أفكار وآراء

نحو مشاركة عربية بدلا من الانزعاج

04 ديسمبر 2016
04 ديسمبر 2016

د. عبدالعاطي محمد -

يحتاج الرأي العام العربي إلى أن يتعود على تقلبات الوضع الدولي الصارخة أحيانا أو غير المعتادة أحيانا أخرى، لا أن يجزع وينفعل ويقفز سريعا إلى استنتاجات خاطئة أو غير واقعية تجعله دائما أسير القلق والتوتر والعجز عن الفهم الصحيح لحقيقة المواقف المتناقضة التي تتخذها الأطراف الدولية من حوله ضد بعضها البعض، وبالتبعية العجز عن اتخاذ السياسات العربية الصحيحة التي تجعل المنطقة العربية طرفا فاعلا في إعادة تشكيل الوضع الدولي لا مفعولا به. ما لا تغفله العين أن عالم اليوم يمر بحالة سيولة غير مسبوقة اختل فيها توازن القوى من ناحية وتوارى القطب الواحد والثنائية القطبية أيضا.

وما يجري من تسارع محموم في تبني مواقف وسياسات متناقضة على صعيد المجتمع الدولي بأسره أيا يكن التباين في قدرات أطرافه، ما هو إلا سعي حثيث من الكل لتصويب الخلل في توازن القوى وتشكيل تعدد الأقطاب دون هيمنة من قطب على الآخر. ولكن المشهد الراهن الذي يتمحور أساسا حول تحقيق هذا الهدف تواجهه مشكلات حقيقية فهو من ناحية يتضمن بالضرورة إحداث تغيير. والتغيير بطبيعته يحتاج إلى وقت ليس بالقليل، وطالما المسألة مرهونة بعامل الوقت الطويل، فلن يكون مستغربا أن تتصف المواقف بالسخونة والتناقض أيضا.

ومن ناحية أخرى القدرات الدولية لا تزال نسبية وربما غامضة نظرا للتحولات الكبرى التي نجمت عن الثورة التكنولوجية في عالم المعرفة وفي الاتصالات، ثم يظل موضوع توازن القوى الجديد (المفترض) غير واضح المعالم.

ومن ناحية ثالثة فإن فلسفة تعدد الأقطاب لا تزال موضع جدل، هل يذهب العالم إلى تعدد أقطاب مغلق أم منفتح؟. هنا تتساوى المؤشرات بين التوجهين أي بين من يرسم صورة للعالم وقد تشكل من تكتلات دولية (كل منها بين أعضائه قدر مناسب من القواسم المشتركة) منغلقة على ذاتها، وبين من يقول بعكس ذلك أي وجود تكتلات تؤمن بصدق بضرورة انفتاحها على بعضها البعض. التصور الأول يعني تلقائيا أن الصراع سيكون سيد الموقف في إدارة العلاقات الدولية، بينما التصور الثاني يعني أن العالم سيتجه للتعاون وأن الحوار هو المنهج المتوقع لإدارة العلاقات الدولية في زمن تعدد الأقطاب.

ومن ناحية رابعة فإن الشعوب دخلت على الخط لأول مرة في حسم أي من الخيارين. فلم يعد القرار منحصرا في مؤسسات الحكم المعروفة ولا في القيادات السياسية البارزة، وإنما فوجئ العالم بأن المواقف المفاجئة والمتناقضة وراؤها تغير حاد في المزاج الشعبي هنا وهناك يرفض الاستمرار على القواعد التي حكمت السياسات داخليا وخارجيا وانتظمت على أساسها العلاقات بين الحكومات والشعوب. وبغض النظر عما توصف به الشعبوية من عيوب، فإنها واقع مؤثر في مواقع شتى من العالم المتحضر!. ولا شك أن منحى كهذا من شأنه أن يضفي الكثير من الغموض حول مستقبل الجهود الهادفة إلى تغيير قواعد العلاقات الدولية المستقرة منذ نهاية الحرب الباردة.

