856922
856922
المنوعات

هذا أخطر وقت على كوكبنا

04 ديسمبر 2016
04 ديسمبر 2016

ستيفن هاوكينج -

ترجمة: أحمد شافعي -

بوصفي فيزيائيا نظريا مقيما في كمبريدج، فقد عشت حياتي في فقاعة امتيازات استثنائية. ذلك أن كمبريدج بلدة استثنائية تتركز حول إحدى أعظم جامعات العالم. وفي تلك البلدة يمثل الوسط العلمي الذي بت جزءا منه منذ العشرينيات من عمري شيئا أكثر ندرة.

وفي ذلك الوسط العلمي مجموعة صغيرة من الفيزيائيين النظريين الذين قضيت معهم حياتي العملية، ولعل هذه المجموعة تعد نفسها ذروة الوسط العلمي في البلدة. فضلا عن هذا، ومع الاحتفاء الذي حظيت به كتبي، والعزلة التي فرضها عليّ المرض، أشعر أن برجي العاجي يزداد علوا.

ومن هنا فإن الرفض البادي للنخب العلمية في كل من أمريكا وبريطانيا موجِّه ولا شك إليّ، بقدر ما هو موجّه إلى أي أحد سواي. فمهما يكن ظننا في قرار الناخبين البريطانيين برفض عضوية الاتحاد الأوروبي وقرار الشعب الأمريكي القبول بدونالد ترامب رئيسا قادما له، ما من شك في نظر المعلقين بأن هذه صرخة غضب من الناس الذين شعروا أن قياداتهم قد تخلت عنهم.

ويبدو أن الجميع متفقون على أن هذه هي اللحظة التي نطق فيها المنسيون وعثروا على أصواتهم فرفضوا النصح والإرشاد من الخبراء والنخبة أينما هم.

ولست استثناء من هذه القاعدة. لقد حذرت قبل تصويت خروج بريطانيا من أن ذلك من شأنه أن يدمر البحث العلمي في بريطانيا، وأن من شأن التصويت بالخروج أن يكون خطوة إلى الوراء، ولكن الناخبين ـ أو نسبة كبيرة منهم بالقدر الكافي ـ لم تحفل بكلامي مثلما لم تحفل بكلام الزعامات السياسية والنقابات المهنية والفنانين والعلماء ورجال الأعمال والمشاهير ممن قدموا نصيحة مماثلة لبقية البلد.

والمهم الآن ـ بغض النظر عن الخيارات التي آثرها الناخبون هنا وهناك ـ هو رد فعل النخب. فهل يجدر بنا في المقابل أن نرفض هذين التصويتين ونعدهما فيضا من الشعبوية لم يتحل أصحابها بالمسؤولية تجاه الحقائق أو نسعى إلى الالتفاف على هذه الخيارات أو الحد منها؟ رأيي أن هذه سوف تكون غلطة جسيمة.

إن الهموم الكامنة وراء هذين التصويتين في ما يتعلق بالعواقب الاقتصادية للعولمة وتسارع التغير التكنولوجي مفهومة إلى أقصى حد ممكن. فأتمتة automation المصانع [أي إدارتها أوتوماتيكيا لا بشريا قد قلَّصت الوظائف القليلة أساسا في مجال التصنيع التقليدي، والراجح أن صعود الذكاء الاصطناعي سوف يوسّع هذا التدمير للوظائف فيشمل أعماق الطبقة الوسطى بحيث لا يبقي إلا على أكثر الوظائف احتياجا إلى الاعتناء أو الإبداع أو الإشراف.

وبدوره سوف يسرّع هذا الأمر من التفاوت الاقتصادي المتسع أصلا في شتى أرجاء العالم. فالإنترنت بما تتيحه من منابر ومنصات تتيح لمجموعات صغيرة جدا من البشر أن تحقق أرباحا هائلة مع توظيفها عددا قليلا من البشر. وهذا حتمي، فهذا هو التقدم، ولكن هذا في الوقت نفسه مدمِّر.

نحن بحاجة إلى أن نضع هذا بجانب الأزمة المالية، التي أقنعت الناس أن قليلا من العاملين في القطاع التمويلي قد يحققون أرباحا طائلة في حين يضمن بقيتنا لهم هذا النجاح ويدفعون فاتورة الجشع الذي أضلنا جميعا. فبالنظر إلى الأمرين مجتمعين، نرى أننا نعيش عالما يتسع فيه التفاوت المالي بدلا من أن يتضاءل، ولا يرى أهله فقط تلاشي مستواهم المعيشي، بل وتلاشي مجرد قدرتهم على كسب لقمة عيشهم نفسها. فلا عجب إذن أن يبحثوا بأنفسهم عن صفقة جديدة ربما يكون خروج بريطانيا وترامب ممثلين لها.

