أفكار وآراء

الموصل .... بارقة أمل

10 ديسمبر 2016
10 ديسمبر 2016

د. داخل حسن جريو -

عضو المجمع العلمي العراقي -

[email protected] -

معظم أفراد عصابات داعش محسوبين على طائفة السنة العرب، وبرغم أن أعمال داعش الإرهابية لم تستثن السنة العرب من بطشها، إلاّ أن أعمال داعش قد زعزعت الثقة بين مكونات محافظة نينوى وسببت حقدا وكراهية ليس ضد داعش فحسب، بل وضد الرغبة بالتعايش مع السنة العرب مستقبلا.

يتوهم كثيرا من يعتقد أن معركة تحرير الموصل من براثن عصابات داعش الإرهابية ، أنها ستكون معركة سهلة تنتهي بدحر هذه العصابات عسكريا ، بعد أن توفر لها كل أسباب النجاح العسكري من عدة وعتاد ودعم لوجستي دولي ، وهو أمر ممكن عسكريا، كما تشير وقائع المعارك حتى الآن ، إلاّ أن النصر العسكري وحده لا يكفي للقضاء على الإرهابيين وفكرهم المتطرف ، وبناء عراق قوي آمن ومستقر ومتعايش مع نفسه ومحيطه الإقليمي والدولي ، ما لم يصاحب ذلك برنامج إصلاح سياسي واضح المعالم لاجتثاث التطرف الديني وخطابه المتشدد بكل أشكاله وأنواعه.

يأخذ هذا البرنامج في الاعتبار واقع العراق السياسي في ضوء ما أفرزه غزو العراق واحتلاله عام 2003 ، وما آلت إليه أوضاعه من تدهور وخراب طال كل مفاصل الحياة ، وبخاصة تفشي الفساد والمحسوبية والمنسوبية وشيوع المفاهيم العشائرية البالية وتجهيل الناس عبر أساليب الدجل والشعوذة ، وتفكيك منظومته الأخلاقية وقيمها المجتمعية ، والعودة به إلى عصور ما قبل تأسيس الدولة العراقية الحديثة. واجتثاث التطرف بصرف النظر عن دوافعه ومبرراته ، دون تميز بين طرف وآخر ، وتجريم مروجيه تصريحا أو تلميحا. ويتوهم من يعتقد أن التطرف الديني ينحصر بدين أو طائفة أو قومية معينة .

لذا لا يصح تحميل أتباع هذا الدين أو تلك الطائفة أو القومية مسؤولية ما يقترفه بعض أبنائها من أعمال إرهابية مروعة بحق أبناء الديانات والطوائف والقوميات الأخرى تحت أي مبرر أو مسوغ ، كما حصل مؤخرا في مدينة قره تبه بمحافظة كركوك ، حيث هجرت بعض العوائل العربية من سكانها وهدمت مساكنها وحرمت من موارد رزقها من قبل قوات البيشمركة الكردية ، لتهيم على وجهها في البراري دون مأوى وفصل الشتاء على الأبواب ، بدعوى إيوائها الجماعات الإرهابية التي هاجمت مدينة كركوك واحتلت بعض مبانيها الحكومية لبعض الوقت مؤخرا .

وما زالت فصول مأساة هذه العوائل قائمة حتى الآن دون أن يحرك أحد ساكنا. ونأمل أن لا تتكرر هذه المأساة في الموصل تحت أية ذريعة أو لأي سبب كان.

يتخذ التطرف الديني أشكالا وألوانا شتى ، وقد يتستر بشعارات براقة ، ظاهرها الحرص على الدين والمذهب وباطنها تهديم النسيج الاجتماعي للشعب العراقي بدعاوى شتى، تارة بدعوى التهميش وأخرى بالمظلومية أو بالتفويض الشرعي وما إلى ذلك. وقد تحركه قوى إقليمية ودولية في السر والعلن لخدمة مصالحها دون أي اكتراث لما ينجم عنه من إزهاق آلاف الأرواح العراقية البريئة وتدمير كل مقومات الحياة الإنسانية ، كي لا يعود العراق بلدا قويا معافى يحسب له حساب في المنطقة والعالم ، وبخاصة أن العراق يمتلك كل أسباب القوة التي يمكن أن تجعل منه بلدا مقتدرا ومزدهرا ، متمثلة بموارد بشرية متعلمة وثروات طبيعية هائلة وأراض زراعية خصبة ومياه وفيرة ، وفوق هذا وذاك يقع العراق في قلب منطقة الشرق الأوسط مما يؤهله أن يكون نقطة الوصل الاستراتيجية بين دول آسيا وأوروبا .

والأدهى من ذلك تتباكى بعض هذه الدول التي أسهمت بغزو العراق وتدميره منذ العام 2003 ، على ما آل إليه حال الشعب العراقي ، فماذا كانت النتيجة ؟ تدمير العراق دولة وحكومة وشعبا ، ما زالت فصولها المأساوية مستمرة حتى يومنا هذا.

دلت الوقائع التاريخية قديمها وحديثها على أن تحرير الشعوب لا يتم إلاّ بفضل تضحيات شعوبها ، وأن عملية التحرير ليست بضاعة تباع وتشترى أو هدية يقدمها لها الآخرون أيا كانت أغراضهم ونوياهم . ولعل ما حصل ويحصل الآن في سوريا وليبيا واليمن ، إلاّ خير دليل على ما حل بهذه البلدان من خراب ودمار جراء التدخل الإقليمي والدولي بشؤون هذه البلدان ، واتكاء بعض سياسييها على هذا البلد أو ذاك في إطار فرية ما أطلقوا عليه بالربيع العربي.