وبرغم هذا الجدل، فإن الخبر الجيد هو أن الذين يميلون إلى ترجيح كفة التكتلات المغلقة هم أنفسهم من يستبعدون العودة إلى نمط الحروب العسكرية ولا إلى نمط الحرب الباردة أيضا ويحصرون الصراع في ثلاثة مجالات محددة هي الاقتصاد والهوية والأمن. ولكن الخبر السيئ هو أن من يميلون إلى ترجيح كفة التكتلات المنفتحة يتخوفون بشدة من وجود اتجاه غالب ينشد العزلة يقوده اليمين المتطرف في العالم الغربي عموما وليس في الولايات المتحدة وحدها، وأن هذا الاتجاه له معالمه أيضا في عديد مناطق العالم الأخرى إما كرد فعل مناوئ وإما لوجود أسباب موضوعية تدفع العالم كله نحو العزلة. والمقصود هنا تحديدا هو أن خيار العزلة يعنى «أنا أولا ثم الآخر» أو تفضيل المصلحة الذاتية على الجماعية حتى لو كان فيها شكل ما من أشكال التهلكة بالآخر، بينما الانفتاح يعني الإقرار بالمصالح الحقيقية والمشروعة لكل تكتل واحترامها، أي لا يكون الانفتاح من طرف واحد وإنما متبادلا.

الخيار بين هذا وذاك ليس محسوما حتى الآن، هو موضوع للنقاش ويشغل العالم كله، ومن الطبيعي - طالما الأمر كذلك - أن تتبارى الآراء وتتباين المواقف في كل الأحداث التي يعيشها عالم اليوم إلى حد إثارة الفزع مع أن الأمور على أرض الواقع مختلفة وتحتكم أساسا إلى توجه عام لتصويب توازن القوى لا إلى شن الحروب والعودة لقواعد الحرب الباردة القديمة، ولتشكيل منظومة جديدة تقود العالم هي تعدد الأقطاب. الخلاف هو إلى أي مدى تكون العزلة وإلى أي مدى يكون الانفتاح.

ما يجري داخل أوروبا وبشأن علاقاتها الخارجية هو نموذج جيد لقراءة وفهم حالة السيولة والغموض والتناقض في المواقف الدولية من حال إلى حال بين لحظة وأخرى. فلم تمض سوى شهور قليلة على انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي حتى فاجأ الأمريكيون العالم باختيار دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة الذي رفع من اللحظة الأولى شعار أمريكا أولا وعبرت رؤيته عن توجه إلى العزلة تماما مثلما أراد البريطانيون الذين صوتوا لصالح الانسحاب من الاتحاد الأوروبي. وكلا الحدثين جاءا صادمين لكل من توقعوا حدوث العكس، أي بقاء بريطانيا في الاتحاد وفوز هيلاري كلينتون. ومثلما أعرب الأوروبيون عن قلقهم من انسحاب بريطانيا أعربوا عن قلقهم أيضا من فوز ترامب انطلاقا من أن هذا وذاك من شأنه تعزيز جانب اليمين المتطرف في الغرب عموما الذي يعادي الأجانب والمهاجرين ويرى مصلحة شعبه في الانكفاء على الذات وعدم الانخراط في هموم الآخرين فضلا عما يحمله من نزعة عنصرية. وتجسد القلق الأوروبي في الخوف من امتداد موجة اليمين المتطرف إلى النمسا وهولندا وفرنسا وربما إيطاليا أيضا. وما حدث من سخونة في الانتخابات التمهيدية لليمين الفرنسي استعدادا للانتخابات الرئاسية 2017 كان مؤشرا على الحد من تقدم اليمين المتطرف لصالح يمين الوسط الذي يريد المحافظة على الانفتاح الخارجي. وهو نفس التوجه الذي حدا بالمستشارة الألمانية ميركل لترشيح نفسها مرة رابعة في انتخابات 2017 أيضا. والمعنى هنا أن الأوروبيين منقسمون فيما يتعلق بالرؤية الجديدة للعالم وكيفية إدارة العلاقات الدولية. فإذا كانت هناك مؤشرات على الفزع نتيجة الرغبة في التغيير فإن هناك مؤشرات أيضا على مقاومة هذا التغيير، أي أن المسألة غير محسومة بعد. نفس التقدير ينسحب على موقف أوروبا من فوز ترامب. فعلى الرغم مما مثله من إحباط لكثير من الدول الأوروبية (لم يكن هذا الإحباط خافيا بل صريحا) إلا أن معظم القادة سواء في ألمانيا أو بريطانيا أو حتى فرنسا التي كانت أكثر جزعا قالوا إنهم قادرون على التفاهم مع الإدارة الجديدة في البيت الأبيض للحفاظ على نفس التوجهات التي كانت سائدة في عهد الإدارة الديمقراطية، أو بالأحرى سيعملون جاهدين على تليين توجهات ترامب الانعزالية، بل وأيضا قادرون على إبقاء أوروبا موحدة.

