أعمدة

فنانان من مصر

04 ديسمبر 2016
04 ديسمبر 2016

يوسف القعيد -

عندما سافر عادل إمام إلى تونس لحضور فعالية فنية هناك. فوجئ – أو ربما كان يعرف – أن وزير ثقافة تونس كان في استقباله في المطار. وأن الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، كان في استقباله ومنحه أرفع وسام تونسي. وهو ما لم يحدث لعادل إمام في مصر. بل إنني ألاحظ رغم تاريخ عادل إمام ومنجزه الفني الذي لا يقال أهمية عن غيره. فإن موقف الصحافة المصرية منه يمكن وصفه بأنه غير كريم.

ربما كان هناك من نقاد السينما والتليفزيون من تخصصوا في الهجوم على عادل إمام، ويجدون لذة كاملة في ممارسة «السادية» التي يتمتعون بها. مستفيدين من أن عادل إمام لا يرد على منتقديه ولا يهتم بمهاجميه. بل يلتزم الصمت تجاه مثل هذه التصرفات الصبيانية.

تونس ليست الآخر بالنسبة لنا. التوانسة أشقاؤنا ونحن وهم نكمل بعضنا بعضاً. وما جرى لعادل إمام في تونس كأنه جرى له في مصر. بل ربما كان مطلوباً منا في مصر أن نفكر في تكريم عادل إمام. ليس تقليداً لتونس، ولكن لأن عادل إمام بعطائه الفني يستحق هذا التكريم.

آخر مرة رأيت فيها عادل إمام أوشك أن يمضي عليها عام الآن. كان ذلك في ليلة عزاء المرحوم الأستاذ محمد حسنين هيكل، في مسجد عمر مكرم بقلب القاهرة. كان ذلك في منتصف فبراير من هذا العام. وفي منتصف فبراير القادم 2017 يكمل الأستاذ هيكل عاماً على رحيله عن الدنيا. مع أنني لدي يقين خاص أن الرجل ما زال معنا. وأن كل ما يجرى مصرياً وعربياً وعالميا يؤكد صواب رؤيته ودقة تحليله وبعد نظره.

يومها انتظرت الكاميرات بعدد كبير جداً عادل إمام عند المكان الذي ستتوقف فيه سيارته. ولم يتركوه لحظة واحدة منذ أن دخل يقدم العزاء لأسرة هيكل. الدكتور علي هيكل، الدكتور أحمد هيكل، الدكتور حسن هيكل. ثم جلس في أقرب مكان. ورغم جلال الموت وقدسية العزاء. إلا أن الكاميرات حاصرته أثناء جلوسه حتى انصرف من المكان.

المشاهير الذين كانوا يقدمون العزاء في هيكل – وما أكثرهم – شعروا بضيق حقيقي من كل هذا الاهتمام بعادل إمام والتركيز عليه. والتقاط كل سكنة وهمسة ونأمة تصرف بها عادل إمام خلال الوقت الذي قضاه في عزاء الأستاذ هيكل. وكان هيكل يعرف عادل إمام ويقدر فنه. وكانا يلتقيان في مناسبات كثيرة. بل عندما تقرر أن يتم تصوير فيلم عن هيكل في عيد ميلاده الثمانين. شارك عادل إمام بشهادة مهمة طلب عادل إمام من القناة التليفزيونية التي كانت تنفذ الفيلم أن أذهب معهم وأن أكون حاضراً لتصوير شهادته. وقد ذهبت إليه في مسرح الزعيم بشارع الهرم. وبقيت حتى انتهى من تسجيل شهادته.

هذا الموقف المصري من عادل إمام. هل سببه أن زامر الحي لا يطرب؟ ربما. فموقف النخبة المصرية من الذين تصيبهم الشهرة من أبنائهم يكون مزدوجاً ومركباً. وربما بالغ الغرابة. ويقدمون على تصرفات لا يمكن الدفاع عنها أو فهمها أو استيعابها تجاههم.