فضلا عن أنه من العواقب غير المقصودة للانتشار العالمي للإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي أن أصبحت هذه التفاوتات بطبيعتها الصارخة أوضح مما كانت عليه من ذي قبل. وإنني أرى أن القدرة على استعمال التكنولوجيا في التواصل تجربة تحرير إيجابية، فبدونها ما كان لشخص مثلي أن يتمكن من العمل طوال السنين الكثيرة الماضية.

ولكنه يعني أيضا أن حياة أثرى الناس في أرقى أماكن العالم باتت ـ على نحو مؤلم ـ مشهودة من الجميع الذين يمتلكون هواتف ـ بغض النظر عن مبلغ فقرهم. وبما أن لدينا الآن ممن يمتلكون الهواتف أكثر ممن يمتلكون المياه النظيفة في أفريقا ما دون الصحراء، فمعنى هذا أن الجميع تقريبا في كوكبنا المزدحم لن يكونوا قادرين على الهروب من التفاوت عما قريب.

وعواقب هذا واضحة للعيان: أن تنزح أسراب الفقراء القرويين إلى المدن والبلدات الصغيرة مدفوعين بالأمل. ثم يرون بعد ذلك ـ في أغلب الحالات ـ أن نيرفانا الإنستجرام غير متاحة حيث يعيشون فيبحثون عنها في بلاد أخرى لينضموا إلى الأعداد المتزايدة من المهاجرين الاقتصاديين بحثا عن حياة أفضل. ويضع هؤلاء المهاجرون بدورهم مطالب جديدة أمام البنى الأساسية واقتصادات الدول التي يصلون إليها، فيأتون على التسامح ويضعون مزيدا من الحطب في نيران الشعبوية السياسية المتقدة.

الجانب الذي أراه جديرا حقا بالاهتمام في هذا الأمر كله هو أن سلالتنا أحوج الآن ـ منها في أي وقت مضى من تاريخنا ـ إلى أن تعمل مجتمعة. فنحن نواجه تحديات بيئية رهيبة: في التغير المناخي وإنتاج الطعام وارتفاع عدد السكان وتراجع أعداد سلالات أخرى وأمراض وبائية وتحمُّض acidification المحيطات.

وهذه الأمور مجتمعةً تذكِّرنا أننا نعيش أخطر لحظة في تطور الإنسانية. فلدينا الآن التكنولوجيا اللازمة لتدمير الكوكب الذي نعيش عليه، لكننا لم ننشئ بعد القدرة على الفرار من دماره. ولعلنا في غضون مئات قليلة من السنين نقيم مستعمرات بشرية وسط النجوم، أما الآن فليس لدينا إلا كوكب واحد، وعلينا أن نعمل مجتمعين من أجل حمايته.

ولكي نفعل ذلك، علينا أن نكسر ـ لا أن نقيم ـ الحواجز بين الأمم. ولو أن لدينا فرصة لهذا فعلى زعماء العالم أن يعترفوا أنهم فشلوا وخذلوا الكثيرين. فبازدياد تركز الموارد في أيدي القلة، سيكون لزاما علينا أن نتعلم كيف نتشارك في الوقت الراهن.

وفي ظل اختفاء صناعات كاملة لا وظائف وحسب، لا بد أن نساعد الناس على إعادة التدرب من أجل عالم جديد وأن ندعمهم ماليا وهم يفعلون ذلك. وإذا لم تستطع المجتمعات والاقتصادات مجاراة مستويات الهجرة الحالية، فلا بد أن نفعل المزيد من أجل تشجيع التنمية العالمية فهذا هو السبيل الوحيد الكفيل بإقناع ملايين المهاجرين أن يبحثوا عن مستقبلهم في أوطانهم.

إن بوسعنا أن نفعل ذلك، ولدي قدر هائل من التفاؤل في ما يتعلق بسلالتي، ولكن هذا يقتضي من النخب ـ من لندن إلى هارفرد، ومن كمبريدج إلى هوليود ـ أن تتعلم دروس العام الماضي. وأن تتعلم قبل كل شيء فضيلة التواضع.

عن جارديان