الثقة مكمن الأمن البشري

06 أغسطس 2022
06 أغسطس 2022

أصدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في نيويورك، تقريرا خاصا بالتنمية البشرية 2022 بعنوان (تهديدات جديدة للأمن البشري في الأنثروبوسين تتطلب تضامنا أكبر. نظرة عامة)؛ حيث يبدأ باستعراض تأثيرات جائحة كوفيد 19 وخطرها على مؤشرات التنمية البشرية، فحتى مع توفر اللقاحات في العام 2021، والانتعاش الاقتصادي الذي بدأ في العديد من الدول، والعودة إلى المدارس والجامعات، فإن الأزمة الصحية (تعمَّقت) بـ "انخفاض متوسط العمر المتوقع بعد حوالي خمس سنوات من التقدم" – حسب ما جاء فيه -.

يحدثنا التقرير عن تلك الخسائر التي واجهها العالم خلال السنوات القليلة الماضية، وما زال يواجهها في خضم انشغال الدول بالتخفيف من آثار الجائحة، والاقتصادية منها بشكل خاص، وتقليل الاهتمام بالتنمية البشرية، وما تواجهه البيئة من تحديات قد تُشكِّل عقبة تنموية كبرى في المستقبل تهدد الطبيعة، والأمن الغذائي، وتُنتج تهديدات صحية جديدة، إضافة إلى الكوارث المتكررة. ولهذا فإن التقرير يلفت الانتباه إلى أهمية إدراك أن أنماط التنمية في هذا العام وما بعده (تجبرنا) إلى "إعادة النظر في مفهوم الأمن البشري وفهم ما يعنيه في عصر الأنثروبوسين" – على حد تعبيره -، وعلى ذلك فإن التقرير يعتمد على متغيرات حقبة (الأنثروبوسين) التي تكشف (التأثير البشري الكبير على جيولوجيا الأرض والنظم)، لتحديد تداعياتها على (الجيل الجديد) ، إذ تُشكِّل تهديدات متفاعلة ومستمرة في ظل الأزمات الصحية والبيئية المختلفة وتأثيرها على المستوى الاجتماعي والثقافي خاصة، وأثرها على الأمن البشري، وما يجب علينا فعله للتخفيف من آثارها.

لقد استعرض تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي مفهوم الأمن البشري، وكيف يساعد في تحديد (النقاط العمياء) – على حد تعبيره - ، إذا ما تم تقييم التنمية عن طريق (قياس الإنجازات في الرفاهية)، كما يقترح مجموعة من الطرق لإثراء إطار الأمن البشري لمراعاة (التحديات غير المسبوقة في سياق الأنثروبوسين)، كما يناقش أربعة تهديدات للأمن البشري تفرضها المرحلة، وهي الآثار المستقبلية للتكنولوجيا الرقمية، والصراعات العنيفة، وعدم المساواة، والتحديات المتطورة لأنظمة الرعاية الصحية. وهي تهديدات تؤثر مباشرة على مسارات التنمية البشرية من ناحية، وقدرة الدول على قياس مؤشرات هذه التنمية ورفاه المجتمع من ناحية أخرى.

يعتبر التقرير (كوفيد 19) أحد مظاهر (سياق الأنثروبوسين)، وأن هناك مظاهر أخرى بدأت بالتشكُّل بالفعل وفق معطيات متفاوتة في العالم، منها؛ (الجوع) الذي بدأ يزداد حيث وصل إلى "حوالي 800 مليون شخص في عام 2020، ويعاني حوالي 2.4 مليار شخص الآن من انعدام الأمن الغذائي"، وكذلك (استمرار تغير المناخ)، الذي يؤثر مباشرة على (الجوهر الحيوي للناس)؛ حيث يكشف التقرير أنه مع سياسات التخفيف من معدلات الحرارة التي تتخذها دول العالم فإنه "يمكن أن يموت حوالي 40 مليون شخص في جميع أنحاء العالم، معظمهم في البلدان النامية، نتيجة ارتفاع درجات الحرارة من الآن وحتى نهاية القرن".

إضافة إلى ذلك فإن من مظاهر سياق الأنثروبوسين أيضا ما يشهده العالم من نزوح قسري في العقد الماضي، وما زال مستمرا بسبب التغيرات المناخية، أو الصراعات الجيوسياسية. وعلى الرغم من تأثيرات التطورات التكنولوجية وأهميتها في مواجهة العديد من التحديات، إلاَّ أن تسريع التوسع الرقمي يجب أن لا يعمِّق التحديات الاجتماعية الأخرى مثل (عدم المساواة)، و(الصراع العنيف)، الذي يؤثر مباشرة على التنمية البشرية، وقدرة المجتمعات على ترسيخ الأمن البشري؛ فالعالم اليوم يعاني فجوة كبيرة في أنظمة الرعاية الصحية ومؤشرات التنمية بين تلك الدول ذات مؤشر التنمية المرتفع جدا مقابل الدول ذات مؤشر التنمية المنخفض، وبالتالي قدرة الأخيرة على مواجهة التحديات الصحية والاجتماعية والاقتصادية، وقدرتها على تأمين (الأمن البشري) لأفراد مجتمعها.

