مقتل الظواهري: قراءة مغايرة للرواية السائدة

06 أغسطس 2022
06 أغسطس 2022

من المعروف أن مسألة التنبؤ في العلوم السياسية هي من المسائل المعقدة والتي تنطوي باستمرار على احتمال الخطأ ولكن هذا لم يمنع الحكومات من المغامرة بالتنبؤ وفق قواعد علمية، إذ إن هذا التنبؤ هو القاعدة التي لا غنى عنها لأي "تخطيط سياسي" للمستقبل تحتاجه كل دولة إذا رغبت في الحفاظ على مصالحها الوطنية ومنع الإضرار الجسيم بها.

وأخاطر هنا بالتنبؤ بمسار تطور سياسي هو مقتل زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري في كابول مؤخرا رغم تداخل المتغيرات المؤثرة في هذا التطور بين متغيرات دولية وإقليمية وداخلية من جهة و تداخل عناصر الإيدلوجية ذات الطابع الأممي مع عناصر المصالح الوطنية من جهة أخرى.

ويزيد من حجم المخاطرة أنني أتنبأ -بتواضع- بتصور مغاير تماما للرواية السائدة.

فماذا تقول الرواية السائدة: إن قتل الظواهري سيؤدي إلى توتر حاد في العلاقات بين حركة طالبان الحاكمة في أفغانستان والولايات المتحدة، وربما إلى عودة العمل العسكري الأمريكي ضد أفغانستان بشكل دوري. لأنه من وجهة نظر طالبان أن واشنطن خرقت اتفاق الدوحة {الذي أعاد الحكم عمليا إلى طالبان} والذي يقضي بعدم انتهاك سيادة أفغانستان بعمل عسكري في أراضيها. ومن وجهة نظر واشنطن فإن طالبان خرقت اتفاق الدوحة الذي تعهدت فيه بعدم إيواء التنظيمات والعناصر الإرهابية ولقد قتل الصاروخ الأمريكي الظواهري في بيت يملكه أحد أهم وزراء حكومة طالبان ويقع في منطقة المقار الحكومية والدبلوماسية بالعاصمة الأفغانية.

يغامر هذا المقال أو على الأصح هذا "التمرين الذهني في العلاقات الدولية" بعدم تصديق هذه الرواية والاعتقاد أنها ليست سوى السردية المصدرة للعالم أما السردية الحقيقة فتكمن في حقيقة أن اتفاق الدوحة إنما أسس لأفغانستان جديدة ضمن التصور الاستراتيجي الكوني للولايات المتحدة التي نقل مركز اهتمامها إلى القارة الآسيوية في إطار الصراع بينها وبين الصين على النفوذ العالمي.

يقوم جزء من هذا التصور الأمريكي على أساس استبدال الهزيمة العسكرية في أفغانستان بنصر سياسي، وهي خبرة نجحت الولايات المتحدة في صنعها ببراعة فائقة عندما حولت هزيمتها المذلة في فيتنام ١٩٥٩-١٩٧٥.

وبعد عقدين من الزمن من انسحابها من فيتنام وبالتحديد في عهد كلينتون وما تلاه من إدارات جمهورية وديمقراطية إلى نصر سياسي كامل حولت فيه فيتنام إلى نموذج رأسمالي ناجح اقتصاديا، وإلى شبه حليف استراتيجي لدرجة أنه عندما تطورت الحرب الأوكرانية وسعت واشنطن لحشد كل دعم لموقفها تم وضع فيتنام مع سنغافورة والفلبين مع اليابان وتايوان وأستراليا باعتبارها مدماك النفوذ والتواجد الأمريكي في آسيا والباسيفيك.

وبعد عشرين عاما من الإخفاق العسكري الأمريكي الأطلسي في أفغانستان بدأت واشنطن في تجربة نقل الخبرة { الفيتنامية } في الاقتراب السياسي الناعم بدلا من القوة الخشنة وتحويل العدو إلى صديق، إن لم يكن حليفا إلى الساحة الأفغانية وكان اتفاق الدوحة هو النموذج التعاقدي لهذه الخبرة. بعبارة أخرى فإن طالبان التي أعادت واشنطن - طواعية - السلطة إليها بمقتضى هذا الاتفاق هي ليست طالبان المتحالفة مع القاعدة في جهاد عالمي ضد الأمريكان والصليبيين وإنما هي حكومة إسلامية وطنية عليها أن تقود بلدا ممزقا أمنيا وشعبا فقيرا واقتصادا منهارا إلى وضع أفضل يعطيها شرعية السلطة والإنجاز في مواجهة خصومها الإيدولوجية مثل داعش، أفغانستان، أو خصومها السياسيين المتجمعين في تنسيق يجمع بين حركة أحمد مسعود شاه وأعضاء الحكومات والقوات الأفغانية السابقة الفاشلة التي أنشأتها الولايات المتحدة بعد غزوها أفغانستان من حامد كرزاي إلى أشرف غني الذي فر خارج البلاد.

في السنوات التي حكمت فيها أمريكا أفغانستان عبر هذه الحكومات الدمى، جرى تمهيد الأرض لاستحضار الخبرة الفيتنامية نجحت واشنطن في ربط الاقتصاد الأفغاني بالاقتصاد الرأسمالي الدولي وجعلته معتمدا بشكل شبه تام على المعونات الغربية والدولية. أيضا وفي سنوات التفاوض الهادئ الطويلة في الدوحة بعيدا عن أعين الإعلام وضجيج فلاشات كاميرته بين الموفدين الأمريكيين وممثلي طالبان جرت عملية {إعادة تأهيل سياسي لكوادر طالبان القيادية في اتجاه التفكير الواقعي في نفسها كقوة أفغانية - وطنية مهتمة بشؤون بلدها وليس كحركة ذات امتداد دولي للجهاد العالمي ضد أمريكا والغرب.

