات دول مثل تركيا وإيران والهند وجنوب إفريقيا على التحرك المستقل تتضاءل فرص التعاون.

لدينا إذن أمين عام جديد للأمم المتحدة تتوافر فيه معايير الكفاءة وبالقطع مفعم بالحماسة والتفاؤل مثل كل من سبقوه، ولدينا الإجماع من الدول الكبرى عليه، ولكن بالمقابل لدينا وضع دولي لا يشير إلى رغبة جادة في التعاون معه. وعليه فإنه يواجه مهمة شاقة للغاية، وإذا أراد أن يحقق شخصيته فحتما سيصطدم بالخمس الكبار ووقتها يلقى نفس مصير بطرس بطرس غالي. ولأن التجربة القديمة ليست بعيدة عن ذاكرته ولأن المشهد الراهن ساخن ومكفهر تبقى فرص الرجل محدودة انتظارا لانفراج الوضع الدولي.