ترجمة

ليس في فرنسا وحدها يضمحل الإيمان بالعالم الديمقراطي

16 أكتوبر 2025
16 أكتوبر 2025

سيمون تيسدال

ترجمة - أحمد شافعي

بدا إيمانويل ماكرون أشبه برجل حزين. ليس غاضبا، أو ثائرا، وإنما هو رجل يعتريه بعض الحزن. قال متأسيا: إن أوروبا تعاني من «تراجع الديمقراطية». وقال رئيس فرنسا: إن تهديدات كثيرة انبعثت من الخارج، من روسيا ومن الصين ومن شركات التكنولوجيا القوية في الولايات المتحدة وأصحاب مواقع التواصل الاجتماعي. «وعلينا ألا نكون ساذجين. ففي الداخل أيضا ننقلب نحن أنفسنا على أنفسنا. يعترينا الشك في ديمقراطيتنا... ونرى في كل مكان أن شيئا ما يطرأ على نسيجنا الديقراطي. فالجدال الديمقراطي يتحول إلى جدال كراهية».

وماكرون المحصور بين تطرفات اليمين واليسار المريرة يعلم ما يتحدث عنه. لكن فرنسا «المستعصية على الحكم» ليست البلد الوحيد الذي يعاني من انقسامات عنيدة مريرة. ففي أرجاء أوروبا، وفي المملكة المتحدة والولايات المتحدة، نرى انعدام الثقة والظلم يعمِّقان يوميا الخلل السياسي والشقاق الاجتماعي. وكلمات ماكرون تنطبق في واقع الأمر على كل بلد تقريبا يتبنى المبادئ الديمقراطية. إذ يتراجع الإيمان بأن الديمقراطية هي شكل الحكم الأمثل للعالم الحديث، وبخاصة بين الشباب. في الوقت نفسه، يزداد المجال العام خشونة وعنفا. كان ماكرون يتكلم في فعالية أقيمت احتفالا بالذكرى الخامسة والثلاثين لتوحيد ألمانيا سنة 1990، وتلك كانت لحظة تفاؤل عظيمة. غير أنه شأن فرنسا، تواجه ألمانيا اليوم -بما فيها من استقطاب- أزمة حادة في الإيمان السياسي.

وحسبكم أن تنظروا حولكم. في انتخابات نهاية الأسبوع الماضي، حذت جمهورية التشيك حذو بولندا والنمسا ودول أخرى من أعضاء الاتحاد الأوروبي في الجنوح إلى اليمين المتطرف الشعبوي، يدفعها مد صاعد من السلبية المناهضة للمؤسسات. ودعم المتعصبين الانتهازيين الذين يعيشون على الخوف والغضب والخسارة -ويفتقرون إلى سياسات ذات مصداقية في القضايا المعقدة من قبيل الهجرة- ليس إقرارا بالديمقراطية وإنما نيل منها. وهذا الاندفاع القبيح إلى التطرفات تصويت بسحب الثقة من النظام الديمقراطي نفسه، ويتفاقم بتقلص مستويات المشاركة والإدلاء بالأصوات لدى الفئات الاجتماعية المحرومة.

في جميع هذه البلاد، يغيب الإجماع الديمقراطي غيابا مؤسفا. ففي بريطانيا المتدهورة اليائسة، نرى الحزبين الكبيرين يترنحان، ولا نرى بدائلهما إلا بدائل غير معقولة أو ضارة بلا لبس. وفي الولايات المتحدة، «بيت الديمقراطية»، انهارت المعارضة الفعالة لحكم الحزب الواحد، وهو الحزب الجمهوري، على المستوى الوطني على الأقل. وبسعيه الحثيث إلى تقسيم الدوائر الانتخابية، يزداد دونالد ترامب شبها بالدكتاتور.

في غياب الخيار الديمقراطي الحقيقي والفرص الاقتصادية، بما يؤجج الإحساس بالاغتراب والتمرد، تشهد بلاد متنوعة من المغرب إلى كينيا إلى بنجلاديش اضطرابات في الآونة الأخيرة. في الفلبين، ونيجريا، وتركيا، وإندونسيا، ومدغشقر، أثار الفساد وسوء استغلال السلطة مظاهرات مناهضة للحكومة. وفي نيبال في الشهر الماضي، أشعل الشباب «ثورة الجيل زد». وتختلف جميع هذه البلاد -في أوروبا وخارجها- إلا في اعتبار حيوي واحد. فبالمقارنة مع أنظمة الحكم الاستبدادية من قبيل نظامي الصين وروسيا، تظل المجتمعات فيها منفتحة وحرة نسبيا، حتى الآن.

