صورة للوفد متعدد الأديان الذي زار رام الله والقدس..    "الصورة من الكاتبة"
صورة للوفد متعدد الأديان الذي زار رام الله والقدس.. "الصورة من الكاتبة"
عمان الثقافي

رسالة عابرة للأديان من الضفة الغربية

25 سبتمبر 2024
25 سبتمبر 2024

ترجمة: أحمد شافعي

أكتب إليكم من الضفة الغربية، حيث أشارك فـي وفد متعدد الأديان جاء ليشهد على ما يجري، وينصت مصغيا، ويقف بأجساد أعضائه مع الناس فـي هذه الأرض المأزومة. جماعتنا متعددة الأديان تضم مسلمين ومسيحيين ويهودا وهندوسيين وبوذيين، ونحن هنا لأننا نفهم أن هذا ليس محض صراع بين يهود ومسلمين، ولأن المعاناة هنا تلحق بجميع من يعيشون هنا. فقد قالت لوفدنا أنجيلا كاسيه -وهي امرأة فلسطينية مسيحية من وادي المخرور، بالقرب من بيت لحم، تقاتل عائلتها من أجل حماية أرض أجدادها كي لا يستولي عليها المستوطنون الإسرائيليون إن «هذا ليس صراعا دينيا بين يهود ومسلمين. هذا استعمار استيطاني. فكلموا العالم عنا: نحن آخر المسيحيين فـي الأرض التي ولد فـيها المسيح».

بدأت إسرائيل غزوا كبيرا على غرار ما حدث فـي غزة لشمال الضفة الغربية. ومن الواضح أن هذه الإبادة الجماعية هي الفصل الأحدث فـي النكبة التي بدأت سنة 1948، ولا تزال فصول قبيحة أمامنا. فالتصعيد فـي التوترات فـي المنطقة القريبة وتزايد الإحساس بأن حربا إقليمية موشكة، والدعم المالي والتواطؤ السياسي من البلاد الغربية القوية ومنها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، والاحتجاجات الشعبية من حركات فـي كثير جدا من البلاد، كل هذا يبيِّن لنا أن الصراع يمس العالم كله. ولقد قال لنا بالفعل العالِم الفلسطيني ونصير البيئة المرموق مازن قمصية: إنه يعتقد اعتقادا كبيرا بأن هذه التوترات سوف تسفِر عن حرب نووية.

لقد دفعني حزني ورعبي إلى اغتنام الفرصة والانضمام إلى (حاخامات من أجل وقف إطلاق النار) و(مسيحيون من أجل وقف إطلاق النار) فـي حجهم هذا من أجل السلام. وقد انضممت أيضا لأنني هندية وهندوسية.

لقد قدِمت إلى فلسطين ومعي قصة الهند، وهي قصة عميقة الشبه بالقمع الذي أشهد عليه هنا. ففـيما أتحرك عبر نقاط التفتيش، وأرى البيوت المهدمة، وأتحدث إلى الأسر التي فرّقتها الأسوار والسياسة، أعي وعيا أليما أن الأيدي الملطخة بالعنف ليست فقط أيادي الدولة الإسرائيلية والولايات المتحدة التي أعيش فـيها. فالهند التي ولدت فـيها شريكة فاعلة هي الأخرى فـي دائرة العنف الجارية هنا وتساعد عليها.

الهند الآن من كبار مشتري الأسلحة والتكنولوجيا الإسرائيلية التي كثيرا ما يجري «اختبارها ميدانيا» على الفلسطينيين قبل بيعها لبلاد أخرى. وهذا التبادل ليس تجاريا وماليا وحسب، ولكنه أيديولوجي. فأدوات القمع، سواء أهي طائرات مسيّرة أم جرّافات، تتحرك بلا توقف بين تل أبيب ونيودلهي، والأدهى أن الهند أرسلت أسلحة وطائرات مسيّرة لترسانة إسرائيل، فهي متواطئة تواطؤا مباشرا فـي الإبادة الجماعية فـي غزة.

وليس التحالف بين الأيديولوجية الهندوسية العنصرية والصهيونية وليد الصدفة؛ فلكلتا الأيديولوجيتين جذور فـي رؤية نقاء ديني عرقي تهمِّش الآخرين وتقمعهم. وفـي السنين الأخيرة شهدنا تزايد التعاون بين هاتين الحركتين، بدءا بالمناورات العسكرية المشتركة وحتى تبادل تقنيات المراقبة المتطورة.

