
ندوة وطنية حول الاقتصاد البنفسجي تدعو لتعزيز الاستثمار في الثقافة وإبراز دورها في التنمية المستدامة
- سمادوف: سلطنة عمان من أوائل الدول التي أدركت قيمة اتفاقية 2005 لليونيسكو والتي تصب في صميم الاقتصاد الإبداعي
- البلوشية: تعزيز هذا النوع من الاقتصاد يسهم في إحياء المِهَن التقليدية والإبداعية وتوفير فرص العمل
- المحرزي: "البنفسجي" يدعو إلى دمج وعدم تجاهل البعد الثقافي لإعطاء قيمة أكبر للسلع والخدمات
ضمن ألوان عديدة يلبسها الاقتصاد، برز مصطلح "الاقتصاد البنفسجي" والذي يعنى بتثمين العائد الثقافي للسلع والخدمات وهو تحالف بين الاقتصاد والثقافة، ورغم حداثته وظهوره لأول مرة في 2011، فمن المتوقع له أن يمثل صناعة المستقبل والقطاع الأكثر استحداثًا للوظائف وأسرعها نموًا في العالم، حيث يمثل قطاع الثقافة حاليًا أكثر من 6 بالمائة من مجمل الاقتصاد العالمي، ويمكن لهذه الصناعات الإبداعية أن تساهم في تمكين النساء والشباب وفئات المجتمع المهمشة إلى جانب دورها في دعم النمو الاقتصادي.
وتنفرد سلطنة عمان بالكثير من المقومات الثقافية التي تجعلها مؤهلة للاستفادة بالثمار العديدة التي يعد بها هذا النوع من الاقتصاد، وهو ما أكدت عليه الندوة الوطنية "الثقافة محرك الاقتصاد البنفسجي" الثلاثاء والتي تنظمها وزارة التربية والتعليم ممثلة باللجنة الوطنية العمانية للتربية والثقافة والعلوم بالشراكة مع منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو)، ومنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو) وتستمر ليومين تحت رعاية سعادة الدكتور عبدالله بن خميس أمبوسعيدي وكيل وزارة التربية والتعليم للتعليم.
وفي كلمتها الافتتاحية، قالت آمنة بنت سالم البلوشية، أمينة اللجنة الوطنية العمانية للتربية والثقافة والعلوم: إن الاقتصاد البنفسجي يعد أحد مكونات الاقتصاد المستدام، وإحدى القاطرات المساهمة في التنويع الاقتصادي، إلى جانب استقطابه لأصحاب الخبرات من المستثمرين، وإحياء الكثير من المِهَن التقليدية والإبداعية، مما ينعكس بشكل إيجابي على توَفر فرص العمل. فالاستثمار في الثقافة يشكل جزءًا من مرتكزات حفظ التراث الثقافي؛ فتوظيف المباني التراثية واستثمارها سياحيًّا له مردود اقتصادي ينعكس بدوره في تحسين المستوى المعيشي للسكان، ودعم الاقتصاد الوطني.
وحول إمكانيات هذا الاقتصاد في سلطنة عمان، أوضحت البلوشية قائلة: إن تفرد سلطنة عُمان بالكثير من الجوانب الثقافية والمعالم الأثرية، يجعل منها محطة مهمة ومحفزة لدعم الاقتصاد البنفسجي، والذي بدوره يُشكل محركا للنمو الاقتصادي؛ فالقلاع والحصون، والنزل التراثية، والحرف التقليدية والصناعات الإبداعية، والمأكولات العُمانية، ماهي إلا نماذج تضرب لنا أروع الأمثلة في التعبير عن أصالة سلطنة عُمان وتراثها العريق. ومن هنا فإن إعادة النظر فيها بالشكل الذي يضمن الحفاظ على ديمومتها والاستثمار فيها يعد مطلبًا أساسيًا ؛ لا سيما وأنها تتوافق مع استراتيجيات وخطط رؤية عُمان 2040. ونذكر هنا، تلك العبقرية الفَذَّة للعمانيين على مَرِّ التاريخ، وكيف استطاعوا التكيف مع ظروف الحياة، مستفيدين من معارفهم وخبراتهم، وتطويعها لغرض العيش، والاستقرار، والحصول على مصدر قوتهم.
