facebook twitter instagram youtube whatsapp
جوي نويماير
جوي نويماير

هكذا قد تبدو روسيا دون بوتين

23 نوفمبر 2022

ترجمة : أحمد شافعي -

وضع روسيا الحالي، أي بوصفها بلدا عسكريا، معزولا، خاضعًا لسيطرة الجهات الأمنية، مستنزَف المواهب إذ هرب منه مئات الآلاف إلى الخارج فرارا من الخدمة في حرب مريعة، وضع قاتم.

وعلى أمل انتهاء هذا الواقع المقبض، ينتظر البعض في ترقب مغادرة فلاديمير بوتين للسلطة، غير أن تغير البلد لا يكفيه أن يغادر الرئيس بوتين أو أن يتنحى، فلا بد لقيادات روسيا المستقبلية أن تفكك وتحوِّل البنى التي أشرف عليها هو على مدار أكثر من عقدين، وأقل ما يمكن قوله في هذا التحدي هو أنه مريع، ولكن مجموعة من السياسيين تعمل على استنباط خطة لمواجهته.

تتألف المجموعة من شخصيات شهيرة في المعارضة فضلًا عن ممثلين شباب للحكومات المحلية والإقليمية، وقد اجتمعوا في المؤتمر الأول لنواب الشعب الروسي الذي عقد في بولندا في أوائل نوفمبر، كان الموقع، وهو قصر جابلونا خارج وارسو، موقعا رمزيا، فهو الموقع الذي شهد أولى مفاوضات محادثات المائدة المستديرة التي أدت إلى إنهاء الحكم الشيوعي في بولندا، وهناك، وعلى مدار ثلاثة أيام من الجدل المحتدم، وضع المشاركون مقترحات لإعادة بناء بلدهم، وهذه المقترحات ترقى في جملتها إلى جهد جاد لتخيل روسيا دون بوتين.

الأولوية الأولى الأكثر إلحاحا بطبيعة الحال هي حرب أوكرانيا، كان جميع حاضري المؤتمر معارضين للحرب التي يتوقعون إما أن تنتهي بالهزيمة أو بكارثة نووية، وللتعامل مع العواقب ومنعًا لتكرار المأساة، فإنهم يقترحون «قانونا من أجل السلام» من شأنه أن يعمل على تسريح الجيش وإنهاء احتلال الأراضي الأوكرانية، بما فيها القرم، وتكوين مجموعة مشتركة للتحقيق في جرائم الحرب ودفع التعويضات عن أضرار البنية الأساسية ولأسر الموتى، ورفض «حروب الغزو» المستقبلية، بالإضافة إلى اقتراح رادع للتوسعية في المستقبل، وهذا التعهد واسع النطاق من شأنه أن يوفر تدبرا جوهريا في تاريخ الغزو الإمبريالي الروسي.

سوف يتحتم استئصال المسؤولين الذين يتحملون مسؤولية الخراب، وهو أمر لم يحدث قط عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، وسوف يحظر المؤتمر من العمل في الدولة والمؤسسات التعليمية أولئك الذين كانوا ينتمون إلى منظمات «إجرامية» -من قبيل هيئة الأمن الفيدرالي أو قنوات التلفزيون الرسمي- أو الذين دعموا الحرب علنا، فضلًا عن تقييد أصواتهم الانتخابية. وسوف ينشئ أيضًا لجنة «القضاء على البوتنة» للنظر في إعادة تأهيل جماعات بعينها، ومنها أولئك الذين يتراجعون علنا أو الذين لم يرتكبوا جرائم جسيمة، كما سيقوم بفتح أراشيف الجهات الأمنية.

ومن بعد، هناك بنية روسيا نفسها. إن الاتحاد الفيدرالي الروسي شديد المركزية، تخضع فيه أكثر من 80 جمهورية ومنطقة خضوعا شديدًا للرئيس، بما يمكِّن من تراكم لسلطة هائلة. وقد اقترح المؤتمر -بناء على رؤى بالقضاء على المركزية ترجع إلى زمن الانهيار السوفييتي- لحل الاتحاد الفيدرالي الروسي وإحلال ديمقراطية برلمانية جديدة بدلا منه. وبحسب مسودة عامة الصياغة حول «تقرير المصير» يجب أن يكون «الانضمام» إلى الدولة الروسية في المستقبل «قائما على أساس الاختيار الحر من الشعوب التي تقيم فيها».

هذه القطيعة مع الماضي قد تصحح وعود الماضي. فللقادة الروس المحدثين، من فلاديمير لينين إلى بوريس يلتسين، تاريخ من اقتراح تفكيك المركزية للظفر بالدعم والتأييد ثم التراجع فور تعزيز السلطة. وبرغم أن جميع الرعايا الفيدراليين متساوون قانونا بموجب الدستور الروسي القائم، يبقى أن تفاوتات كبيرة لم تزل قامة، وهذه حقيقة أبرزها عدم تناسب التوزيع والوفيات بين الجنود المنتمين إلى الأقليات العرقية في الجمهوريات الأكثر فقرا مثل داغستان وبورياتيا في حرب أوكرانيا.