لا أدري ما الذي يربط بين هذا الكلام وبين الطريقة التي ودعت مصر بها محمود عبد العزيز. أنا قلق من الربط بينه وبين عادل إمام في مقال واحد. ولكن تجاور الظاهرتين دفعني لتناولهما. فأنا أحب عادل إمام وأتمنى له طول العمر. وأن يعبر المائة من عمره. لكن التجاور الزمني في المناسبتين هو الذي حكم علي بذلك. وثمة سبب آخر للربط بينهما سيرد في متن هذا المقال.

المرحوم محمود عبد العزيز طال مرضه. بل إنه كان مريضاً ببصره. وكان دائماً يرتدي نظارة سوداء شديدة السواد حتى في الليل. لأن بصره كان يتأثر بأي ضوء. حتى لو كان ضوءاً ليلياً. ثم دخل في سلسلة من الأمراض الأخرى. وتعاملنا مع مرضه باعتباره من الأمور العادية. قلة كانوا يسألون عنه. وقلة أشد كانوا يتابعون مرضه. ولكن لم يفكر أحد في الكتابة عنه إلا بعد وفاته.

طوفان من الكتابات ملأت الصحف المصرية كلها. لا أقول صفحات كاملة. ولكن ملاحق مكونة من عدد كبير من الصفحات. كلها تدور حول محمود عبد العزيز. والجميع يتكلم عنه انطلاقاً من الحكمة العربية القديمة: اذكروا محاسن موتاكم. وأنا أعرف محمود عبد العزيز وكل من تحدثوا عنه. وسبق أن سمعتهم يتكلمون عنه في حياته. وأقول بصراحة إن ما قالوه عنه بعد رحيله شديد الاختلاف عما كانوا يقولونه عنه في حياته.

لن أدخل في سرداب الحكايات القديمة ولا الحكايات الجديدة. فليس هدفي هو النميمة الفنية أو الإنسانية. ولكن أريد الكتابة عن ظاهرة مصرية صميمة. ألا وهي تقديس الموتى. والنظر إليهم نظرة فيها قدر من القداسة. وكلما ذهبت إلى الأهرامات نظرت إليها وسألت نفسي: ألا تعد هذه المباني المهولة قبوراً بنيت لكى يدفن فيها بعض الفراعنة؟. إذن فالموت مسألة شديدة الأهمية بالنسبة للمصريين. والبعض منهم ينظر إليه على أنه بداية حياة جديدة. وفى طقوس مصر القديمة كانوا يذهبون للميت يزورونه ومعهم ما كان يحبه من الأطعمة والأشربة. بل عند دفنه كانوا يضعون معه في القبر من الطعام والشراب ما كان يقبل عليه في حياته. لعب محمود عبد العزيز بطولة فيلم: زيارة السيد الرئيس. المأخوذ عن روايتي: يحدث في مصر الآن. ورأيته خلال تنفيذ الفيلم، سواء في جلسات قراءة الدور، أو في عمليات التصوير نفسها. سواء في الأماكن الطبيعية أو داخل الاستوديوهات.

ويومها عندما كان بشير الديك يكتب السيناريو والحوار المأخوذ عن روايتي. أتى من قال لنا إن عادل إمام يمكن أن يلعب بطولة هذا الفيلم. وهكذا جرى تكبير الدور وتضخيمه وجعله أكثر من البطولة المطلقة. ولكن عادل إمام رفض، وآل الدور إلى محمود عبد العزيز. ورأيته وهو يجسد الدور ويغني ويندمج مع دور رئيس مجلس إدارة القرية التي مر عليها موكب الرئيسين أنور السادات وريتشارد نيكسون. والقرية هي قرية الضهرية مركز إيتاي البارود بحيرة، التي هي قريتي.

من يومها نشأت بيننا صلة على البعد. لم نكن أصدقاء. لكن كلما التقينا بالصدفة في عرض خاص لفيلم أو مكان عام أو مناسبة فنية حتى كان يصافحني بحرارة. ولا يذكر غير كلمة يا أستاذ. لا يزيد عليها ولا يحذف منها وهى الكلمة التي كان يعرفني بها.

رحم الله محمود عبد العزيز رحمة واسعة.

وأطال الله فى عمر عادل إمام أطول فترة ممكنة.