لقد ذكّرني لقائي بأنجيلا وأسرتها بالجرّافات التي استُعملت لإرهاب المسلمين الهنود. وبوسعنا أن نرى فـي كشمير مثل هذا الاستعمار الاستيطاني الذي نراه فـي الضفة الغربية حيث يعتدي المستوطنون اليهود على أراضي الفلسطينيين وبيوتهم، ففـي كشمير أيضا جرّدت الحكومة الهندية المنطقة من وضعها الخاص، وأتاحتها بذلك فعليا لقوة الهندسة الديمغرافـية حتى تعيد تشكيلها. والجرّافات التي تجتاح بيوت الفلسطينيين تبدو شبيهة شبها مفزعا بتلك المستعملة فـي هدم بيوت المسلمين فـي الهند دونما توافر أدلة أو اتباع لإجراءات قانونية فـي أغلب الأحيان.

هناك أيضا الاعتقالات التعسفـية، حيث يتعرض الناس للاعتقال دونما محاكمة، ويُسجنون بلا دليل. سافرنا إلى بير زيت، فـي شمال رام الله، لمقابلة لولو وتانيا ناصر -والأولى هي والدة ليان ناصر البالغة من العمر ثلاثة وعشرين عاما والثانية عرابتها. تم اعتقال ليان بالقوة من بيتها فـي مداهمة ليلية فـي السابع من أبريل، وهي فـي السجن منذ ذلك الحين، دونما توجيه اتهامات أو محاكمة. والصحفـي خرام برفـيز واحد من آلاف الأشخاص الذين يعانون من مثل هذا الاعتقال التعسفـي فـي كشمير؛ فالكشميريون والفلسطينيون شعبان يعرفان تمام المعرفة معنى العيش فـي ظل الاحتلال، وتخضع حياتهما اليومية لقوى لا يمكنهما السيطرة عليها.

آفرين فاطمة، ناشطة هندية مسلمة تعمل فـي مجال حقوق الإنسان هدّمت الجرّافات بيت أسرتها قبل سنتين. وكان ذلك عقابا من الحكومة الهندية على مناصرة آفرين وأبيها لحقوق الإنسان. حينما حكيت لآفرين عن رحلتي إلى فلسطين وعن هدم البيوت بالجرّافات هنا، قالت إن ما مرّت به لا يُقارن بما يجري فـي فلسطين، لكنها قالت: إن «أسلوب عمل المحتلين الفاشيين مستمد من كتاب قواعد واحد. زعماء العالم يعلمون تمام العلم ما يجري، وبوسعهم إيقافه إن أرادوا ذلك، لكنهم لا يفعلون لأنهم مستفـيدون من أنظمة القمع. لو أن ما يجري فـي فلسطين يجري فـي الهند، سيكون هذا جحيما على الأرض. ولكن مقاومة الفلسطينيين تمنحني الأمل».

ابتهجت تمارا طه، وهي أمريكية فلسطينية وعضو معنا فـي الوفد، ورفـيقة لي فـي الغرفة، عندما سمحوا لنا بزيارة المسجد الأقصى، المعروف أيضا بالحرم الشريف؛ لأنها تخشى أنه لن ينجو طويلا. ذلك المسجد البالغ من العمر ألف عام ويعتقد أن النبي محمدا قد ارتقى منه إلى السماء هو أحد أهم مساجد العالم لدى المسلمين وهو نقطة محورية فـي الصراع. يقوم المسجد، بمقامه المركزي، وقبة الصخرة، على مرتفع كبير، المقدّس لدى اليهود والمسلمين على السواء. ومعبد أورشليم كان يقوم هنا ذات يوم وتعرّض للتدمير على أيدي الرومان فـي عام 70 للميلاد. والوزير الإسرائيلي إيتمار بن غفـير يحشد الزخم لـ«حركة المعبد» التي تضم يهودا صهاينة متطرفـين يخططون لشعيرة ذبح خمسة عجول حمراء جيء بها جوا من تكساس، تمهيدا لتدمير المسجد الأقصى وبناء معبد يهودي فـي مكانه.

كل هذا يذكرنا بتدمير مسجد بابري فـي أبوديا، وهو مسجد عمره خمسمائة عام دمّره متطرفون هندوس سنة 1992 لإقامة معبد هندوسي مكانه للإله راما؛ إذ يعتقد كثير من الهندوس أن معبدا للإله راما قد كان فـي هذا المكان وأقيم بدلا منه مسجد بابري بعد أن دمّر الإمبراطور المغولي [المسلم] بابور المعبد، وتؤكد كل من هيئة المسح الأثري والمحكمة العليا فـي الهند أنه ما من معبد هندوسي أسفل المسجد، ولكن ما من مجال للحقيقة أيضا فـي صراع ديني.