وعدّدت البلوشية التطبيقات الداعمة محليًا لمفهوم الاقتصاد البنفسجي مثل منطقة الجبل الأخضر بمحافظة الداخلية؛ حيث وَظَّفَ الأهالي خبراتهم الثقافية في الاستفادة من محصول الوَرْد في الاقتصاد، إِذْ يُقَدَّرُ عدد الأشجار التي تم استخلاص ماء الوَرْد الجبلي منها (5000) شجرةً، بكمية إنتاج بلغت (4000) لترٍ للفدَّان الواحد للعام 2020. كما يُسَطِّرُ نظام الأفلاج في سلطنة عُمَان هو الآخَرُ؛ أنموذجًا وطنيًّا قائمًا على أساس توظيف الثقافة في الاقتصاد؛ حيث يظهر إبداع العُمَانِيين في تقسيم مياه الفلج بالتساوي مستفيدين من معرفتهم الفلكية، وثقافتهم المحلية في توفير مصادر المياه على السُّكَّان، وهناك العديد من الأمثلة التي لا يخلو منها شبر من هذه الأرض المعطاء.
- "البنفسجي" صناعة المستقبل
وفي مداخلة عبر الاتصال المرئي، قال رسول سمادوف خبير قسم الثقافة بمكتب اليونيسكو الإقليمي في الدوحة : إن الاقتصاد البنفسجي يعرف بالاقتصاد الابداعي، وهو من أكثر أنواع الاقتصادات استحداثًا للوظائف وأسرعها نموًا في العالم، خاصة للشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و25 عامًا، مما يجعله صناعة للمستقبل. ويمثل قطاع الثقافة حاليًا أكثر من 6 بالمائة من مجمل الاقتصاد العالمي، ويمكن لهذه الصناعات الإبداعية أن تساهم في تمكين النساء والشباب وفئات المجتمع المهمشة إلى جانب دورها في دعم النمو الاقتصادي. وبالتالي أصبحت الصناعات الثقافية والإبداعية ضرورية للنمو الاقتصادي الشامل والحد من اللامساواة، وتحقيق الأهداف المتفق عليها عالميًا في خطة التنمية المستدامة لعام 2030. ويجب الاقتناع إن الاستثمار في الإبداع يمكن أن يغير المجتمعات إيجابيًا، ويجعلها أكثر شمولية وذات مغزى. وأكد على أن الثقافة هي محرك وأداة تمكين للتنمية المستدامة.
وقد كان اعتماد اليونيسكو لاتفاقية عام 2005 لحماية وتعزيز تنوع أشكال التعبير الثقافي علامة فارقة في السياسات الثقافية الدولية، ومن خلالها اعترف المجتمع الدولي رسميًا بالطبيعة المزدوجة الثقافية والاقتصادية على حد سواء لأشكال التعبير الثقافي المعاصر، والتي ينتجه فنانون ومختصون بالثقافة. وقال سمادوف: من هنا نرى أن اتفاقية 2005 تشكل تصميم وتنفيذ السياسات والتدابير الرامية إلى دعم إنشاء السلع والخدمات الثقافية وإنتاجها وتوزيعها وتسهيل الوصول إليها، مما يجعل هذه الاتفاقية أيضًا تصب في صميم الاقتصاد الإبداعي. ويسعدنا هنا أن نذكر أن سلطنة عمان كانت من ضمن الدول التي أدركت قيمة هذه الاتفاقية مبكرًا، وسارعت إلى تصديقها في مارس من عام 2017.
وتدعو هذه الاتفاقية الدول الأعضاء إلى تحسين الوضع المهني والاجتماعي والاقتصادي للفنانين والمبدعين من خلال تنفيذ سياسات وتدابير متعلقة بالتدريب، والأمن والضمان الاجتماعي، والأيدي العاملة، وتحسين ظروف العمل والضرائب بالإضافة إلى حرية التنقل والتعبير. وقد أدت جائحة كورونا إلى إغراق الاقتصاد العالمي في حالة من الركود في وقت كان مليارات من البشر حول العالم يتجهون إلى الثقافة كمصدر للراحة والتواصل، ولكن تأثير الجائحة لم يبتعد كثيرًا عن القطاع الثقافي، حيث يكافح الفنانون والمبدعون في جميع أنحاء العالم لتغطية نفقات معيشتهم.
وأنهى خبير قسم الثقافة بمكتب اليونيسكو الإقليمي مداخلته بمجموعة من التوصيات لواضعي السياسات وأصحاب المصلحة، وقال إنه وراء سعيهم وراء صناعات إبداعية هادفة وذات مغزى ومستدامة، فإنه من المهم أن يكون هناك عمل تعاوني مشترك لتصميم وتنفيذ تدابير وإجراءات مبتكرة وسياسات شاملة بشكل أفضل لاسيما في الوقت الذي زادت فيه الفرص في البيئة الرقمية بسرعة كبيرة جلية في سياق جائحة كوفيد 19. كما على واضعي السياسات وأصحاب المصلحة أن يواصلوا العمل معًا لمواجهة التحديات المفروضة على الاقتصاد الإبداعي لتحسين وضع الفنانين والمبدعين من خلال تعزيز برامج التدريب وبناء القدرات والضمان الاجتماعي، وتأمين ظروف عمل مناسبة، والتنقل وحرية التعبير.