ولهذا فإن التقرير يقترح استراتيجيات ثلاث تشمل (الحماية والتمكين والتضامن والعمل معا)، باعتبارها أسسا تُعزِّز الأمن البشري في عصر الأنثروبوسين، وتمكِّن من "القدرة على الاحتفاظ بالقيم، والقيام بالالتزامات"- حسب تعبيره -، ولهذا فإن معيار (الرفاهية) ليس كل ما يجب أن نضعه في الاعتبار عند (تقييم السياسات)، أو (تقييم التقدم)؛ فهناك عناصر أساسية يجب النظر إليها باعتبارها مؤثرات مباشرة على الأمن البشري كـ (الثقة)، التي يجب أن تكون أحد الأسس التي يقوم عليها التقييم بصرف النظر عن المستوى الاقتصادي للفرد أو المجتمع ، ذلك لأن مدى ثقة الأفراد بمنظومة الحماية والتمكين والتضامن ستُسهِم إما في تعزيز هذه المنظومة أو عرقلتها، الأمر الذي يعني أن مستوى ثقة الأفراد بالمجتمع عموما (حكومة ومؤسسات، وقطاعات...)، ومدى ثقة المجتمع بأفراده سيؤسس لمستوى مرتفع من (الأمن البشري).

ولأن (الأمن البشري ضرورة دائمة وعالمية) بتعبير تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، فإنه قائم على فكرة (التضامن)، ويسير وفق قاعدة (الأمن من خلال عيون البشرية)؛ أي بمتابعة أفراد المجتمع ومشاركتهم في اتخاذ القرارات، ومناقشتهم في النتائج، فإنه بقدر فهمنا لأهمية (الثقة) في ترسيخ الأمن البشري، بقدر استطاعتنا المساهمة في بناء وطننا، ذلك لأن مفهوم الثقة قائم على التبادل الصادق الذي يضمن حقوق الفرد والمجتمع، وهو تبادل يقابل العطاء والمساهمة في البناء، وبالتالي (المواطنة الحقة) التي تُقدم وتُشارك في الفعل التنموي دون تشكيك في الغايات الوطنية. ولهذا فإن فكرة (الثقة) وتعميق فهمها، تُعد أحد أهم عوامل (الأمن البشري) التي ستفضي إلى تحقيق مؤشرات عالية في التنمية البشرية.

ولعل أهمية (الثقة)، وقدرتنا على فهمها وترسيخها باعتبارها أساسا، يزداد أهمية اليوم مع الانفتاح الرقمي في العالم، حيث أصبحت التبادلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية مع شركاء غير معروفين، وبالتالي فإن قيمة الثقة أخذت معايير مختلفة، وأصبحت (مصدر قلق)، بسبب تلك الاحتيالات الإلكترونية المتنوعة، لذا فإن علينا أن نفرِّق ضمن مفهوم (الثقة) بين نوعية الشركاء وأهدافهم، وبناء عليه يمكننا تحديد بيئة التعاون المُثلى التي تتيح لنا (أمنا بشريا) عاليا. ولهذا فإن ثقتنا في مجتمعنا عليها أن تكون أساسا جوهريا في التنمية البشرية، فهي جوهر البناء التنموي لتحقيق أهداف الوطن، التي هي في الأصل أهدافنا جميعا.

إن تلك المخاوف وذلك القلق الذي يستعرضه تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ناتج عن استشرافات علمية وواقعية نعيشها جميعا، خاصة خلال السنوات الثلاث الماضية التي كشفت عن ضعف الاستعداد لمواجهة الأزمات على مستوى العالم، وعدم كفاية السياسات الصحية والبيئية للتخفيف من التداعيات. ولأننا جزء من هذا العالم فإن علينا أن نقِّدر أهمية (الأمن البشري) وتنمية كفاياته من أجل تمكين قدرة أفراد المجتمع على العطاء والبناء، والمساهمة الفاعلة في تحقيق الأهداف الوطنية للمجتمع، فتمكين مفهوم (الثقة) من بين أهم تلك الكفايات التي علينا جميعا مؤسسات وأفرادا العمل على تأصيلها فيما بيننا، وتقديم كل ما من شأنه أن يُرسِّخ هذا المفهوم، ويقدمه باعتباره أساسا في التنمية البشرية عموما والأمن البشري خصوصا.

إن الثقة ليست شعارا بقدر ما تكون (فعلا تنمويا)، يتأسس على (التضامن) من أجل المصلحة العليا وهي مصلحة الوطن، فكلنا نعمل من أجل تحقيق الأهداف الوطنية التي تعهدنا بتحقيقها، ولهذا فإن أمننا البشري على المستوى الشخصي ينطلق من قدرتنا على فهم تلك الأهداف والعمل مع الأطراف المعنية من أجل تحقيقها. والحال أن ذلك لا يتحقق من جهة ثانية إلاَّ إذا كانت الأطراف جميعها على قدر من المسؤولية في إعداد السياسات والاستراتيجيات التي تحمي هذا الأمن البشري، وتمكِّنه من التطلع نحو التضامن والترابط والشراكة والالتزام بالعمل التنموي.