ولكن ما هو أكثر إثارة في تحري حقيقة التحولات المفاجئة والمتناقضة التي غالبا ما يستقبلها الرأي العام العربي بشيء من الدهشة والاستغراب إلى حد الفزع مع أنها لا تستوجب ذلك، هو العلاقة المضطربة حديثا بين أوروبا وتركيا على خلفية الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا حيث لم تتقبل أنقرة الانتقادات الأوروبية لطريقة تعامل الحكم في تركيا مع تداعيات هذا الانقلاب وعلى العكس من ذلك كانت تتوقع دعما لها من جانب الدول الأوروبية. وتصاعد الخلاف إلى حد تصويت البرلمان الأوروبي على تجميد مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي (بدأت بشكل جدي في عام 2005). وردت أنقرة بأن القرار لا معنى له، كما قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن بلاده لن تسعى بأي ثمن للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ثم ازداد رد الفعل التركي سخونة مع ما صدر عن أنقرة بأنها يمكن أن تنضم إلى منظمة شنغهاي للتعاون كبديل للاتحاد الأوروبي. ولأول وهلة يمثل الموقفان انقلابا في المشهد الدولي يؤكد فرضية اتجاه العالم إلى التكتلات المتصارعة أو نعدد الأقطاب القائم على الصراع لا على التعاون. ولكن هناك حقائق لا يمكن إغفالها تعزز رؤية مختلفة لذلك. فقرار التجميد غير ملزم، وألمانيا مع استمرار الحوار لا التجميد. وأوروبا هي الشريك الخامس لتركيا اقتصاديا والأخيرة عضو حيوي في حلف الناتو ولها ارتباط تاريخي بأوروبا لا يمكن تجاوزه. ومنظمة شنغهاي التي تأسست عام 2001 قامت بهدف أمن أعضائها ومحاربة الإرهاب وقدرات أعضائها العسكرية لا تؤهلها لمستوى التوازن مع الناتو، وهي تضم روسيا والصين ودول من وسط آسيا والتحقت بها الهند وباكستان والعضوية فيها ما بين عضو كامل العضوية وشريك حوار ومراقب، وتركيا في وضع شريك حوار منذ عام 2013 فقط أي بعد 12 عاما من قيامها، والصين وروسيا لن تدخلا في صدام مع الغرب من أجل تركيا بل علاقاتهما به طيبة. والمعنى مرة أخرى أن الحدث أقل جدا مما أثير حوله من ضجة.

السيولة الدولية تتسع والتحركات من كل الأطراف تتزايد وتتنوع لاستعادة توازن دولي مفقود، وما يحتاجه عالمنا العربي هو أن يلعب بنفس الأوراق التي يلعب بها الآخرون لا أن يقف متفرجا أو مندهشا أو منزعجا.