- دمج الثقافة بالسلع والخدمات
ومن جانبه، أوضح الدكتور حمد بن محمد المحرزي أستاذ مساعد بقسم السياحة في كلية الآداب والعلوم الاجتماعية بجامعة السلطان قابوس أن الاقتصاد البنفسجي يشير إلى مراعاة الجوانب الثقافية في الاقتصاد، ويدعو إلى دمج وعدم تجاهل البعد الثقافي لإعطاء قيمة للسلع والخدمات المنبثقة عن الثقافات المختلفة. وقد ظهر مصطلح الاقتصاد البنفسجي لأول مرة في مايو عام 2011، بمبادرة من الجمعية الفرنسية "ديفرسيون"، وهو أكثر من مجرد مصطلح جديد، لكنه يرتبط بالنظر إلى ما وراء القيمة الاقتصادية للمصادر والمخرجات الثقافية لتشمل البعد الثقافي لأصل أي منتج أو مصدر أو خدمة. والاقتصاد البنفسجي جزء من نهج أوسع، بحيث يساهم في خلق بيئة ثقافية أكثر ثراء وتنوعا. وأضاف: يرتكز الاقتصاد البنفسجي على البعد الاجتماعي والثقافي في تكوينه، بحيث تساهم مكونات المجتمع وثقافته في خلق مهن ومنتجات تساهم بشكل مباشر في الحفاظ على النسيج الاجتماعي من خلال الحفاظ على الطقوس الاجتماعية وتنميتها اقتصاديًا والمساهمة في الحفاظ على البصمة الثقافية في مختلف المهن والمنتجات.
وتولي رؤية عمان 2040 أهمية كبرى فيما يتعلق بتنويع أوجه الاقتصاد والاهتمام بالفنون والإبداع وهو ما تؤكد عليه الأولويات التي وضعتها ومنها: خلق مجتمع إنسانه مبدع، وبيئة عناصرها مستدامة واقتصاد بنيته تنافسية، منتج ومتنوع يقوم على الابتكار وتكامل الأدوار وتكافؤ الفرص، يسيره القطاع الخاص ويحقق تنمية شامل ومستدامة.
وفي حديثه حول كيفية الاستفادة من تطبيقات الاقتصاد البنفسجي في سلطنة عمان، عدد المحرزي مجموعة من المصادر التي يمكن تثمينها وتحويلها لمنتجات تحكي التاريخ وتحافظ على الإرث وتساهم في خلق اقتصاد مبدع ومبتكر كالحارات والقرى الأثرية والزراعة والبناء والثقافة.
كما تم خلال الندوة استعراض تجربة السيارات الكلاسيكية الصغيرة في الحمراء، والتي تعد أحد روافد الاقتصاد البنفسجي المحلية.
وتتواصل اليوم الأربعاء أعمال الندوة، وتتضمن عقد حلقات عمل لمناقشة كيفية الاستفادة من الاقتصاد البنفسجي لرفد الاقتصاد الوطني، يقدمها مختصون من وزارة الثقافة والرياضة والشباب، ووزارة التراث والسياحة، واللجنة الوطنية العُمانية وتتمحور حول تعزيز الاقتصاد البنفسجي من خلال عناصر التراث الثقافي المادي وغير المادي، والصناعات الإبداعية.
ويأتي تنفيذ هذه الندوة انطلاقا من حرص اللجنة الوطنية العمانية للتربية والثقافة والعلوم على الاستفادةِ من البرامجِ التي تقدمها المنظمات الدولية والإقليمية في نشرِ الوعي بالاقتصادِ البنفسجي كأحد أفرع الاقتصادات المستدامة؛ الذي يَتَّخِذُ من الثقافة المحلية منطلقا لنموه. كما تهدف الندوة إلى التعريفِ بالاقتصاد البنفسجي، ومجالات عمله، وإبراز دور التعليم في تنمية الوعي به، وعرض بعض النماذج والتجارب العُمانية الرائدة التي تبنت الاقتصاد البنفسجي لدعم التنمية المستدامة، وتجارب دُولية مماثلة، وكذلك استشراف مستقبل الاقتصاد البنفسجي في ضوء رؤية عُمان 2040.