عندما بلغنا المسجد الأقصى، سار بنا فـيه مهدي ديسي مرورا بالكثير من الحرس المسلحين إلى أن دخلنا المسجد نفسه، ومهدي ديسي موظف بالأوقاف منذ اثنتي عشرة سنة وهو رجل ودود مضياف بشوش، ولكنه بادي التوتر أيضا. كان سعيدا للغاية وهو يطوف بنا لأن «هذا مكان مقدس وموقع تاريخي، ويجب أن يراه العالم» غير أنه قال إنه «مكان مقدس وخطير، ولا بد فـيه من اتباع التعليمات». فكان على النساء منا أن يغطين رؤوسهن، ولم يكن مسموحا بتصوير الفـيديو أو السير إلا فـي جماعة. حكى لنا عن أهمية المسجد الدينية وعن الهجمات الكثيرة التي تعرّض لها، ومنها فـي عام 1969 أن أضرم مسيحي صهيوني أسترالي النار فـيه، فضلا عن هجمات قليلة شنتها القوات الإسرائيلية على مدار السنين، وعرض علينا مهدي الشبابيك المحطمة التي لم تعد مستعملة، والمداخل التي تفجرت ثم لم تعد تستعمل.

يعلّمنا موروث الهندوس أن الرب موجود فـي كل شخص وفـي كل مظهر من مظاهر الكون. وفـيما كنت أنصت لمرشدنا صعب عليّ أن أتقبل أن الرب كان موجودا فـي أنفس الجنود الذين أطلقوا الرصاص المطاطي على المصلين فـي المسجد الأقصى أو فـي أنفس الغوغاء الهندوس الذين أحالوا مسجد بابري ركامًا. جلست فـي الكهف أتحسس الصخرة الهائلة التي تقع أسفل القبة الذهبية، وهي أيقونة صور سماء القدس. ولم يتسن لي أن أستحضر إحساس السلام الذي أنعم به فـي أماكن العبادة. هام بي عقلي إلى أيوديا وتساءلت كيف لقلب إنسان أن يحوز من الكراهية ما يجعله يدمر بيديه العاريتين مكانا ذا قيمة دينية عند كثير من الناس وقيمة تاريخية، وجمال عظيم.

لقد سافرت قبل عامين إلى أيوديا عندما كان بناء معبد راما لا يزال جاريا. وسرت عبر الممر المتعرج المؤدي إلى الضريح الداخلي، وكنت أشعر بالغثيان والخراب. كان على جانبي الممر من ناحية حرس الجيش يحملون السلاح ومن الأخرى لوحات إعلانية ضخمة لبنوك. كنت على يقين أن الإله راما لا يريد إقامة معبد له هناك. وعاهدت نفسي على ألا أرجع مرة أخرى إلى المعبد الذي لم أجده مكانا للعبادة وإنما رأيته قلعة للعنصرية الهندوسية والجشع المادي.

حكى لنا مهدي أن إحدى بوابات الأقصى تحمل لافتة تمنع دخول اليهود، وأن اليهود لا المسلمين هم الذين وضعوا تلك اللافتة. فهناك يهود كثيرون يؤمنون أنه لا يحق لهم دخول معبد الهيكل قبل مجيء المسيح. قال الحاخام ديفـيد كوبر وهو عضو معنا فـي الوفد «أنا لا أريد أن يتحول الحرم الشريف إلى معبد يهودي. وأعترف بأن هذا المكان حاليا موقع إسلامي مقدس كان فـي يوم من الأيام هيكلا لكنه لم يعد كذلك وبإذن الله لن يكون».

سبق لكوبر أن زار المسجد الأقصى مرة فـي عام 1984، برفقة مجموعة من محامي حقوق الإنسان. قاده فـي الجولة مقاول، مبرزا الأضرار التي تعرض لها المسجد فـي هجمة 1969. وسأل كوبر المقاول إن كان مر فـي إصلاح المسجد بتجربة دينية عميقة. فأجاب المقاول بالإيجاب فـي البداية ثم عاد وقال بمزيد من الهدوء «لكن كما تعلم، أنا شيوعي، والأمر بالنسبة لي متعلق بالجمال لا بإله».

كان الفن وفـيرا فـي مخيم شعفاط للاجئين فـي القدس الشرقية، وهذا مكان آخر زاره وفدنا. كان جدار الفصل العنصري الذي يحبس مخيم اللاجئين ويفصله عن الأرض الإسرائيلية ذات المزايا الاستيطانية يبدو جهما رماديا من الخارج، لكنه مطلي من الداخل بجداريات ريفـية ملونة مفعمة بالزهور. وكانت مدرسة أونروا القائمة داخل المخيم مليئة بآثار طلقات الرصاص. قال لنا صبي صغير إن الجنود الإسرائيليين يأتون بلا سابق إنذار، فـي كل يوم تقريبا، ويطلقون قنابل الغاز، والرصاص فـي بعض الأحيان. ثمة برج حراسة مقام للمراقبة عند مدخل مخيم اللاجئين قَتل منه جندي ذات يوم أربعة وخمسين طفلا. وبرج الحراسة هذا ملطخ ببقع الألوان، حيث يرميه الأطفال بالألوان والأدوات المدرسية حينما يأمنون الأنظار.