في هذا السياق أصبحت الدوحة -التي دعمت استضافة طالبان بتوافق مع واشنطن - ضامنا لالتزام طالبان، ضمان لا يمكن معه تصور السردية التي تقول إن طالبان خرقت عمدا اتفاق الدوحة الذي يمنعها من إيواء منظمات وقيادات الإرهاب مثل القاعدة وداعش وأنها تحدت واستضافت الظواهري زعيم القاعدة في بيت تابع لأحد وزراء الحكومة مخاطرة قبل أقل من عام على وصولها للحكم بمستقبلها السياسي المزعزع أصلا بسبب الاقتصاد المنهار وتقدم نفوذ "داعش الأفغانية" عدوتها الإيدلوجية في أكثر من مكان في البلاد.

ما حدث هو سيناريو من اثنين: السيناريو الأول هو أن استضافة الظواهري تمت من جناح الوزير “حقاني” دون علم بقية قيادات ووزراء حكومة طالبان وأن هؤلاء عاقبوا حقاني بإبلاغ الأمريكيين، إما مباشرة أو عبر الضامن بمكان الظواهري لغسل أيديهم وإثبات التزام الحركة ببنود اتفاق الدوحة أساس شرعيتهم الداخلية القائمة وشرعيتهم الدولية التي يسعون إليها وإلى اعتراف تام بهم من حكومات العالم الأخرى.

والسيناريو الثاني أن استضافة الظواهري آخر زعيم في الجيل المؤسس للقاعدة، وهو جيل كان بينه وبين زعماء الحركة الروحيين عهدا بالولاء والحماية كانت استدراجا وعملا مخططا من الحكومة الطالبانية كلها منذ البداية. إذ إن اختفاء الظواهري من المسرح يعطي الفرصة لطالبان لإنهاء الالتزام التاريخي الذي جرى بين الملا عمر وأسامة بن لادن بتأثير الظواهري الإيدلوجي الفائق على كليهما وهو الالتزام بإيواء الحركة لقيادات وكوادر القاعدة وتوفير ملاذ آمن لهم في أفغانستان. الالتزام الذي جعلها ترفض تسليم بن لادن ورجاله إلى الولايات المتحدة بعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر، فقاد إلى الاحتلال الأمريكي لأفغانستان لمدة عقدين من الزمن وانتهى بالانسحاب قبل أقل من عام واحد فقط.

نظرة واحدة على المكاسب التي ستحققها الحركة سواء كان دورها مجرد الإبلاغ عن خرق قام به أحد وزرائها أو كان دورها الترتيب للأمر كله في مسألة إبعاد الظواهري من المشهد الجهادي العالمي يدعم التنبؤ بأن العلاقات الأمريكية - الطالبانية لن تشهد توترا حقيقيا أو خطيرا وأن اتفاق الدوحة لن ينهار وأنه سيصمد وسيستمر: طالبان بوسعها الأمل بعد هذه الخدمة العظيمة { قتل الظواهري } التي استغلتها الإدارة الأمريكية الحالية الضعيفة داخليا في رفع مستوى شعبيتها المنخفض.. أقوي استغلال، إعلاميا وسياسيا في أن تحصل على اعتراف دولي بها وانتهاء حالة نبذها من المجتمع الدولي بكل ما يعنيه ذلك من تثبيت وضعها داخليا أمام خصومها الأفغان أو بكل ما يعنيه ذلك من عودة تدفق المعونات الخارجية التي هي شرايين اقتصاد محلي يشرف على السقوط.

أهمية المعونات لا تعود فقط إلى النجاح الأمريكي الهيكلي في جعل اقتصاد أفغانستان معتمدا على الخارج وعلى هذه المساعدات ولكن أيضا لحالة الجفاف الخطير الذي أصاب البلاد وقطاعها الزراعي ومصدر ثروتها الأساسي وتكاليف مواجهة داعش وباقي المتمردين على حكومة طالبان لاستعادة شعبية تنال من شرعية حكومة طالبان مع تقديرات اقتصادية غربية تقول إن ٧٠٪ من الأسر الأفغانية أصبحت عاجزة عن تأمين غذائها في الوقت الراهن.

طالبان الجديدة قد تظل على الأرجح حركة متشددة إيدولوجيا في الداخل ولكنها لن تكون جزءا من جهاد عالمي ضد أمريكا والغرب، ومقتل الظواهري هو رسالة إلى خليفته الجديد سواء كان من يسمي حركيا سيف العدل وغيره بأن طالبان لا تحتاج بيعته للملا آخوند كأمير للمؤمنين ولن تعطيه بالتالي حماية أو ملاذا آمنا مقابل هذه البيعة. وحتى إذا لعبت طالبان دورا خارج حدودها فسيكون بموافقة الولايات المتحدة وربما كان موجها ساعتها لروسيا أو الصين القريبتين جغرافيا من أفغانستان والغريمتين العالميتين المنافستين للهيمنة الأمريكية على العالم. مؤشران يحكمان على صحة هذا التحليل ولكن على المدى المتوسط والطويل هما صمود اتفاق الدوحة وإنجاز بنده المعطل باعتراف أمريكا وحلفائها بطالبان حكومة شرعية وحيدة لأفغانستان وتسليم ممثلها مقعد كابول في الأمم المتحدة بما يستتبعه ذلك من عودة مليارات المعونة السخية التي كانت تغدقها واشنطن على حكومات أفغانستان سابقا.