وكما تتوجه الآن كل البنادق صوب عصابات داعش الإرهابية لتحرير الأراضي التي دنستها تلك العصابات ، حيث امتزجت دماء العراقيين بعربهم وكردهم وتركمانييهم وسائر قومياتهم من مسلمين ومسيحيين بمختلف طوائفهم فداء للوطن كي تبقى راية العراق عالية خفاقة ، فكان النصر حليفهم بتحرير الكثير من مدن العراق ، وستتحرر محافظة نينوى في القريب العاجل إن شاء الله بفضل سواعد العراقيين الغيارى وهمتهم .

لذا ينبغي أن تتطهر كل القلوب من عقد الماضي وأدرانه لتتخلص من كل أشكال الحقد والكراهية ، وأن تتوجه العقول لبناء عراق حر ومستقر ، آمن ومزدهر ينعم فيه الجميع بالحرية والعيش الكريم والمساواة بين كل أبنائه في الحقوق والواجبات .

ولا تكفي التمنيات لتحقيق ذلك ما لم تترجم هذه الأماني إلى برنامج عمل وطني تتبناه القوى المجتمعية الفاعلة في العراق ، وقد يكون تحرير محافظة نينوى منطلقا مناسبا لتحقيق ذلك ، إذ تضم محافظة نينوى جميع القوميات والأديان والطوائف بحجوم مختلفة ، وحصل بينها ما حصل في الماضي والحاضر، انعكس سلبا فيما بين هذه المكونات في الكثير من الآحيان ، مما جعل منها فريسة سهلة افترستها عصابات داعش، لتدق آسفين بين هذه المكونات بارتكابها فظائع ضد معظم المكونات وبخاصة الأيزيديين والمسيحيين والشبك.

ولأن معظم أفراد عصابات داعش محسوبون على طائفة السنة العرب، وبرغم أن أعمال داعش الإرهابية لم تستثن السنة العرب من بطشها، إلاّ أن أعمال داعش قد زعزعت الثقة بين مكونات محافظة نينوى وسببت حقدا وكراهية ليس ضد داعش فحسب ، بل وضد الرغبة بالتعايش مع السنة العرب مستقبلا ، وهذا ما شهدته بعض قرى ومدن سهل نينوى ضد القبائل العربية من أبناء هذه المدن من قتل وتهجير وسلب بعض ممتلكاتها من قبل الجماعات المسلحة التي تمكنت من طرد عصابات داعش من هذه المناطق بفضل الغطاء الجوي لقوات التحالف الدولي. بحسب تقارير منظمة العفو الدولية ، بدعوى تعاونهم مع تلك العصابات ، مما يتطلب التدخل الحكومي الفوري لوضع حد لهكذا ممارسات قبل أن يستفحل أمرها في ضوء توقع اشتداد المعارك في الأيام القادمة عند دخول القوات المسلحة إلى مركز مدينة الموصل ، حيث يتوقع حصول عمليات تصفية حسابات دامية من قبل الجماعات التي تضررت من عصابات داعش بحق من تعاونوا مع هذه العصابات من سكان قرى ومدن محافظة نينوى ، فضلا عن محاولات قد يلجأ إليها آخرون لملء الفراغ الأمني والإداري في أعقاب عملية التحرير لاسيما في المناطق المختلطة التي يطلق عليها بالمناطق المتنازع عليها بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان ، وفرض أمر واقع تمهيدا لأية حلول قد يتم التفاوض بشأنها لتحديد مصيرها وجهة ارتباطها لاحقا.

وعلى العموم نرى أن الوضع العام في محافظة نينوى يستلزم توخي أقصى درجات الحذر بالتعامل مع سكانها والعمل على طمأنة الجميع أن القانون سيأخذ مجراه بحق كل من أساء بالقول أو الفعل بانتهاك الأعراض وسلب الممتلكات وازدراء الآخرين وسبي واغتصاب النساء ، بما يحفظ كرامة الجميع وإعادة حقوقهم ، فضلا عن محاسبة جميع المسؤولين العسكريين والمدنيين الذين تسببوا بسقوط محافظة نينوى بأيدي عصابات داعش ، وما تكبده العراق من خسائر بشرية ومادية هائلة ، ويفضل أن يتم ذلك عبر محكمة دولية على غرار المحكمة الدولية التي شكلت لمحاكمة الجرائم التي ارتكبت أبان الحرب الأهلية في البوسنة والهرسك في عقد التسعينات من القرن المنصرم ، وبذلك يمكن ضمان عدالة المحكمة ونزاهتها وطمأنة الجميع على حياتهم ومستقبلهم .

ونظرا لتعقد الموقف وتضارب المصالح ومداخلات قوى خارجية في شؤون محافظة نينوى ، وهشاشة وضعها الأمني ، وعدم بلورة موقف وطني موحد بكيفية إدارتها في أعقاب تحريرها ، فإنه يكون مناسبا إدارتها من قبل الحكومة المركزية، بمساعدة إدارة مدنية من أبناء المحافظة، من ذوي الخبرة والاختصاص لمدة معينة ، للعمل على استتباب الأمن وإعادة إعمار المحافظة وضمان عدم طغيان جهة على أخرى وترتيب الأوضاع لصالحها على حساب مصالح الآخرين.

وتبقى ثمة بارقة أمل أن يفضي تحرير الموصل بعد أن امتزجت دماء العراقيين من العرب والأكراد وسائر القوميات من مختلف الأديان والطوائف لتحرير محافظة نينوى من براثن الإرهاب الذي عاث في الأرض فسادا ، ليعم الأمن والآمان في كل ربوع العراق ، ليعود قويا معافى بإذن الله. وبذلك ينصف كل من لحق به حيف ويقتص من كل من أجرم بحق العراق والعراقيين .