أرجو وأنا فـي الضفة الغربية أن أزور التكية الهندية، وهي ضريح عمره ثمانمائة عام لبابا فريد، وهو ولي صوفـي من القرن الثاني عشر من البنجاب أشعاره مدرجة فـي كتاب جورو جرانث صاحب المقدس لدى السيخ ولا تزال تنشد فـي المعبد الذهبي فـي أمريستار. سافر بابا فريد إلى القدس وعاش هنا لبعض الوقت، وتقول الأساطير إنه قضى أيامه يكنس ساحات المسجد الأقصى. تعاليم بابا فريد كلها تتعلق بالحب والتواضع والعدالة. كان مسلما لكنه مبجل لدى السيخ والهندوس أيضا. أقام ذلك الرجل المبارك، المنحدر من الهند، تلك العلاقة العميقة مع القدس فلا يزال ضريحه قائما فـيها بعد ثمانمائة سنة. وثمة مفارقة عميقة فـي أن توجد فـي القدس زاوية هندية مخصصة للمحبة والوحدة، وأن يهودا لاذوا بالهند لأكثر من ألفـي عام، وأن لهم معابد جليلة لم تزل قائمة فـي أماكن من قبيل كلكتا وكوتشي وبومباي. لقد كانت الهند فـي يوم من الأيام ملاذا للهاربين من القمع، ولكن اليوم تتواطأ حكومة الهند الهندوسية فـي مثل القمع العرقي والديني الذي كانت فـي يوم من الأيام تقاومه.

تاريخ البشرية حافل بأمثلة لتلك الحركات الجماهيرية -فـي جنوب أفريقيا وفـي حركة الحقوق المدنية فـي الولايات المتحدة وفـي نضال الحرية فـي الهند نفسها- التي طالبت الشعوب بالنهوض والتضحية بالكثير والنفـيس للوقوف فـي وجه القوة ومواجهتها بالحقيقة.

كل هذه الحركات الجماهيرية قامت على التعدد، وجمعت الناس للقتال من أجل عالم يحترم كرامة الجميع وإنسانيتهم. والديمقراطيات التي نسعى ونتوق إليها هي كيانات تعددية تضمن تساوي الحقوق للجميع. أما المتطرفون الدينيون فـيزدهرون فـي ظل الكراهية ويسعون إلى التفرقة بيننا. والسلاح الوحيد الذي يمكن أن نواجههم به هو رفضنا للفرقة.

يواصل القس وليم باربر ميراث مارتن لوثر كينج الابن من خلال (حملة الفقراء) داعيا الحركات إلى الاندماج الأخلاقي فـيقول: «لو أن أعداء العدالة قادرون على الوقوف معا، فـيجدر بنا أن نتحلى بالذكاء للتجمع وإقامة حركة تعيد بناء الديمقراطية».

عرابة ليان ناصر هي تانيا ناصر وهي مغنية أوبرا فـي الثالثة والثمانين من العمر. وتعتقد أن التضامن الدولي هو مصدر الأمل الوحيد للفلسطينيين. لكن تانيا ترى الأمل المشترك الذي يتردد فـيه صدى دعوة القسيس باربر إلى الاندماج الأخلاقي فـ«العالم يجد نفسه فـي فلسطين. والحق أنني أرى هذه الحرب هبة منا للعالم، عسى أن يفـيق ويصحو ضميره».

لهذا السبب أنا هنا فـي فلسطين، لأحتل مكاني ضمن حركة الاندماج العالمي الواسعة الداعية إلى وقف فوري لإطلاق النار، وحظر السلاح، والمضي فـي طريق السلام والعدالة الحقيقية لكل من يعدون هذا المكان وطنا لهم. وفـي فلسطين الحرة ثمة الهند الحرة، وأمريكا الحرة، والسودان الحر، وميانمار الحرة - وفـيها أيضا تحريرنا جميعا.

• سونيتا فيسواناث مؤسسة مشاركة ورئيسة مجلس إدارة سابقة لمنظمة (نساء من أجل الأفغانيات)، وعضوة حالية في المجلس الاستشاري لمنظمة "أنفريز أفغانستان". وهي أيضا المديرة التنفيذية لمنظمة (هندوس من أجل حقوق الإنسان).

** عن ذي نيشن