قد تؤدي إعادة النظر في مسألة السيادة الأكبر إلى انفصال جمهورية الشيشان على سبيل المثال عن روسيا بعد إخضاع الرئيس بوتين لها بقسوة، مع تمكين مناطق وجمهوريات لا توجد بها حركات انفصالية قوية من إعادة التفاوض بشأن تخصيص الموارد وتوازن القوى مع المركز، وسيؤدي هذا إلى أن يكون البلد أكثر إنصافا مع تقويض القومية الروسية.

أكبر غموض محيط بالمؤتمر هو ما يتعلق بخططه الاقتصادية. ثمة وعود بـ«قانون لمراجعة نتائج الخصخصة» التي تمت خلال عقد التسعينات من القرن الماضي (وأدت إلى صعود الأوليجاركية الروسية)، وثمة مساع إلى قانون بإلغاء إصلاح الرئيس بوتين سنة 2020 لنظام التقاعد، وهو إصلاح أثار رفضا شعبيا كبيرا، ولكن يغيب الالتزام بشبكة أمن اجتماعي قوية أو أي نقاش لتحويل اقتصاد روسيا بحيث لا يبقى معتمدا على صادرات الطاقة. وهذا سهو كبير. منذ تسعينات القرن الماضي، حينما تم البدء في الخصخصة والانتخابات الحرة بالتزامن، تداخلت الثروة والسلطة. فلا يمكن النظر إلى الإصلاح السياسي والاقتصادي بمعزل عن أحدهما الآخر.

وليست هذه هي العقدة الوحيدة. فالمنظِّم والراعي الأساسي للمؤتمر إيليا بونوماريف، رجل أعمال يساري يعمل في التكنولوجيا. وهو عضو البرلمان الروسي الوحيد الذي صوت ضد احتلال القرم سنة 2014، وقد رحل عن روسيا، وحصل على الجنسية الأوكرانية، ويدير حاليا قناة إخبارية باللغة الروسية في كييف. وهو شخص مثير للجدل في دوائر المعارضة، فقد أقرَّ في أغسطس اغتيال داريا دوجينا، ابنة أستاذ الفلسفة الأوراسي ألكسندر دوجين، وأكد أن الاغتيال من تنفيذ جيش حزبي سري يعمل داخل روسيا. وقد أثار هذا الزعم غير المؤكد غضب شخصيات زميلة له في المعارضة. وألغيت على إثره دعوة بونوماريف لحضور فعالية نظمهما معارضا الكرملين القديمان جاري كسباروف وميخائيل خودوركوفسكي.

برغم اختلافات المعارضة الروسية، فإن لها رؤية للمستقبل فضفاضة وجامعة. فخودوركوفسكي وأليكسي نفالني - أشهر المعارضين الروس القابع حاليا في مستعمرة عقاب - أصدرا نداءات لتحويل روسيا إلى ديمقراطية برلمانية مع نقل مزيد من السلطة إلى المستويات المحلية والإقليمية، لكن مساعدي نافالني لم يحضروا المؤتمر، ولا حضره كسباروف أو خودوركوفسكي. كما أن شرعية المؤتمر ـ التي طعنت فيها بالفعل بعض المنظمات الروسية المناهضة للحرب قائلة إن المؤتمر لا يمثلها ـ تعرضت لتشكيك بعض المشاركين، الذين غادر العديد منهم احتجاجا على ما رأوه غيابا للمساواة والشفافية في طريقة إدارته.

مثل هذا الشقاق لا يساعد المقترحات، التي قد تبدو بعيدة المنال. غير أن التاريخ يبين أن التطورات الراديكالية غالبا ما يتم تبنيها إما في الخارج أو تحت الأرض. ففي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، كان المهاجرون السياسيون المتشاحنون المقيمون في جاليات منتشرة في أوروبا هم الذين خططوا لإسقاط الإمبراطورية الروسية. وكان منهم فلاديمير لينين الذي كان يعيش في بولندا عند اندلاع الحرب العالمية الأولى.

في الوقت الراهن، ومع قسر أغلب شعب روسيا على الهدوء في ظل فقدان غيرهم لوظائفهم أو حريتهم بسبب تعبيرهم عن معارضتهم، فإن إمكانية تحويل البلد تبدو بعيدة المنال. ولكن قد يحدث التغيير في أبعد وقت يحتمل وقوعه فيه. ففي مطلع عام 1917، أعرب لينين المتشائم عن رثائه لأنه على الأرجح لن يعيش إلى أن يرى الثورة، وبعد أسابيع قليلة، أطيح بالقيصر.

ليس قدر روسيا، دون البلاد، أن تكرر الماضي. ولقد حان الوقت لأن تتخيل مستقبلها.

جوي نويماير - صحفية ومؤرخة لروسيا وأوروبا الشرقية

خدمة نيويورك تايمز ترجمة خاصة بجريدة $

أعمدة
No Image
شفافية :السياحة العربية البينية.. تطلعات وطموحات
أثارت جولة سياحية قادتني قبل أيام إلى الجهورية التونسية العديد من التساؤلات لديّ حول أهمية تعزيز السياحة العربية البينية، فالدول العربية تزخر بمجموعة لا حصر لها من المقومات السياحية، غير أنه من الملاحظ أن الكثير من السياح العرب يفضلون دولا أخرى خارج المنطقة العربية؛ في الوقت الذي نجد فيه الكثير...