هذا هو التحدي الأساسي الذي يواجهه كل منها: الديمقراطية غير ناجحة، أو هي ذات أداء شديد السوء ينذر بنبذها. فتترنح الولايات المتحدة التي كانت ذات يوم مثالا يحتذى، وباتت مثالا مهدرا، وكذلك أوروبا الغربية التعيسة. ومرة أخرى، نرى الديمقراطيات الأقل رسوخا في الجنوب العالمي، وفي وسط أوروبا وشرقها، بمنزلة الجبهات في حرب باردة متجددة على النفوذ والقيم تخاض ضد محور بكين-موسكو. وشأن مولدوفا وجورجيا، على سبيل المثال لا الحصر لأحدث جبهات القتال، يمكن أن تذهب هذه البلاد في أي من الوجهتين.

ثمة أزمة في الطريق. في تقريرها السنوي، انتهت منظمة فريدم هاوس المعنية بمراقبة حقوق الإنسان ومقرها الولايات المتحدة إلى أن العنف، والتلاعب في الانتخابات والقمع شوها أكثر من 40% من الانتخابات الوطنية التي أقيمت في عام 2024. فالحرية العالمية -التي تقاس في ضوء الحريات السياسية والحقوق المدنية- انحدرت للسنة التاسعة عشرة على التوالي. وخلص التقرير إلى أن «الصراعات نشرت الاضطرابات وأحبطت تقدم الديمقراطية في العالم».

وفي الولايات المتحدة، تبين لاستطلاع حديث أن 64% من الأمريكيين يعتقدون أن الديمقراطية «شديدة الانقسام سياسيا بما يعجزها عن حل مشكلات الأمة». وفي المملكة المتحدة، تبين لاستطلاع رأي أجري على من تتراوح أعمارهم بين 16 و19 عاما أن 63% يرون الديمقراطية في مأزق. وفي حين أن الشباب «فضلوا الحياة في ظل الديمقراطية على الحياة في ظل الدكتاتورية بنسبة 57% إلى 27%، فقد قال 35% فقط إنهم قد يفكرون في الانخراط في العمل السياسي المنظم.

لو أننا نشهد ما يشبه الثورة العالمية المعادية للديمقراطية أو على أقل تقدير الفقدان الحاد للإيمان بالأنظمة الديمقراطية، فمن الخير لنا أن نعرف السبب. من عوامل ذلك، قضايا اقتصادية قريبة الأجل وبعيدة الأجل -تكاليف المعيشة، التضخم، نقص الوظائف اللائقة، تراجع التصنيع، تشرذم المجتمعات، الإخفاقات المؤسسية، تفاوت الثروة، العولمة، الهجرة الجماعية المرتبطة بتغير المناخ وفشل خرافة النمو المستدام بلا حدود. وثمة عامل آخر يتمثل في القادة غير الجديرين بالثقة بما يعكس فشل المعايير الأخلاقية. ويتسارع الانهيار بسبب التدخل الكريه في الانتخابات والتزوير الإلكتروني الذي تقوم به روسيا وغيرها. والأجيال الشابة لديها ضغائن تجاه المسنين من الشعب. وثمة يأس، وكذلك غضب، من الفوضى التي يعيشها العالم بيئيا وجيوسياسيا.

جذور هذا السخط ممتدة في الشعور العام العميق المتفشي بالخسارة حسبما يرى أندرياس ريكفيتز من جامعة هومبولت في برلين. حيث يذهب ريكفيتز إلى أن «الكذبة التأسيسية في الحداثة الغربية» -أي إيمان عصر ما بعد التنوير بأن التقدم الإنساني مطرد وحتمي، وأن كل شيء يتحسن بمرور الزمن، وأن الحياة دائما في طريقها إلى الأفضل- قد تعرضت لضرر قاس في العقود الأخيرة. «باتت الخسارة شرط حياة متفشيا... ولم يعد السؤال يتعلق بما لو أنه من الممكن اجتناب الخسارة بل بما لو أن المجتمعات المرتبطة بـ«الأفضل» أو «الأكثر» يمكن أن تتعلم القبول بـ«الأقل» و«الأسوأ». من هذه الزاوية، يسهل فهم رفض الهياكل الديمقراطية الفاشلة وتقدم النزعات الرجعية الديماجوجية التي تتعهد بالعودة «بالأمور إلى ما كانت عليه». إذ يكتب ريكفيتز أنه «إذا كانت السياسة تعد بتحسن بلا نهاية، فإنها تؤجج الإحساس بالخيبة وتقوي النزعات الشعبوية التي تزدهر مع الحنث بالوعود... فالشعبوية تعبير عن الغضب مما اختفى لكنها لا تطرح غير أوهام بالتعافي. ومن هنا يصبح السؤال الحاسم هو: كيف يمكن التعامل مع الخسارة؟». يطرح ريكفيتز مقترحاته الخاصة وهي تتعلق بالمرونة وإعادة التوزيع. ولو أن لدى أي شخص إجابة، فلا بد أن ماكرون -ولديه الكثير الذي يمكن أن يخسره- سيحب أن ينصت إليه.